06-أكتوبر-2023
قيس سعيّد والاتحاد الأوروبي

 السلطات التونسية أصبحت تستعمل ورقة المهاجرين غير النظاميين كأداة رئيسية في سياستها الأوروبية

مقال رأي 

 

هناك أسباب عديدة ووجيهة لشعور التونسيين بالغبن تجاه الأوروبيين. هذه الأسباب قديمة جدًا أيضًا، وهي تتجدد كلما تجددت مظاهر ذلك الغبن. في السياق الحالي، أضيفت مسألة الهجرة غير النظامية إلى هذه الأسباب، وأصبح توجه أوروبا إلى إحكام غلق حدودها في وجه المهاجرين غير النظاميين، وحتى النظاميين أحيانًا، عنصرًا إضافيًا فيما أصبح يمكن تسميته بالكره تجاه أوروبا. لكن يجب التأكيد مع ذلك إلى أنه لم يحدث في السابق أن استعملت سلطة حاكمة في تونس هذا الكره في سياستها الداخلية مثلما يفعل قيس سعيّد اليوم.

ما يبدو واضحًا اليوم هو أن السلطات التونسية أصبحت تستعمل ورقة المهاجرين غير النظاميين كأداة رئيسية في سياستها الأوروبية من أجل الحصول على إمكانيات مالية أكبر يقع ضخها في ميزانية الدولة المنهكة

منذ إمضاء "مذكرة التفاهم" قبل أزيد من شهرين، تترنح عناصر هذه المذكرة ترنحًا يوحي بفشل الطرفين في تنفيذ بنودها. الحقيقة أن بنود تلك الاتفاقية صعبة التنفيذ من دون انعكاسات على سلطة قيس سعيّد. ما يبدو واضحًا لدى الجميع اليوم هو أن السلطات التونسية أصبحت تستعمل ورقة المهاجرين غير النظاميين كأداة رئيسية في سياستها الأوروبية من أجل الحصول على إمكانيات مالية أكبر يقع ضخها في ميزانية الدولة المنهكة. لم يستعمل الأوروبيون إلى حد اليوم عبارة "الابتزاز" لوصف السلوك الرسمي التونسي، لكن ما يصرحون به لا يبتعد في معناه عن ذلك كثيرًا.

 

 

استعمل قيس سعيّد تجاه الأوروبيين ورقة المهاجرين جنوب الصحراء، وقد مضى في ذلك بالحد الذي جعل السلطات التونسية الرسمية تتبع سياسات شكلت اعتداءات واعية وخطيرة على القانون الإنساني وفقدانًا للحد الأدنى من أخلاقها.

ألقي بالمهاجرين غير النظاميين في الصحراء بما عرض حياتهم للخطر الشديد، وذلك في سياق تبني السلطات لنظريات لا تبتعد كثيرًا عن العنصرية، ما وضع البلاد في مرمى انتقادات أممية وإنسانية قاسية. كان ذلك لنقول للأوروبيين إننا مستعدون لفعل شيء ما يحمي حدودهم من "زحف" الهجرة غير النظامية، ولكن ليس دون مقابل. ما حصل هو أن المقابل لم يكن في مستوى "التضحيات" التي قدمتها تونس. إذا أضفنا إلى ذلك عناصر أخرى من بينها بعض الانتقادات الأوروبية لسياسة قيس سعيّد تجاه معارضيه، فقد كان طبيعيًا أن يفيض كأس الرئيس، وأن يستأنف الهجمات على الأوروبيين.

بحسب "مذكرة التفاهم" لم يمض الأوروبيون على التزامات كبيرة تجاه التونسيين، وقد كان التونسيون يعلمون ذلك جيدًا، لكنهم عولوا على أن يكون ذلك مجرد بداية

بحسب "مذكرة التفاهم" لم يمض الأوروبيون على التزامات كبيرة تجاه التونسيين، وقد كان التونسيون يعلمون ذلك جيدًا، لكنهم عولوا على أن يكون ذلك مجرد بداية. يجب القول إن السلطات قد قامت طيلة شهر أوت/أغسطس الماضي بإحكام إغلاق المنافذ إلى أوروبا عبر البحر، مما يجعلنا نعتقد أن شهر أوت ذاك كان مجرد فترة تجريبية انتهت بقدوم شهر سبتمبر/أيلول الذي فاقت فيه أعداد المهاجرين غير النظاميين المنطلقين من تونس كل الأرقام القياسية السابقة. كان واضحًا أن السلطات تساهلت، وأن ذلك كان جزءًا من الضغط على الأوروبيين من أجل أن يدفعوا أكثر.

بالنسبة للسلطات التونسية لا يمكن بيع السيادة بالفتات، لكن الأمر يصبح ممكنًا لقاء مبالغ أكبر. الدليل؟ أن البلاد قبلت بلعب دور شرطي البحر وبكثير من التفاني لصالح الأوروبيين قبل أن يبدو لها أن الثمن لم يكن مجزيًا. وبغض النظر عن كل الإشكالات ذات الطابع الأخلاقي والسياسي، فإن البلاد تحتاج أموالاً.

بالنسبة للسلطات التونسية لا يمكن بيع السيادة بالفتات، لكن الأمر يصبح ممكنًا لقاء مبالغ أكبر. الدليل؟ أن البلاد قبلت بلعب دور شرطي البحر وبكثير من التفاني لصالح الأوروبيين قبل أن يبدو لها أن الثمن لم يكن مجزيًا

في بداية الشهر، عندما صرح قيس سعيّد بأن تونس تريد علاقات متكافئة مع الأوروبيين وأنها لا ترضى بالصدقة، كان يعلم أن ما وعد به الأوروبيون وما قدموه لحد ذلك الوقت لم يكن إلا صدقات، وأنه قبل وهو يمضي الاتفاقية بعلاقات غير متكافئة لا تقوم أبدًا على الاحترام. ما حصل ببساطة هو أن الأوروبيين لم يستطيعوا لاعتبارات معقدة أن يدفعوا أكثر وأن الرئيس الفرنسي ماكرون قال بطريقة مباشرة ما كان الإيطاليون قد قالوه سابقًا بطريقة غير مباشرة: إرسال "خبراء" إلى الموانئ التونسية لمراقبة الهجرة غير النظامية. كان طبيعيًا جدًا إذًا أن يفيض كأس الرئيس.

قبل يومين، نشر مفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون التوسع والجوار أوليفر فارهيلي، نسخة من مراسلة وجهها إليه وزير الاقتصاد التونسي يستحث فيها تحويل ستين مليون يورو لخزينة الدولة التونسية بناء على اتفاقات سابقة تعود لظروف مكافحة جائحة كوفيد. صدرت هذه المراسلة بعد خطاب قيس سعيّد الذي يرفض فيه الفتات الأوروبي ويلوح فيه بالسيادة التونسية التي لا ترضى اعتبارات سيادتها الوطنية بالصدقات. كتب السفير الأوروبي في الأثناء أنه إذا لم تكن تونس راضية بهذه المساعدة، فبإمكانها إعادة تحويلها للحسابات الأوروبية. هذه أول مرة تصل فيها العلاقات بين الطرفين لمثل هذا الإسفاف.

 

 

في اليوم الموالي، أي الخميس 5 أكتوبر/تشرين الأول، استقبل قيس سعيّد وزير الاقتصاد، بضع ساعات بعد إصدار الخارجية التونسية بيانًا اتهمت فيها سفير الاتحاد الأوروبي بمخالفة الأعراف الدبلوماسية، لينبهه إلى أن للدولة سياسة واحدة، وأن على الحكومة بوزرائها أن يتبعوا السياسة التي يعبر عن توجهاتها رئيس الدولة.

كان واضحًا أن الرئيس قد قرر إلقاء اللوم على وزير اقتصاده في السعي للحصول على الفتات في حين كان رئيس الجمهورية يطلق حربه السيادية على الأوروبيين. لقد فعل نفس الشيء سابقًا تجاه الوفد الذي ذهب لمفاوضة صندوق النقد الدولي طيلة أشهر طويلة. بالنسبة للرئيس، يبدو تقسيم المهام بينه وبين حكومته واضحًا: تذهب الحكومة لجمع الفتات، في حين يقول هو إنه مغرم بالسيادة، وعندما يفتضح التناقض، يقع إلقاء اللوم على الحكومة وتوبيخها على الملأ. يجب أن يخرج الرئيس منتصرًا باستمرار، ولو على حكومته.

بالنسبة للرئيس، يبدو تقسيم المهام بينه وبين حكومته واضحًا: تذهب الحكومة لجمع الفتات، في حين يقول هو إنه مغرم بالسيادة، وعندما يفتضح التناقض، يقع إلقاء اللوم على الحكومة وتوبيخها على الملأ. يجب أن يخرج الرئيس منتصرًا باستمرار، ولو على حكومته

يعرف التونسيون اليوم أن ما يستهلكونه من حبوب يأتي إلى موانئهم بفضل أموال مساعدات أجنبية معظمها أوروبي. كما يعرفون أن سلطات بلادهم قد أمضت على مذكرة تفاهم كان جزءًا معتبرًا من بنودها يكلفها بمهام حراسة الحدود لصالح الأوروبيين، ويعرفون أشياء كثيرة أخرى.

الرئيس وحكومته يعلمان ذلك أيضًا، ويعرفان على وجه الدقة الحدود التي يمكن أن يصلا إليها من أجل الحصول على بعض المساعدات والأثمان التي يتوجب عليهما دفعها من أجل ذلك. لكن الخطاب شيء آخر مختلف تمامًا في عرف الرئيس. هذا ما قصدته رئيس الحكومة الإيطالية عندما صرحت البارحة بأن حديث قيس سعيّد عن السيادة ورفض الصدقات موجه للرأي العام الداخلي.

هناك عنصر قار لدى الشعبويين، وهو تعمق المسافة بين ما يقولون ويفعلون كلما وقعوا في معضلة التوفيق بين الواقع وانتظاراتهم. يثير قيس سعيّد اليوم الكثير من الضوضاء حول مسائل السيادة والعلاقات المتكافئة مع أوروبا، لكن ذلك لا هدف له إلا تحقيق نتيجتين: الضغط على الأوروبيين من أجل أن يدفعوا أكثر لحماية حدودهم من المهاجرين غير النظاميين، والمحافظة على شعبيته تجاه رأي عام لا يعدم الأسباب لكره أوروبا وسياساتها.

هناك عنصر قار لدى الشعبويين، وهو تعمق المسافة بين ما يقولون ويفعلون كلما وقعوا في معضلة التوفيق بين الواقع وانتظاراتهم

إن نفس الرأي العام الذي رأى حكومة قيس سعيّد تحرس حدود أوروبا الجنوبية بكثير من الصرامة، وتلاحق المهاجرين حتى في المياه الدولية، بل وتوافق على ترحيل التونسيين غير النظاميين من إيطاليا في ظروف تمتهن كرامتهم، هو نفس الرأي العام الذي يصفق اليوم للرئيس لأنه يقول إنه يريد السيادة والعلاقات المتكافئة وإنه لا يرضى بالفتات. هذا أمر يعرفه قيس سعيّد جيدًا ويعول عليه عندما يثير كل هذه الضوضاء حول موضوع السيادة.

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"