تصدير: " كل شيء يصلح للكاتب" (الكاتب الكولمبي غابريال غارسيا ماركيز)
ثمة إجماع كوني الآن بأن فنّ الرواية هو خلاصة كل الفنون وسقف الخيال البشري وتتويج لدروب عديدة وغريبة يقطعها الكاتب طيلة حياته، درعه الوحيد في ذلك والذي يواجه به رهبة الكتابة هو "نبوءة الكاتب" والتي نسميها أحيانًا أخرى الهواية أو الرغبة الطبيعية المطلقة في الكتابة والتسريد، أو الخيال باعتباره أداة لتفكيك الواقع وإعادة تركيبه على نحو مغاير، هذا بالإضافة إلى بعض الضرورات الكيانية اللازمة بالنسبة للكاتب مثل مجموعة القيم التي تقوم على مبدأي الحرية والتمرد والإيمان بالأفكار الكونية الكبرى وجوهرها الخلاص والثورة على السائد والقبيح.
قديمًا كان كاتب الرواية والقصة يواجه مصيره في الكتابة منفردًا، لا يستشير أحدًا في المسائل الفنية المتعلقة بالكتابة الإبداعية وكان يعتبر ذلك ضربًا من "المأساة" الخاصة لا يشاركه فيها أحد
ويعد فن الرواية، ذاك الفن الأسمى الذي خلصت إليه البشرية بعد كل تلك الرحلات الجمالية المضنية هو دوزنة خاصة وحرّة يقوم بها الكاتب الفرد أثناء اشتباكه مع اللغة والحياة معًا وما يواجهه في الأثناء من محن معياره في ذلك الإبداع وتجاوز السائد.
قديمًا كان كاتب الرواية والقصة يواجه مصيره في الكتابة منفردًا، لا يستشير أحدًا في المسائل الفنية المتعلقة بالكتابة الإبداعية وكان يعتبر ذلك ضربًا من "المأساة" الخاصة لا يشاركه فيها أحد، ويدفع بعمله الروائي أو القصصي مباشرةً إلى المطبعة ومن ثمة إلى المكتبات ليكون بين يدي القارئ للإمتاع والمؤانسة والحث على التفكير واستخلاص العبر، لكن ومع ترسّخ فنون الكتابة السردية في العالم في العقود الزمنية الأخيرة ذهبت دور النشر في كل بلدان العالم إلى بعث لجان فنية للقراءة ومرافقة النص أثناء البناء، وأيضًا استحداث ورشات للتدريب والتكوين منها ما هو مجاني ومنها ما هو بمقابل.
مع ترسّخ فنون الكتابة السردية في العالم في العقود الزمنية الأخيرة ذهبت دور النشر في كل بلدان العالم إلى بعث لجان فنية للقراءة ومرافقة النص أثناء البناء، وأيضًا استحداث ورشات للتدريب والتكوين
كما ذهب بعض الكتّاب والروائيين إلى بعث ورشات خاصة بهم يناقشون فيها أعمالاً جاهزةً، وتحول الأمر إلى تقليد أدبي بل إلى مهنة ثقافية لها صناعها وزبائنها وأثمرت في العديد من المجتمعات كتابًا أغنوا مكتبات بلدانهم ومكتبة العالم.
وإلى وقت قريب كانت تونس غير معنية بذلك، حيث أن الكتّاب التونسيين سواء المحترفين منهم أو الهواة لا يغامرون في اتجاه إخضاع قدراتهم الإبداعية في الكتابة إلى التدريب والتكوين عدا التجربة الشاملة التي قام بها الروائي كمال الرّياحي والتي اعتبرت فتحًا في مجال التدريب على الكتابة الإبداعية والفنية بشكل عام وعرفت أوجها في سنوات الكوفيد، لكن خلال الآونة الأخيرة انتشر التدريب على الكتابة الإبداعية بشكل لافت في تونس وأصبحت هناك فضاءات للتدريب ومدربون من الكتاب والروائيين وأصبح هناك من يبحث عن هذه الفضاءات الخاصة بالتدريب عله يظفر بصفة الروائي أو الكاتب بعد أن ينشر عمله الأول.
"الترا تونس" سلط إضاءة خاصة على أهم ورشتين لتدريب الروائيين وكتاب القصة وجداتا في تونس في الآونة الأخيرة في التقرير التالي.
خلال الآونة الأخيرة انتشر التدريب على الكتابة الإبداعية بشكل لافت في تونس وأصبحت هناك فضاءات للتدريب ومدربون من الكتاب والروائيين وأصبح هناك من يبحث عن هذه الفضاءات عله يظفر بصفة الروائي أو الكاتب بعد أن ينشر عمله الأول
-
ورشة الكاتب الروائي والشاعر نصر سامي: ورشات في مدن منسية تتوج بإصدارات جماعية وأخرى فردية
انطلقت ورشة الكاتب الروائي والشاعر نصر سامي في تونس منذ نحو سنتين وهي متنقلة في المكان وليس لها مستقر، إذ يجوب الكاتب قرى ومدن الداخل التونسي ويلتقي الكتاب المبتدئين وهم عادة ما يكونوا نخبًا في جهتهم ويقضي معهم أيامًا طويلة مليئة بحصص التدريب والتكوين في فن كتابة القصة القصيرة وتتوج الورشة بنشر كتاب جماعي.
التقينا الكاتب نصر سامي الذي أوضح لـ "الترا تونس" أن تجربته في التكوين انطلقت منذ سنة 2017 في مدينة صلالة بسلطنة عمان، حيث كان يقيم، وذلك بعد تبينه أن المشهد الثقافي العماني محتاج إلى هذا النوع من الشغل الأدبي، فأنشأ ورشة كبرى تساعد الكتاب العمانيين على تملك أدوات السرد وانظمّ إليها العشرات من الكتاب الهواة من الإناث والذكور، فكانت هناك اجتماعات أسبوعية مع أعضاء الورشة توجت مع نهاية الموسم بكتابين جماعيين، الأول للكبار والثاني لليافعين يضم الأعمال القصصية التي أنتجت داخل الورشة.
الكاتب الروائي نصر سامي لـ "الترا تونس": تجربة التدريب في عمان تطورت مع تتالي المواسم وأثمرت إلى حد الآن 28 كتابًا ورقيًا وهي تجربة فريدة من نوعها وغير مسبوقة في العالم العربي
وأضاف أن تجربة التدريب في عمان تطورت مع تتالي المواسم وأثمرت إلى حد الآن 28 كتابًا ورقيًا وهي تجربة فريدة من نوعها وغير مسبوقة في العالم العربي لا من طرف مؤسسات ولا من طرف أفراد.
وأشار الكاتب المدرّب نصر سامي أنه لما قرر العودة إلى تونس خلال سنة 2021 أراد لتجربة الورشات أن تستمر وتتواصل، فتخير له طريقة خاصة به وهي أن يتوجه إلى المواهب المغمورة والمنسية في الداخل التونسي وفي القرى والمدن البعيدة عن الأضواء وأن تكون الورشات مجانية، فنظم إلى حد اليوم سلسلة من الورشات.
الكاتب الروائي نصر سامي لـ "الترا تونس": قررت العودة إلى تونس خلال سنة 2021 وأردت لتجربة الورشات أن تتواصل، من خلال التوجه إلى المواهب المغمورة والمنسية في الداخل التونسي وفي القرى والمدن البعيدة عن الأضواء
ووفق حديثه لـ "الترا تونس"، فإن هذه الورشات شملت ورشة مدينة منزل تميم من ولاية نابل والتي شهدت موسمين متتاليين وأصدرت مؤلفين اثنين، وورشة ببنزرت التي ضمت كتابًا من قرى الولاية وتوجت هي الأخرى بإصدار جماعي وحيد، أما ورشة مدينة جبنيانة من ولاية صفاقس والتي تميزت بالإقبال الكبير من طرف الشباب فأثمرت ثلاث كتب جماعية منهم كتاب خاص بمجموعة من الشباب، وورشة مدينة قليبية من ولاية نابل وورشة مدينة السرس من ولاية الكاف وهي ورشة مهمة بالنظر لحجم المشاركين والاختصاصات التي وفدوا منها وبالإضافة إلى الكتاب الجماعي أثمرت ورشة السرس كتابًا شخصيًا لإحدى المشاركات.
وأكد نصر سامي أن دعوات عديدة وجهت إليه من قبل كتّاب يقيمون بالجهات وجمعيات ثقافية من أجل بعث ورشات في مدنهم وقراهم، وقد اعتبر ذلك علامةً صحية تشي بأن المواهب الأدبية تنبت كالأزهار ولا بد من العناية بها حتى تنمو.
الكاتب الروائي نصر سامي لـ "الترا تونس": أستغرب تجاهل الكتاب التونسيين المعروفين لهذه الورشات وغيابهم عن التدريب في حين أن الكتاب في العالم يخضعون أنفسهم للتكوين في مسائل جوهرية تهم الكتابة السردية
واستغرب الكاتب نصر سامي تجاهل الكتاب التونسيين المعروفين لهذه الورشات وغيابهم عن التدريب وأهمية دورها المضيف، موضحًا أن الكتاب في العالم يخضعون أنفسهم للتكوين في مسائل جوهرية تهم الكتابة السردية كإيجاد حلول لمشكلة الراوي أو وظيفية المكان أو جزئية بعينها تتعلق بالأنا في السرد، أو إيجاد حلول لموضوع البنية القصصية أو التفرقة بين أنا الكاتب وأنا الراوي وذلك، حتى يجنبون الكتاب الجدد العديد من المآزق الفنية التي تهم الكتابة السردية.
وأشار محدثنا إلى أن المندوبية الجهوية للثقافة بمدينة صفاقس اتصلت به واتفقت معه بشأن تنظيم ورشة لعشرين شابًا موهوبًا وذلك خلال الصائفة الحالية وهي أول بادرة رسمية في تونس للتدريب في مجال الكتابة السردية.
الكاتب الروائي نصر سامي لـ "الترا تونس": المبدع يحتاج دائمًا إلى التدريب والتكوين من قبل من سبقوه في التجربة وممن راكموا مهارات قرائية وكتابية يمكن تمريرها لغيرهم من الموهوبين
وختم الكاتب التونسي نصر سامي بأن المبدع يحتاج دائمًا إلى التدريب والتكوين من قبل من سبقوه في التجربة وممن راكموا مهارات قرائية وكتابية يمكن تمريرها لغيرهم من الموهوبين، مشيرًا إلى أن ذلك لا بد أن يتحول إلى سياسة واضحة تنهض بها الدولة دون غيرها بما أنها تملك الفضاءات والإمكانيات، وفي ذلك فوائد عديدة للمشهد الإبداعي التونسي، وفقه.
-
ورشة الروائي محمد عيسى المؤدب: لا بد من التدرب على كتابة الفصل الأول من الرواية
تحدث الروائي التونسي محمد عيسى المؤدب لـ "الترا تونس" عن أهمية التكوين في مجال الكتابة الإبداعية، موضحًا أنه يشمل بعض المسائل الفنية ويزود علبة أدوات الروائي أو القاص ببعض المهارات التي تهم بنية القص ولعبة الأزمنة وتداخل الأجناس، ولا يتدخل في ما جادت به قريحة الكاتب وكل عملية التخييل وحرية الكاتب في تخير لغته وشخصياته.
الروائي التونسي محمد عيسى المؤدب لـ "الترا تونس": التكوين في مجال الكتابة الإبداعية يشمل بعض المسائل الفنية ويزود علبة أدوات الروائي أو القاص ببعض المهارات التي تهم بنية القص ولعبة الأزمنة
وأضاف المؤدب أنه شرع في التدريب منذ سنة تقريبًا وذلك بتنظيمه ورشة أسبوعية بمقر بيت الرواية، أطلق عليها اسم ورشة البشير خريف وقد كانت بطلب من عديد الكتاب الهواة وقد خصص كامل الموسم المنقضي الذي امتد من شهر أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى نهاية شهر ماي/أيار 2024، لموضوع الفصل الأول من الرواية لأهمية هذا الفصل بالنسبة لكاتب الرواية، باعتباره المدخل الأساسي المؤدي للقارئ، لكن ذلك كان مسنودًا بجانب نظري يهم فن الرواية وعلاقة الفصل الأول من الرواية ببقية الفصول.
وأشار الروائي محمد عيسى المؤدب إلى ثماني أفراد من جملة حوالي عشرين مشاركًا في الورشة لا يعرفون شيئًا عن الرواية وفنون كتابتها، مضيفًا أنهم بعد عملية التدريب الأسبوعي توصلوا إلى كتابة فصل أول يتوفر على شروط دنيا لكتابة الرواية كالاستهلال وحضور الشخصية الرئيسية وعلاقتها ببقية الشخصيات والتبشير بالحدث المركزي الذي سيمتد طيلة الرواية.
ودعا الكاتب التونسي محمد عيسى المؤدب إلى الإكثار من هذه الورشات "حتى تعم المعرفة ونتفادى روايات رديئة لا نجد لها قرّاء".
شرع الروائي التونسي محمد عيسى المؤدب في التدريب منذ سنة تقريبًا وذلك بتنظيمه ورشة أسبوعية بمقر بيت الرواية، أطلق عليها اسم ورشة البشير خريف وكانت بطلب من عديد الكتاب الهواة
-
المنتفعون من الورشات: اكتشفنا الذات الكاتبة الكامنة فينا ولا نعلم بوجودها
وصف زبير الرزقي وهو أستاذ لمادة الفلسفة بمعهد السرس ومشارك في ورشة نصر سامي التي انتظمت بمدينة السرس من ولاية الكاف سنة 2022 وتوجت بعمل جماعي عنوانه "عتبة مباركة"، تجربته تلك لـ "الترا تونس" بأنها "أخرجته من الروتين اليومي الذي يعيشه بمدينته الصغيرة وجعلته يكتشف الذات الكاتبة التي تسكنه ولم يكن يدرك ذلك".
وأشار الأستاذ زبير الرزقي إلى أنه استفاد من التدريب الذي أمّنه الشاعر والكاتب نصر سامي الذي كان يناديه "تشي غيفارا الأدب" لأنه يتنقل صيفًا إلى القرى من أجل تكوين الهواة ونشر جملة من المعارف والتقنيات التي تهم الكتابة السردية.
الأستاذ زبير الرزقي لـ "الترا تونس": تجربة التكوين على الكتابة الإبداعية جعلتني أكتشف الذات الكاتبة التي تسكنني ولم أكن أدرك ذلك، وأستعد الآن لنشر مجموعتي القصصية الأولى
وأكد أستاذ الفلسفة أنه يستعد الآن لنشر مجموعته القصصية الأولى وبات يخصص حصة للكتابة والقراءة في جدوله اليومي، كما أصبح ينظر إلى العالم بعين الكاتب وهي عين شاملة جامعة للفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع، بمعنى تحويل كل شيء إلى قصص جاذبة وممتعة.
أما دلندة الزغيدي وهي أستاذة أنقليزية وتقيم في سلطنة عمان وكانت لها مشاركات في ورشات نصر سامي عندما كان مقيمًا في صلالة وأيضًا مشاركة في ورشة مدينة جبنيانة فقد أوضحت من خلال حديثها لـ "الترا تونس" أن "الكاتب لا يولد كاتبًا بل لابد من قطع دروب شاقة حتى يصبح كاتبًا، فالموهبة والاستعداد الفطري لا يكفي إذ يجب التفاني في القراءة والكتابة وحضور اللقاءات والندوات والاقتراب من أصحاب التجربة ثم التحلي بالشجاعة لمواجهة بياض الأوراق".
الأستاذة دلندة الزغيدي لـ "الترا تونس": الكاتب لا يولد كاتبًا بل لابد من قطع دروب شاقة حتى يصبح كاتبًا، إذ يجب التفاني في القراءة والكتابة وحضور اللقاءات والندوات والتحلي بالشجاعة لمواجهة بياض الأوراق
ولخصت الأستاذة دلندة الزغيدي أهمية حضور الكاتب لورشات التدريب في جملة من النقاط وهي "الدور التأطيري سواء للكبار أو بالنسبة لليافعين والصغار والمساعدة على التفطن للمواهب الكامنة، والحث على التفكير والنقاش مع المدرب أو المتدربين، إضافة إلى العودة إلى عوالم الأدب والمعارف الأدبية التي كادت تنسى جراء انشغالات العمل الذي لا يمت للأدب والكتابة بصلة، وتنمية الحس النقدي لأن المتدرب يقرأ إنتاجه أمام فريق التدريب فيتعرض للنقد كما يشارك في نقد أعمال الآخرين".
وأثنت الزغيدي على تجربة ورشة مدينة جبنيانة التي خصصها الكاتب الروائي نصر سامي لليافعين وكانت مساعدة له في التدريب، فمن خلالها اكتشفت مواهب عديدة ما كان لها لتبرز لولا هذه الورشة.
وتبقى هذه الورشات فضاء ثقافيًا وأدبيًا على درجة من الأهمية يمنح الهواة والمتدربين على الكتابة القصصية والروائية المهارات اللازمة والمعارف المطلوبة للكتابة لكنها لا تصنع كتّابًا أو روائيين.