26-يناير-2019

انتبهنا هذه الأيام إلى صحوة مفاجئة كزهر اللوز في صفوف التلاميذ (من احتجاجات التلاميذ/ياسين القايدي/ الأناضول)

 

مقال رأي

 

"يا تلميذ يا ضحية إيجا شارك في القضية".. هذا الشعار رددّه هذه الأيام أغلب التلاميذ التونسيين في كل ساحات المعاهد والإعداديات التونسية والساحات العامة. شعار درج في كل التحرّكات والمسيرات التلمذية من الشمال إلى الجنوب، شعار فيه دعوة وتجميع، ورصّ للصفوف. إنه صوت الوحدة التلمذية يطلّ من جديد صدّاحًا عاليًا إيذانًا بعودة "الجدّ تاني" على حدّ أغنية الشيخ إمام.

إن التحركات التلمذية الأخيرة تعكس عودة تشكل الوعي لدى هذه الشريحة المجتمعية أو ربما هي استفاقة ليس بعدها نوم في تماه مع السياق الديمقراطي الذي تعيشه تونس

اقرأ/ي أيضًا: إلى أين تسير الأزمة بين نقابة التعليم الثانوي ووزارة التربية؟!

هذا شعار يأتي من تخوم الماضي القريب، لقد صنعته حناجر القدامى من ستينيات القرن العشرين. ينبت الآن كزهرة برّية. إنه يريد أن يرتق هوّة حصلت في تاريخ الحركة التلمذية، هوّة أوزونية توسعت في فترة حكم بن علي إلى حدّ خلنا معها زوال الحراك التلمذي وقبره تمامًا، فتبلّدت صورة التلميذ التونسي وابتذلت وتفّهت. وأصبحت المعاهد الثانوية مليئة بالعلوم والمعارف لكنها جدران وأسوار خالية من الحياة ومن الحلم لا تجيب على الأسئلة الداخلية والعميقة للتلميذ ولا تشكّل وعيه النقدي والجمالي ولا تنزّله مكانته في الكون ولا تبني له ذاتًا بها يواجه رهبة الحياة.

هذه الأيام، وفي ظل أزمة تفاوضية متعثرة وعابرة بين نقابة أساتذة التعليم الثانوي ووزارة التربية، انتبهنا إلى صحوة مفاجئة كزهر اللوز في صفوف التلاميذ حيث عادت الشعارات القديمة ممتزجة بأخرى جديدة "يا تلميذ يا ضحية إيجا شارك في القضية"، "ستوب التلميذ خط أحمر"، "شعب التلاميذ قادم"، "لا لسنة بيضاء"..

الحراك التلمذي الذي برز فجأة كلاعب ثالث في أزمة التعليم الثانوي قرأ على أوجه عديدة وخاصة الوجه السياسي في إطار التطاحن الحزبي والإيديولوجي القائم منذ أشهر في تونس لكن تبقى القراءة الحضارية والمعرفية الفكرية هي الأهم والأبقى.

إن التحركات التلمذية الأخيرة تعكس من جهة أولى عودة تشكل الوعي لدى هذه الشريحة المجتمعية أو ربما هي استفاقة ليس بعدها نوم في تماه مع السياق الديمقراطي الذي تعيشه تونس منذ ثورة 2011 إلى اليوم لأن التلميذ هو ابن بيئته وما يحدث في المجتمع، وهو لا محالة يتأثر به ويتفاعل معه عن طريق العائلة أو وسائل الإعلام أو الانترنت وخاصة شبكات التواصل الاجتماعي، حيث تبيّن أن التلاميذ التونسيين خلال الاحتجاجات الأخيرة تواصلوا أساسًا ونسقوا للمسيرات والتجمهرات واقتراح الشعارات عبر فيسبوك تحديدًا وبعثت عدة صفحات خاصة بغضب التلاميذ في كل ولايات الجمهورية.

الوعي التلمذي قبر في عملية "تجفيف المنابع" التي قام بها نظام بن علي ونسف من خلالها بوادر ديمقراطية كان بذرها الأول قد أينع في انتخابات 1989

واللافت للانتباه في التحركات التلمذية لسنة 2019 أنها سلمية وراقية وخالية من العنف وفيها الكثير من الوعي بالشأن العام وبما يحدث في الوطن. وهو ما ذكرنا بتحركات 1982 عند حصار بيروت وسنة 1984 إبان ثورة الخبز، حيث كانت مشاركة التلاميذ حينها نوعية لأبعد الحدود مما أدى إلى بروز قيادات تاريخية للحركة التلمذية نذكر منها الراحل نبيل بركاتي وأحمد الصديق ومحمد الهمامي، حيث شرعت هذه الزمرة من التلاميذ في التفكير في بعث نقابة تلمذية على غرار النقابات الطلابية أو جمعية تلمذية تكون مهمتها تأطير التلاميذ وتثقيفهم سياسيًا واجتماعيًا وتهيئتهم للحياة الطلابية فيما بعد. لكن هذه الأحلام اصطدمت بحاجر التسلط السياسي.

اقرأ/ي أيضًا: تواصل مقاطعة الامتحانات وشبح السنة البيضاء.. الأولياء في تحركات احتجاجية

وكانت آخر الاحتجاجات التلمذية النوعية التي عاشتها تونس في أواخر سنة 1990 وطيلة سنة 1991 في أوج حرب الخليج الثانية، لكن هذا الوعي التلمذي قبر في عملية "تجفيف المنابع" التي قام بها نظام بن علي ونسف من خلالها بوادر ديمقراطية كان بذرها الأول قد أينع في انتخابات 1989. لكن يبدو أن التلاميذ هم ملح الأرض وزرعها الذي لا يموت، هم أشقاء الزيتون، خضرة أبدية وزيت لإضاءة دياجير الوطن، ها هم ينتفضون من غبار النسيان في صحوة نادرة ويطالبون بتغيير واقعهم. التلاميذ لا يهادنون ولا يساومون، صدقهم وعنفوانهم وعفويتهم هي عناصر قوتهم التي بها يقتحمون الساحات العامة.

على المدرسة والمجتمع بأسره أن يفسح المجال واسعًا للتلاميذ باعتبارهم يمثلون المستقبل وأن تتفهم تحركاتهم واندفاعهم

في اعتقادي أن الحركة التلمذية في تونس آن لها أن تتشكل بوضوح وأن تتوحد في هيكل واضح يجمعها ويؤطرها بعيدًا عن التسييس والأدلجة المتعصبة، مستلهمة وجودها من توهجات ماضيها ومن تمفصلات تاريخ الحراك التلمذي في تونس وخارجها وأن تستفيد من مكاسب المدرسة العصرية والتحديثية في تونس تمامًا كما استفادت الأجيال التلمذية السابقة وأن تقرأ تاريخ الثورات التلمذية والطلابية على غرار ثورة ماي/ أيار 1968 بفرنسا، وأن تمتح من تاريخ الحركة الفكرية والفنية والثقافية بتونس والتي كانت أبرز أفعالها نوادي السينما ونوادي الفكر التي لا يخلو منها معهد في الستينيات والسبعينيات.

إن في تشكل هيكل يجمع التلاميذ ويوحدهم من شأنه أن يخلق أجيالًا قادرة على أن تفهم ما يحدث حولها في الوطن وخارجه وأن تتهيأ لحياة جامعية سليمة يستطيع خلالها الطالب أن يمارس السياسة والعلم جنبًا إلى جنب وهو ما سيجعله قادرًا على فهم أعمق للحياة السياسية والاقتصادية والثقافية.

إذًا على المدرسة والمجتمع بأسره أن يفسح المجال واسعًا للتلاميذ باعتبارهم يمثلون المستقبل وأن تتفهم تحركاتهم واندفاعهم والجلوس معهم للنقاش في كل الأحوال والذهاب إلى الآفاق البعيدة حيث منابت الشمس. ففي ذلك مناعة وتأمين للمجتمع من مخاطر عشنا بعضها مباشرة بعد الثورة وسبب ذلك سياسة تجفيف المنابع وتصحير الحياة المدرسية التي مارسها نظام الحكم النوفمبري قرابة الثلاثة عقود من الزمن.

 

اقرأ/ي أيضًا:

القليل من الحكمة لحلحلة أزمة المدرّسين في تونس..

الإصلاح التربوي.. أولوية قصوى مؤجلة