مقال رأي
إلى حدود سنة 1984، وهي السنة التي اندلعت فيها في تونس ما يعرّفه المؤرخون " بانتفاضة الخبز" أو "ثورة الجياع" كنتيجة لترهّل الوضع السياسي والاقتصادي في السنوات الأخيرة من الحكم البورقيبي، ومدى انعكاس ذلك سلبًا على المجتمع بأسره، كان المدرّس، أستاذًا أو معلّمًا، إلى ذلك الحين في مكانة رفيعة وفي بحبوحة من العيش وكان موقعه الاجتماعي مرموقًا فهو يتصدر الطبقة الوسطى مع الأطباء والمحامين وكبار موظفي الدولة.
هذا المدرّس تغيرت حاله تمامًا كما تغيرت حال تلك الطبقة الوسطى وذلك بعد أن طرأت عدّة متغيّرات
اقرأ/ي أيضًا: الإصلاح التربوي.. أولوية قصوى مؤجلة
وهي طبقة راهن على إنشائها سياسيون كبار في تونس مثل الباهي الأدغم والهادي نويرة. كما كان يحظى هذا المدرّس بالمكانة الاعتبارية والرمزية في المجتمع والفضل في ذلك يعود إلى الدور التعليمي والتّربوي الفذّ الذي كان يقوم به المدّرس إبان بناء دولة الاستقلال التي راهنت من جملة ما راهنت على "التعليم" واعتبرته ثروتها التي بها سترتقي تونس إلى مصاف الدول المتقدمة.
لكن هذا المدرّس تغيرت حاله تمامًا كما تغيرت حال تلك الطبقة الوسطى وذلك بعد أن طرأت عدّة متغيّرات أولها سياسي وذلك بترحيل "بورقيبة" من الحكم وهو الأب الروحي للتعليم النظامي بتونس والذي كان يفرد ثلث ميزانية الدولة لمنظومة التربية والتعليم ويعتقد جازمًا أن التعليم هو عماد المجتمع ووسيلته الأولى لتغيّر الأحوال.
أمّا المتغيّر الثاني فهو اقتصادي باتجاه سياسة "بن علي" نحو اقتصاد السوق والقطع مع رهانات دولة الاستقلال بل "قتل الدولة الأم" بطريقة تراجيدية فظهرت سلوكات مجتمعية جديدة منها الاستهلاك والاقتراض البنكي والانبهار المرضي بالإشهار. وسرت قيم جديدة منها تقديس رأس المال والربح السريع.
إن ما يحدث في "مجتمع المدرّسين" اليوم لم يكن وليد اللحظة التاريخية غير المستقرة ووليد مزاج نقابي سيئ كما يفهمه البعض وإنما له امتداداته في التاريخ المعاصر
اقرأ/ي أيضًا: عندما يفنى كل شيء تبقى المدرسة..
أما المتغير الثالث فهو قيمي أخلاقي وذلك بتراجع الدور الرمزي للمدرسة فاختل النظام الاعتباري في المجتمع الذي أصبح بمقتضاه التاجر والمهرب الصغير رموزًا مجتمعية وتراجع دور المدرّس إلى المراتب الوسطى. وفي ذلك إشارات سوسيولوجية إلى تغيرات لا مرئية حدثت في المجتمع التونسي وتواصلت بلا هوادة إلى اليوم.
إن ما يحدث في "مجتمع المدرّسين" اليوم لم يكن وليد اللحظة التاريخية غير المستقرة ووليد مزاج نقابي سيئ كما يفهمه البعض، وإنما له امتداداته في التاريخ المعاصر، فالاهتزازات السياسية المتتالية والانهيارات الاقتصادية وتفشي الفساد والزلازل المتتالية التي حلّت بالطبقة الوسطى، أدّت إلى حقائق جديدة يعيشها المجتمع بشكل عام والمدرّسون على وجه الخصوص.
ففي السنوات الأخيرة عاش المدرّسون ويلات اجتماعية عديدة منها تردي وضعياتهم الاقتصادية وتراجع تام لمقدرتهم الشرائية مقارنة مع نظرائهم في قطاعات أخرى، وفسح المجال واسعًا للخوصصة هو ما اعتبر إسفينًا يدقّ في جسد التعليم العمومي. أيضًا الاعتداءات المتكررة على المدرسة والفاعلين فيها وعدم التزام الحكومات المتعاقبة بفحوى محاضر الاتفاق النقابية. كل هذه المراكمة أدّت إلى الوضع المنفجر الذي يعيشه المدرس والمدرسة التونسية على حد السّواء.
إن حلحلة أزمة المدرسين تتطلب أولًا القناعة بسوء الوضع الاقتصادي للمدرسين وثانيًا بعض الحكمة والرصانة السياسية وثالثًا عدم التجييش الإعلامي
إن احتجاجات "أصحاب السترات البيضاء" من 2015 إلى 2018 لا تتحمل وزرها الأطراف النقابية. بل هو تمشّ سياسي واقتصادي وخيارات تنموية حدثت في تونس في العقود الثلاث الأخيرة أدت إلى مثل هكذا وضع.
ومما زاد الوضع انفجارًا هو التجاذب السياسي الذي استبد بهذا الملف الاجتماعي فأغلب السياسيين سواء أولئك الذين هم في الحكم أو في المعارضة ركبوا ملف احتجاجات المدرسين وراحوا يكيلون التهم لبعضهم البعض ويوظفون ذلك من أجل الاستحقاق الانتخابي القادم في أفق 2019، في حين أن هذا الملف الحارق يحتاج القليل من التأنّي والتّبصر والبحث عن الحلول المجزية لسادة المدرسة التونسية وصنّاع العقول.
إن حلحلة أزمة المدرسين تتطلب أولًا القناعة بسوء الوضع الاقتصادي للمدرسين وثانيًا بعض الحكمة والرصانة السياسية وثالثًا عدم التجييش الإعلامي عند التعاطي مع هذا الملف المجتمعي، لأن في ذلك استقرارًا للمجتمع وإنقاذًا للتعليم العمومي.
اقرأ/ي أيضًا: