لا تزال مدينة سوسة الساحلية تعيش على وقع غرق مركب صيد ساحليّ على متنه ثلاثة بحارة من صغار الصيادين، مركب لم يصمد أمام الأمواج العاتية والرياح الضاربة على بعد عشرات الأمتار من شاطئ بوجعفر.
"وعد" (21 سنة)و "محمد" (17 سنة) و"محمد علي" (31 سنة) اختفوا في رحلتهم الأخيرة منذ أسبوع وخلّفوا وراءهم أسرار الصيد الأخير، كان يومهم عاصفًا بعد أن فاجأتهم سوء الأحوال الجوية فترصدهم القدر وداهمهم عنف الموج وظلام المساء.
مركب صيد ساحليّ على متنه ثلاثة بحّارة من صغار الصيادين، يغرق بسواحل سوسة منذ أكثر من أسبوع، وسط مساع للبحث عنهم
ركب ثلاثتهم عباب البحر من ميناء الصيد البحري بسوسة لا يلوون على هجرة غير نظامية ولا مغادرة البلاد خلسة، يروون عنهم عشقهم لرمي الشباك والكسب الحلال، يمتطون المركب الصغير كل يوم في رحلة يسدّون بها رمق العيش ويقسمون رزقهم وفق عُرف جرى بينهم.
رغم الأمطار التي سبق أن أعلن عنها يوم الأحد 12 مارس/ آذار 2023، غدر بالبحارة الثلاثة بعض الصحو وهدوء الموج قبل العاصفة، فخرجوا في رحلة صيد قرب الساحل لعلّهم يحصدون بعضًا من رزقهم يكفيهم عشاء ليلة أو سهرة نهاية أسبوع هادئة، لكن الرحلة طالت وبلغت النهاية غير المنتظرة فانقطع اتصالهم بالبرّ بعد الساعة الواحدة زوالًا.
الشاب "وعد" كان أحد ثلاثتهم الذي اختفى في الرحلة الأخيرة ولم يُعثر عليه بعد رغم مرور أسبوع كامل، كان شابًا هادئًا خدومًا وفق رواية أقربائه، انقطع عن الدراسة في وقت مبكّر، واختار مهنة أبيه الذي يمتلك قارب صيد ساحليّ صغير، كان يرافق والده منذ نعومة أظفاره، وخبر البحر ورمي الشباك وأتقن السباحة وامتلأت مسامعه بأنباء البحر وقصصه المليحة والحزينة.
غير أن "وعد" لم يكن ينتظر يومًا أن يكون موضوع هذه القصة البائسة، إذ تروي لنا "سماح" (20 سنة) قصته فتقول: "كان وعد بوقمرة يعمل في البحر ويعاني ظروفًا مادية صعبة وهو الأخ الأكبر لخمسة إخوة، وكان يحظى برعاية جدته 'زهرة' التي يقطن عندها ويعشق ريحتها فهي التي ربّته واعتنت به".
وتواصل سماح قولها لـ"الترا تونس": "يوم خرج البحارة الثلاثة، كان الطقس هادئًا نوعًا ما، ولم يكن في اعتقادهم أن ينقلب فجأة.. وقد علمنا عند الرابعة مساء أن المركب لم يعد إلى الميناء، وكانت رواية الحرس البحري أنهم فقدوا الاتصال بهم وانقطعت هواتفهم عن العمل في الوقت نفسه".
وتضيف سماح: "التحقنا آخر المساء بالميناء وسادت حالة احتقان شديدة من طرف الأهالي وطالبنا السلط بالخروج الفوري للبحث، ولكن تعذر عليهم ذلك إلا عند العاشرة ليلًا لقوة الرياح وعلو الأمواج، ومع تقدم الليل زادت حيرتنا وتفاقم حزننا وتوقعنا الكارثة، لكن بقية أمل لا زالت قائمة في العثور عليهم".
"وعد" حسب رواية قريبته يعمل مع الفقيدين "محمد" و"محمد علي" على متن هذا القارب "هزان" الذي يملكه أحد كبار البحارة، وقد وثق فيهم منذ سنوات وعهد إليهم باستغلاله المباشر وقسمة المحصول من الصيد.
رئيس المنطقة البحرية لـ"الترا تونس": نواصل التمشيط بحثًا عن البحارة المفقودين رغم رداءة الحالة الجوية وهبوب الرياح القوية بمشاركة جميع الوحدات
كانت الساعات الأخيرة من هزيع ليل الأحد تنبئ بالكارثة، وانتشر خبر غرق المركب واختفائه في وسائل الإعلام المحلية والوطنية، وما إن بزغ فجر الاثنين حتى انتشرت المراكب في الساحل بحثًا عن المفقودين، وهرعت مراكب الحرس البحري والديوانة التونسية والجيش التونسي للبحث برفقة طائرة عمودية.
في اليوم الخامس (16 مارس/ آذار 2023) من عملية البحث، رافق مراسل "الترا تونس" الوحدة البحرية العائمة التابعة للحرس الوطني "برق 5"، كانت الأمواج تتلاطم.. وترى في الأرجاء عشرات القوارب والمراكب ووحدات الديوانة والحرس والجيش باحثة عن الجثث على طول سواحل سوسة والمنستير، وصرح لنا العقيد مجدي بالحاج رئيس المنطقة البحرية قائلًا: "في اليوم الخامس لعملية البحث نواصل التمشيط بحثًا عن البحارة المفقودين رغم رداءة الحالة الجوية وهبوب الرياح القوية بمشاركة جميع الوحدات".
وتابع العقيد بقوله: "تم دعمنا بفريق غوص من الإدارة الجهوية للحماية المدنية وجيش البحر وفريق غوص من الإدارة الجهوية للحماية المدنية بسوسة، كما تم تعزيزنا بوحدات استطلاع كشف تحت الماء من طرف الإدارة العامة للحرس الوطني، ولا تزال لجنة الوقاية من الكوارث ملتئمة وفي حالة انعقاد كاملة تحت إشراف والي الجهة، وقد تم التوصل إلى موقع المركب صباح الثلاثاء (14 مارس/ آذار 2023) وتمكنّنا من الوصول إليه وعاينّنا بعض الأمتعة والأغراض المتعلقة بالبحارة حوله ولن نتوقف عن عملية البحث إلى حين الوصول إلى نتائج إيجابية".
وفي حين يرابط الأهالي بميناء الصيد البحري لمدة أسبوع كامل في انتظار خبر عن أبنائهم، لا تزال عملية البحث جارية، وقد رافق ذلك جدل شديد حول الوضعية الاجتماعية والاقتصادية البائسة التي يعيشها البحارة على مراكب الصيد البحري، إذ يصرح لنا حسان اللطيف رئيس الاتحاد الجهوي للفلاحة والصيد البحري بسوسة أن "بحارة الصيد الساحلي يعانون من تهميش اقتصادي واجتماعي، فهم غالبًا من فئات اجتماعية هشّة ولا يتمتعون بتغطية اجتماعية وغير مؤمّنين من طرف صناديق التأمين رغم نداءاتنا المتكررة للدولة للمساهمة في حل هذا الإشكال المستفحل".
رئيس اتحاد الفلاحة والصيد البحري بسوسة لـ"الترا تونس": بحّارة الصيد الساحلي يعانون من تهميش اقتصادي واجتماعي، فهم غالبًا من فئات اجتماعية هشّة ولا يتمتعون بتغطية اجتماعية
ويواصل حسان اللطيف قوله: "في موانئ ولاية سوسة، يرسو 270 قارب صيد ساحلي ويشغل حوالي 800 بحار في المجال، ونحن نوجه نداء لضرورة وجود حلول فعلية لهؤلاء العملة في القطاع البحري كما نتوجه بنداء عاجل للسلطات الجهوية من أجل توجيه المساعدة العاجلة لأهالي المفقودين ونحن على أبواب شهر رمضان المبارك".
صيادو الساحل، أو ما يعرف بالصيد التقليدي للأسماك، يعانون من هشاشة الظروف الاقتصادية والاجتماعية رغم أهمية مساهمتهم في الإنتاج، إذ تكشف دراسة نشرها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أجرتها الباحثة آمنة بالكحلي، أنهم يساهمون بنسبة 36% من الإنتاج البحري على الصعيد الوطني سنة 2019.
وبينت الدراسة المذكورة "ضعف كفاءة ومردود الصيادين بسبب نقص في التأطير وغياب الأمن في عرض البحر والصراع القائم بين المراكب الصيد الساحلي والمراكب المخصصة للصيد بأعالي البحار الذين يتسللون للصيد في الأماكن المنخفضة".
كما أظهرت الدراسة "تنامي تراجع معدلات استيعاب قطاع الصيد البحري للأشخاص الأقل من 30 سنة من سنة إلى أخرى وسيشهد القطاع تهرّم العاملين في موانئ الصيد".
أما بالنسبة للتغطية الاجتماعية "فتتشابه أوضاع جميع الصيادين في تونس حيث لا يتمتع سوى 12% من جملة البحارة والصيادين في تونس والذين يبلغ عددهم 54 ألف بالضمان الاجتماعي حسب إحصائيات الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري" وفق الدراسة المنشورة.
قصّة البحر لا تنتهي، وحكاية البحار معه أبديّة، إما تمنحه القوة والحياة أو التعب والموت، لا عطاء دون مقابل، ونحن بصدد كتابة هذه الكلمات، يقع الإعلان عن ظهور جثة أحد البحارة "محمد علي" عالقًا في الصخور المجاورة لميناء الصيد البحري وقد تآكلت بعد 8 أيام من الاختفاء وسط حرقة ولوعة الأهالي الذين تجمعوا بالمكان منتظرين خبرًا عن "وعد" و"محمد".