12-فبراير-2023
قرقنة الصيد بالشرفية

تونس تتجه نحو إيقاف الشرافي وسط رفض البحارة والنشطاء (getty)

 

صيد السـمك فـي البـحـر ليـه ريـاسـة *** نصبوا الشرافي مع الغزل دماسة

الشـرفيـة بحصـيرها وجـريدها مڤاديه *** فيها الدرايـن في البـحـر مـرمـيـة

يسـرح الحـوت يزوزهــم بسـياسـة *** صـيد السـمك في البـحر ليـه رياسـة


 

بهذه الكلمات، تغنّى أهالي قرقنة (جزيرة تابعة لولاية صفاقس) بطريقة الصيد بالشرافي التي تتميز بها الجزيرة عن سائر المناطق الأخرى في تونس. وتعتبر أغنية "صيد السمك في البحر ليه رياسة" من التراث القرقني الذي وصف تقنيات الصيد المعتمدة في الجزيرة منذ العهد البونيقي وتوارثها سكان المنطقة جيلًا بعد جيل. 

تنفرد جزيرة قرقنة عن سائر مدن العالم بخاصية "امتلاك البحر" لإعداد الشرافي، كما تعد الملكية البحرية في قرقنة قابلة للبيع والشراء والتوريث

وتنفرد هذه الجزيرة عن سائر مدن العالم بخاصية "امتلاك البحر" لإعداد الشرافي، كما تعد الملكية البحرية في قرقنة قابلة للبيع والشراء والتوريث، وقد حافظ أهالي الجزيرة على تقليد الصيد بالشرافي المتوارث حتى أصبح جزءًا هامًا من هوية المنطقة. وفي سنة 2020 أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "اليونسكو" طريقة الصيد بالشرافي بجزيرة قرقنة ضمن قائمة التراث الثقافي اللامادي حول العالم.

ويحرص أهالي قرقنة على عدم التفريط في أملاكهم البحرية بالبيع أو بالتقسيم في الميراث لتظل ملكًا جماعيًا للعائلة ولا تتفكك مهما بلغ عدد المالكين، كما يعتبر البحارة أن الحفاظ على القطع البحرية التي تحدّها سعف النخيل يمكّن العائلة من الحصول على عائدات مالية من صيد السمك بالشرافي بشكل أوفر بكثير.

الملكية البحرية ميزة قرقنية بامتياز

يبيّن الدكتور عبد الحميد الفهري أستاذ التاريخ بجامعة صفاقس أن الشرفية هي طريقة للتفخيخ تستعمل فيها مواد موجودة ومتوفرة في جزيرة قرقنة وهي النخيل أساسًا والحلفاء، وتعدّ الشرفية بمثابة حاجز يمكن أن يصل طوله إلى 200 متر أو أكثر، وينتهي بموقع يسمى "بيت" وعندما تكون مساحته كبيرة تتجاوز 8 متر مربع يسمى "دار" يتخللها باب مفتوح يسمح للسمك والكائنات البحرية بالدخول، وفي أركان البيت توجد "الدرينة" وهي عبارة عن قفص عندما يدخله السمك لا يستطيع الخروج لأنها مصنوعة من أعواد النخيل في شكل يشبه المثلث.

عبد الحميد الفهري (أستاذ تاريخ بجامعة صفاقس) لـ"الترا تونس": الشرفية هي طريقة للتفخيخ وصيد السمك، تستعمل فيها مواد متوفرة في قرقنة وهي أساسًا النخيل والحلفاء

ويضيف محدث "الترا تونس" أن البحّار يفرغ محتوى الدرينة حسب الفصل مرة في الثلاثة أيام وفي الربيع مرة كل يومين، ويعيدها إلى مكانها بطريقة تمكّنها من استقبال تيار البحر، وهي طريقة يتقنها شخص ذو خبرة وله دراية بوجهة السمك واتجاه الرياح. كما لفت إلى أن الشرفية يمكن أن تحتوي على بيت أو حتى ثلاثة بيوت، وكل بيت يرفع أربع "دراين" ويبلغ طول "الدرينة" على أقل تقدير 1.20 متر وتصل حتى 1.40 متر، وبما أنها تأخذ لون البحر لا يتمكن السمك من رؤيتها لذلك لا يتجنبها ويقع في الفخ.

ولفت أستاذ التاريخ بجامعة صفاقس إلى أن الصيد بالشرافي موجود منذ القدم ولا أحد يعرف متى بدأ استعماله تحديدًا، مشيرًا إلى أنه موروث جزيريّ بحريّ ساحليّ، وأقدم النصوص التي وجدت على الشرفية تهم جرجيس وليس قرقنة، ثم انتشرت في خليج قابس لكنها استمرت كثيرًا في جزيرة قرقنة. وفي القرن الثامن عشر (1862) أصبحت ملكية خاصة، حيث أعطى الباي أهالي قرقنة الحق في امتلاك البحر أي المكان الذي "تغرس أو تنصب" فيه الشرفية بالعقود، وأصبحت ملكية خاصة تسجل في دفتر خانة وتدفع العائلات عليها الضريبة مثلها مثل العقارات على اليابسة، وهي الميزة الخاصة بجزيرة قرقنة، الملكية الخاصة البحرية الوحيدة في العالم، إذ لا وجود لأي بلد يعطي أحقية امتلاك قطعة من البحر.

أستاذ تاريخ بجامعة صفاقس لـ"الترا تونس": الاستثناء القرقني ليس في "الدرينة"، فهي موجودة في بريطانيا واليونان، بل الاستثناء هو في ملكية البحر وأحقية بيعه وكرائه

وأشار المتحدث إلى أن "الدرينة" موجودة في بريطانيا وأيضًا في اليونان، لكن البحارة لا يملكون البحر، وتبعًا لذلك فإن الاستثناء القرقني ليس في الدرينة بل في ملكية البحر وأحقية بيعه وكرائه، وفي حال تم إهمال الملكية البحرية والتخلي عنها تصبح تابعة للدولة.

كما لفت المتحدث إلى أن الدولة التونسية تسعى للتخلي عن هذه الملكية الخاصة وتحويلها إلى ملك للدولة في حين أنها ملك خاص، وسبق أن خسرت الدولة قضايا مع أهالي قرقنة، وكانت قد حددت سنة 2020 لانتهاء العمل بالملكية الخاصة لكن تم تأجيل ذلك إلى سنة 2029 على اعتبار أن أهالي قرقنة مازالوا يمتلكون قطعًا من البحر وسيواصلون امتلاكها لأنها إرث، وارتفع عدد الورثة إلى 20 وريث في الشرفية أحيانًا. متابعًا: "عندما يتم إهمال الشرفية يمكن للدولة استرجاعها، لكن بوجود المالكين الذين يمتلكون عقود طولها يتجاوز المترين لا يعقل ذلك.. تم تأجيل ما أسمّيه عملية افتكاك الشرافي من قبل وزارة التجهيز وسننتظر ماذا سيحدث في المستقبل".

أستاذ تاريخ بجامعة صفاقس لـ"الترا تونس": لا يعقل أن تسعى الدولة إلى افتكاك الشرافي وإنهاء العمل بالملكية الخاصة، خاصة وأنّه لم يتم إهمال الشرفية من قبل مالكيها

ويعود أصل كلمة الشرفية إلى اسم عائلة الشرفي وهي الوثيقة التي تتعلق بالملك البحري الخاص.

"الشرافي".. أحسن وأجود أنواع الصيد في العالم

يعدّ الصيد البحري أهم نشاط اقتصادي بجزيرة قرقنة، حيث يمثّل مورد رزق عدد كبير من أهالي الجزيرة ويعتبر سمك الشرافي من أهم المنتوجات البحرية التي تجد إقبالًا كثيفًا لدى الحرفاء للذة مذاقه.

صلاح حديدر (نائب رئيس اتحاد الفلاحة والصيد البحري) لـ"الترا تونس": الشرفية هي طريقة تقليدية للصيد تحترم المعايير البيئية وتعد من أحسن وأجود أنواع الصيد، ليس فقط في تونس بل في العالم

ويقول صلاح حديدر نائب رئيس الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري المكلف بالصيد البحري، إنّ الصيد بالشرافي معمول به في جزيرة قرقنة ومدينة الشابة بالمهدية، وتتمثل هذه التقنية من الصيد في تهيئة مساحات بحرية لا يتجاوز عمقها المتر أو المترين يتم تطويقها من الجانبين بسياج من جريد النخل، وتثبت "الدرينة" وهي مصيدة ثابتة يتم صنعها أيضًا من الجريد في القاع، ويقوم التيار بدفع السمك أو القرنيط إلى "الدراين" فيقع في الفخ ويمكث طيلة ساعات حتى يتم استخراجه من قبل البحارة في الغد، ويتم إفراغ الدرينة أو ما يعرف بالدار من محتوياته وترجع إلى مكانها، لافتًا إلى أن الشرفية لا يتجاوز فيها عدد البيوت ثلاثة كأقصى حد.

ولفت محدث "الترا تونس" إلى أن هذه الطريقة التقليدية للصيد تحترم المعايير البيئية وتعد من أحسن وأجود أنواع الصيد، ليس فقط في تونس بل في العالم، حتى إن منتوجاتها البحرية هي الأغلى ثمنًا والألذ طعمًا، كما شدّد على أن "الشرافي" في قرقنة موثقة بالعقود والوثائق، والصيّاد يملك "قطعة البحر" التي يقيم عليها "الشرافي" خاصة في الضفة الشرقية للجزيرة، بينما يتم اعتماد هذه التقنية للصيد في مدينة الشابة لكن البحر ليس ملكية خاصة.

نائب رئيس اتحاد الفلاحة والصيد البحري لـ"الترا تونس": وزارة الفلاحة كانت تقوم ببيع الشرافي أو تسويغها بالمزاد العلني، لكنها امتنعت عن ذلك مؤخرًا، ومنذ سنة 2011 يعمد البحارة إلى بناء الشرافي بدون رخصة

كما أشار حديدر إلى أن وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري كانت تقوم ببيع الشرافي أو تسويغها بالمزاد العلني، لكنها امتنعت عن ذلك مؤخرًا، ومنذ سنة 2011 يعمد البحارة إلى بناء الشرافي بدون رخصة، وتعددت الإشكاليات في هذا المجال من بينها تمركز البحارة بشكل متقارب متجاهلين المسافة القانونية المعمول بها والتي تمكّن الزوارق من المرور، كما يتم وضع خمس "دراين" في الشرفية عوضًا عن ثلاث.

على الرغم من أن جزيرة قرقنة هي الاستثناء الوحيد في العالم الذي يمكن فيه تملّك البحر فإن تونس تتجه نحو إيقاف الشرافي وهو ما يرفضه البحارة وكل المدافعين عن الإرث اللامادي بالجهة.