01-يناير-2020

لا يزال الملف الليبي رهين التجاذب السياسي بين الأحزاب التونسية (محمود تركية/أ.ف.ب)

 

"ليبيا ليست قضية حدودية ولا قضيّة جوار، ليبيا شأنٌ داخلي تونسي"، هذه الجملة كثيرة الدوران في خطاب الأحزاب السياسية في تونس، وغدت مشتركًا جامعًا بين الفاعلين في الدولة والمجتمع. ولكنّ حجم الخلاف بين مكوّنات المشهد السياسي التونسي سرعان ما يطوي هذه الجملة مع أوّل تطوّر يعرفه المشهد اللّيبي، ويتحوّل المشترك إلى تعارض في المواقف يضاعف من حدّة التجاذب الذي صار خصيصة الانتقال الديمقراطي ومن أهمّ معوقاته. وأخطر ما يكون التجاذب حين يتعلّق بقضايا استراتيجيّة كالإرهاب وتحوّلات السياسة في الجوار غربًا وجنوبًا.

مثّلت التطوّرات الأخيرة في الحرب على طرابلس مجالًا لتبيّن الخلافات العميقة داخل المشهد السياسي في تونس

ولقد مثّلت التطوّرات الأخيرة في الحرب على طرابلس مجالًا لتبيّن الخلافات العميقة داخل المشهد السياسي في تونس حيث تعرف البلاد ارتباكًا سياسيًا عبّر عنه التعثّر في تشكيل الحكومة وما شهده البرلمان من جديد من "تنافس" بين رأسي السلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة في رئاسة الجمهوريّة والبرلمان بدل التعاون على بناء سياسات واضحة وديبلوماسيّة فاعلة في سياق إقليمي متقلّب.

اقرأ/ي أيضًا: السياسة التونسية تجاه ليبيا تحت مجهر البحث والدراسة

تطورات المشهد الليبي

تونس معنيّة بما يحدث في ليبيا أكثر من غيرها، قبل ثورة فبراير وبعدها. فمع اندلاع هذه الثورة وأطوارها، عرفت تونس تدفّقا للنازحين عظيمًا من ليبيا فاق الأربعة ملايين نازحًا. ورغم ما أظهرته الديبلوماسيّة التونسيّة في ظاهر خطابها من حياد تجاه المواجهة بين نظام القذّافي وثوّار 17 فبراير، فإنّ حقيقة الموقف كان انحيازًا إلى الثورة وظهر ذلك في معادلة أقامها الباجي قايد السبسي بين السياق الثوري في تونس، وهو في عنفوانه، وبين موقف "الناتو" في قراره بالتخلّص من نظام القذّافي منتهي الصلوحيّة بمنظور المصالح الغربيّة.

فكان الجنوب الشرقي من تونس معبرًا للسلاح التركي بتمويل خليجي، والذين يقفون اليوم موقف الرافض لزيارة أردوغان ويحملون على موقف الرئيس قيس سعيّد ويرون فيه إذعانًا للسياسة التركيّة كانوا بالأمس مع السياسة نفسها حين كانت بقيادة الباجي.

تمثّل اتّفاقيّة ترسيم الحدود البحريّة بين تركيا وحكومة الوفاق تحوّلاً في محاور الصراع، وردّ فعل على ما صار يلقاه حفتر من دعم بواسطة مجاميع مقاتلة من الجنجويد ومرتزقة "فاغنر" الروسيّة وجماعات تشاديّة

قبل أيّام قليلة من انعقاد مؤتمر الحوار الوطني بغدامس برعاية أمميّة، عمد اللواء المتقاعد خليفة حفتر إلى شنّ هجوم على مدينة طرابلس لينسف كلّ جهود المصالحة والوصول إلى حلّ سياسي للخروج من الاحتراب الأهلي. وتتالت بيانات حفتر التي يعلن فيها اقتحام مدينة طرابلس وتحريرها من "المليشيات والإرهابيين"، وفي ذلك رفض لحكومة الوفاق المعترف بها دوليًا المنبثقة عن اتفاق مدينة الصخيرات بالمغرب الأقصى في 17 ديسمبر/كانون الأوّل 2015 والممضى يوم 6 أفريل/نيسان 2016 من قبل ممثلين عن المؤتمر الوطني العام ومجلس النواب الليبي، في محاولة لرأب الانقسام الذي جعل ليبيا بحكومتين ومجلسيْ نواب.

ولم يكن حفتر في أوّل الأمر جهةً سياسيّةً عند المجتمع الدولي، ولكنّ داعميه من المصريين والإماراتيين نجحوا في جعله تدريجيًا، وبتنازل من السرّاج نفسه، طرفًا في المعادلة السياسيّة في أزمة لا مخرج لها إلا الحلّ السياسي.     

وفي 12 ديسمبر/كانون الأوّل 2019 أعلن خليفة حفتر قائد ما يسمى "الجيش الوطني الليبي" المدعوم من قبل الإمارات ومصر والسعوديّة بدْء ما أسماه بالمعركة الحاسمة والهجوم على العاصمة طرابلس وما تحمله من رمزيّة الحكم ومشروعيّته السياسيّة والإداريّة.

وتمثّل اتّفاقيّة ترسيم الحدود البحريّة بين تركيا وحكومة الوفاق تحوّلاً في محاور الصراع، وردّ فعل على ما صار يلقاه حفتر من دعم بواسطة مجاميع مقاتلة من الجنجويد ومرتزقة "فاغنر" الروسيّة وجماعات تشاديّة. ولم تُخْفِ تركيا استعدادها للوقوف إلى جانب حكومة الوفاق التي تمثّل الشرعيّة الدوليّة بالسلاح والعتاد العسكري والإسناد السياسي. وقد كانت قبرص وإسرائيل ومصر أوّل المناهضين للاتفاق الليبي التركي في ترسيم الحدود البحريّة.

ويأتي اتفاق ترسيم الحدود في سياق ما يمكن تسميته بملف الغاز في شرق المتوسّط، كما أثار الاتفاق حفيظة دول لها مصالح في حوض المتوسط مثل روسيا والولايات المتحدة. وتعمل تركيا جاهدة لكي تكون مركزًا دوليًا للغاز وهمزة وصْلٍ بين مشاريع كبرى في الغرض فضلًا عن أنّ أنابيب تنقل الغاز من وإلى أماكن متباعدة من العالم، ومنها أنبوب نقل الغاز من أذربيجان إلى أوروبا عبر تركيا بطول 3500 كلم.

الاختلاف حول زيارة أردوغان إلى تونس

وُصفت زيارة الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان إلى تونس في الإعلام المحلّي بأنّها زيارة "لم يتمّ الإعلان عنها"، كما اعتُبرت مفاجئة، ونعتها بعض الرافضين لها مبدئيًا بأنّها زيارة مفروضة في تلميح لا يخفى إلى "عنجهيّة" أردوغان و"سلبيّة" قيس سعيّد و"استسلامه".

وتأتي الزيارة في سياق وقائع جديدة مثيرة أهمّها إعلان حفتر تجديد هجومه على طرابلس وتأكيده على "تحرير العاصمة" هذه المرّة، وإمضاء الاتفاق الليبي التركي حول ترسيم الحدود البحريّة بين البلدين.

ومن ناحية أخرى، جاء أردوغان مصحوبًا بكلّ من وزيريْ الخارجيّة والدفاع ورئيس جهاز الاستخبارات والمتحدّث الرسمي باسم الرئاسة، ويعكس الفريق المصاحب أهمّية الزيارة وبعدها الأمني والاستراتيجي لكلّ من تونس وتركيا.

 لا جديد في الموقف للأحزاب ذي المرجعيّة القوميّة من تركيا، فهو يكاد يكون موقفًا لا تاريخيًا يستسهل إسقاط التاريخ على وقائع الحاضر رغم اختلاف السياقات وتباين الرهانات

لكنّ المثير من كلّ هذا هو ما صاحب الزيارة من ردود أفعال، وتحديدًا المواقف المناهضة للزيارة. وقد عمدت بعض الأحزاب لاسيما غير البرلمانيّة إلى التظاهر في وقفات احتجاجيّة أمام السفارة التركيّة مندّدة بـ"الغزو التركي" وحلمه التوسّعي سليل مشروعه الإمبراطوري القديم. وبادرت بعض الأحزاب ومنها حركة الشعب إلى التنديد بالتدخّل التركي في ليبيا منبّهة إلى خطورة اتفاقيّة ترسيم الحدود.

ولا جديد في الموقف للأحزاب ذي المرجعيّة القوميّة من تركيا، فهو يكاد يكون موقفًا لا تاريخيًا يستسهل إسقاط التاريخ على وقائع الحاضر رغم اختلاف السياقات وتباين الرهانات. وكان يمكن لهذا الموقف أن يكون منسجمًا ومفهومًا لو تعرّض بالنقد للجهات الأخرى المتدخّلة في السياق الليبي من فرنسيين وإماراتيين وطليان وأمريكان وروس.

اقرأ/ي أيضًا: مع دق طبول الحرب.. أي دور تونسي في الميدان الليبي؟

وعبّرت أحزاب الدستوري الحر ومشروع تونس وآفاق والتيار الشعبي وحزب العمّال عن توجّسها من الزيارة وخشيتها من أن يكون من نتائجها دخول تونس في سياسة المحاور من خلال الملف الليبي. واعتبر حزب العمال هذه الزيارة "إستفزازيّة" واستنكر استقبال أردوغان في تونس، وحذّر من الاصطفاف وراء حاكم تركيا.

وشددت حركة مشروع تونس على رفضها "استعمال تونس منصّة سياسيّة لمحور دولي تتناقض مصالحه مع مصالح تونس". وأمّا الحزب الحر الدستوري، فقد عبّر عن استغرابه من "عدم إعلان هذه الزيارة من قبل المصالح الإعلاميّة لرئاسة الجمهوريّة"، ويبدو موجّه هذه الأحزاب موقفُها مما تسميّه "الإسلام السياسي" وتعتبر تركيا بقيادة أردوغان من روّاده.

وفي الجهة المقابلة، نجد قبولًا ضمنيًا بالزيارة، ويعتبر بلاغ رئاسة الجمهوريّة حول الزيارة أكثر المواقف أهميّة. وأكّد البلاغ على أنّ "تونس لن تقبل بأن تكون عضوًا في تحالف أو اصطفاف على الإطلاق". وعرّج على ما أسماه بعض "التصريحات والتأويلات والادعاءات الزائفة"، مجدّدًا حرص رئاسة الجمهوريّة على "سيادة تونس واستقلالها وحريّة قرارها". وأمّا المكوّن الثاني من هذا الموقف لاالداعم للزيارة فتمثّله حركة النهضة فهي لا تخفي مساندتها للزيارة وانتصارها لحكومة الوفاق التي تستمدّ شرعيّتها من اعتراف المجتمع الدولي بها.

مرجعيّة الديبلوماسيّة وبناء السياسات

من أهمّ ما يلاحظ في اختلاف المواقف بشأن الملف الليبي هو أنّ هذا الملف مازال رهين التجاذب السياسي، وقد تتكافأ الأدلّة في سجال الفرقاء في المشهد السياسي التونسي حول هذا الملف وحول العلاقة بتركيا. وكثيرًا ما يُستصحب الملف السوري من قبل الجهتين المختلفتين يسعى كلّ منهما إلى أن يجعل منه دليلًا على سلامة تصوّره، وهذا السجال مازال مستمرًا منذ تجميد تونس لعلاقاتها مع نظام بشّار في 2012 انسجامًا مع موقف تونس الثوري والأخلاقي في حقّ الشعب السوري غير قابل للتأجيل في الحريّة والكرامة.

ومن المهم ملاحظة أنّ كثيرًا من الملفّات ومنها الملفّ الليبي وملفّ الإرهاب تأثّرت سلبًا عندما أُدخلت إلى مجال السجال السياسي والخلافات الإيديولوجيّة، وكان هذا أمر الملف الديبلوماسي وعلاقات تونس بمحيطها العربي وعلاقاتها الدوليّة.

والمفروض أن يكون الأساس في بناء المواقف السياسيّة والديبلوماسيّة هو مصلحة البلاد وسيادتها واستقلالها والمرجعيّة الديمقراطيّة والإجماع على الدولة المدنيّة. ويلاحظ أنّ من يقف إلى صفّ حفتر المدعوم من قبل الإمارات ومصر والسعوديّة رُموزِ الثورة المضادّة ومناهضة الديمقراطيّة والاختيار الشعبي الحر يجد نفسه في مواجهةٍ مع موقفه المناهض للتطبيع إذ لا يمكن أن يكون مطالبًا بتجريم التطبيع وفي الآن نفسه يقف في صفّ من يعلن رغبته في التطبيع مع الكيان مثل حفتر أو من هو صديق للعدو الصهيوني مثل مصر وأنصار "صفقة القرن" (الإمارات، السعوديّة). كذلك يكون التضارب نفسه في موضوع الديمقراطيّة ومرجعيّتها السياسيّة فلا يمكن لأحدهم أن يكون مع حفتر في ليبيا وديمقراطيًا في تونس.

من أهمّ ما يلاحظ في اختلاف المواقف بشأن الملف الليبي هو أنّ هذا الملف مازال رهين التجاذب السياسي، وقد تتكافأ الأدلّة في سجال الفرقاء في المشهد التونسي حول هذا الملف وحول العلاقة بتركيا

ولا يعني هذا أنّ كل من ناهض حفتر ديمقراطيٌّ بالضرورة ومع الحق الفلسطيني رافضا للتطبيع في كلّ الأحوال، ولكن الذي يهمّنا هو أنّ يكون منوالنا في بناء المواقف السياسية والديبلوماسيّة هو الديمقراطيّة والانتصار لها في مختلف السياقات والعمل على تأسيس المواطنة الكريمة.

فلا معنى للحياد الإيجابي في الديبلوماسيّة، وإنّما هو الوفاء للربيع ومساره في الحرية وما يتّصل بها من مكوّنات السيادة ومصلحة البلاد والديمقراطيّة وكرامة الإنسان. وهذا الوفاء هو الذي سيحدّد موقعنا من محاور الصراع الموجودة. فلا يوجد نأْيٌ عن المحاور بإطلاق، وإنّما هو تقديرٌ مرجعه المكونات سابقة الذكر. فالإيمان بحريّة الإنسان وكرامته وحاجته إلى المواطنة السيّدة تمثّل في حدّ ذاتها محورًا لا يمكن أن نكون بموجبه محايدين.

الانتقال الديمقراطي المتعثّر في بلادنا وما يعيشه من معوقات منها ضعف الثقافة الديمقراطيّة وقابلية التنصّل من مبدأ على مدنيّة الدولة وغياب الاعتراف الشامل (اعتراف الجميع بالجميع) ينعكس على علاقتنا بسياقنا الإقليمي ويحُول دون بناء ديبلوماسيّة متوازنة وعقلانيّة وتحالفات وظيفيّة تخدم مصلحة البلاد وما آمنت به من كرامة إنسانيّة ورفاه في العيش وتوازن في الحياة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أطفال ونساء تونسيون في سجون ليبيا.. استغاثة أمام مماطلة الدولة التونسية

القضية الفلسطينية والأحزاب التونسية.. من المساندة إلى المزايدة