مقال رأي
يتعامل الكثيرون مع الشباب كطبقة واحدة، لكنهم في الواقع فئة مجتمعيّة من فسيفساء طبقيّة متنوّعة، تُعرف في الغالب بأنّها الفئة الأكثر تذبذبًا في خياراتها ومواقفها، لأسباب عدّة تتراوح بين الاجتماعي والنفسي والثقافي، بما لا يفقدها دورها الحاضر في تحديد عدد من الخيارات في قطاعات مختلفة، من اليومي إلى الإستراتيجي.
في لحظة "موت السياسة" زمن الدكتاتوريّة والقمع وتأميم المجال العام لصالح زمرة النظام الاستبدادي، كان طبيعيّا ومنطقيّا أن تتجه السلطة آنذاك إلى العبث بماضي وحاضر ومستقبل فئة الشباب تحت شعارات تحمل في ظاهرها النقيض تمامًا. رفع المخلوع بن علي شعار "الشباب الفاعل" ووجّه كلّ اهتماماته إلى سهرات جمعيّة "فرحة شباب تونس" أو إلى مدارج الملاعب دون وعي مسبق منه بأنّ تلك الفضاءات التي تمثّل متنفّسًا عن الكبت التعبيري بفعل القمع قد تتحوّل إلى ألسنة لهب تحرق الأرض وما عليها والنظام نفسه قبل كلّ شيء. وقد حدث ذلك فعلًا عندما تحوّلت "عقليّة الفيراج"، المتعصّب لجمعيّات رياضيّة معيّنة، إلى حامل مجتمعي لشعارات ثوريّة بعمق اجتماعي، استهدفت السلطة.
تحوّلت "عقليّة الفيراج"، المتعصّب لجمعيّات رياضيّة معيّنة، إلى حامل مجتمعي لشعارات ثوريّة بعمق اجتماعي، استهدفت السلطة
يمكن فهم وتفهّم أن تغلب فئة الشباب على المتظاهرين في الأحياء والشوارع منذ 17 كانون الأول/ديسمبر 2010 لسبب أوّل مردّه إرتفاع نسبة البطالة ولسبب ثان مردّه سعي الشاب بصفة عامة إلى البحث عن ذاته الضائعة، دون استنقاص بكلّ تأكيد من مساهمة فئات عمريّة أخرى في الحراك المترامي، ولكنّ ما حدث بعدها قد يحيل على تفسيرات وقراءات كثيرة لأدوار فئة الشباب في المشهد العام.
الشباب.. أذرع حزبية "تنفيذية"
لا شكّ أن سؤال موقع الشباب في الأحزاب السياسيّة بعد الثورة يحيل على النظر بعمق في طبيعة نشأة وخلفيّات مختلف التيّارات السياسيّة والفكريّة، التي تظلّ الزعامة فيها السمة الأبرز والجامع بينها. وقد يكون ولعها الذي يصل حدّ المرضيّة بالزعامة وتصدّر المشهد السياسي سببًا في بقائها على رأس مشهد مترهّل لا مكان فيه للشباب سوى في الأدوار التنفيذيّة التي تقتصر على مهام الحشد والتعبئة والتنظيم لذلك توكل لهم في الغالب مهام تعليق اللافتات وتوزيع المنشورات وقد تصل حدّ جمع الكراسي والبلطجة على شبكات التواصل الاجتماعي وكلّها تكون في الغالب تحت شعار التكوين والتأطير واكتساب التجربة.
يقتصر دور الشباب في الأحزاب السياسية عادة على مهام الحشد والتعبئة والتنظيم
ولا شكّ أن ثمّة في الأحزاب السياسيّة، شباب طموح يفرض نفسه بعمله وبإمكانياته ولكن ثمة أيضًا من يكسب مكانًا للتزيين فحسب أو لأنّه ابن القائد الفلاني أو من أتباع فلان، كلّ هذا موجود لذلك لا تجد النقاش داخليًا في أغلب الأحزاب بين الشباب يدور سوى على "الإشكال التنظيمي".
ففي بعض الأحزاب السياسيّة وسعيًا إلى الإبقاء على "مكانة الزعيم" أو الزعماء، يتمّ الإستنجاد بتكوين ذراع شبابي يكون عادة في شكل ذراع طلاّبي أو قطاعي أو نقابي فقط لتحسين شروط التفاوض مع الخصوم بشكل غير مباشر، أو كوسيلة لتمرير بعض المقترحات أحيانًا عبر وسائل مختلفة من بينها الشارع.
لامبالاة الشباب
كانت نسبة إقبال الشباب على الإنتخابات الأخيرة في تونس، تشريعية ورئاسيّة، صادمة إذ شهدت مقاطعة واسعة. اتخذ البعض قرار المقاطعة كموقف سياسي، بقطع النظر عن مدى واقعيّته، ومجموعة ثانية كانت لا تبالي أصلًا بالعمل السياسي والإنتخابات لأسباب ثقافيّة وسياسيّة واقتصادية اجتماعيّة وهي المجموعة الأكبر.
ويعود ارتفاع نسبة مقاطعة الشباب للانتخابات إلى ترهّل المشهد الحزبي في البلاد، حسب البعض. وهذه قراءة صائبة لكن إلى حدود، إذ يبرز مجددًا عامل "موت السياسة" طيلة سنوات الفساد والاستبداد الذي أنتج أجيالًا قطعت مع المشاركة الفاعلة والإيجابية في الشأن العام. كما أن طبيعة التجاذبات والوزن السياسي للمتنافسين قد يكون مساهمًا في فقدان ثقة مجموعة واسعة من فئة الشباب، في مشهد حزبي يعيد إنتاج صراعات سنوات خلت.
الاتجاه نحو التطرّف
يعتبر التطرّف الجهادي في تونس ظاهرة متّصلة بسياق عام نشأت فيه تيارات جهاديّة كبرى في المنطقة وتنامت فيه دروينيّة معركة "ضرب الإسلام" التي يتمثل عدد كبير من الشباب وقعها بمخلّفات التاريخ لا بمنجز الحاضر وممكن الواقع، غير أن دراسة الظاهرة من الداخل قد أفضى إلى إستنتاج وجود فئة الشباب بكثرة في هذه التنظيمات لسهولة استقطابهم.
يرى جزء من الشباب أن المشهد الحزبي التونسي يعيد إنتاج صراعات سنوات خلت ولا يعبر عنهم
وارتكبت السلطات التونسيّة خطأ فادحًا ولا تزال ترتكبه في التعاطي الأمني مع ظاهرة الإرهاب وانتشار التيارات الجهاديّة دون التفات إلى الجانب الوقائي من الظاهرة فتلك السهولة في استقطاب الشباب وتجنيدهم لها في الواقع تبريرات واقعيّة، في طبيعة الأنظمة السياسيّة التي تربى تحت وطأتها هؤلاء، وقوّة الآلة الدعائيّة التي قدّمت إجابات عدميّة عند البعض ولكنّها وجوديّة عند هؤلاء.
الشباب الذي نجحت في استقطابه التيارات الجهاديّة ليس في الواقع سوى ضحيّة من ضحايا فساد الأنظمة السياسيّة التي كانت حاكمة واستبدادها وتطبيعها علنًا، وقد نجحت آلة الدعاية الإرهابيّة في تلقّف الشباب بين أحضانها ورمت به وسط المعارك الخطأ بحجّة أنّهم "جنود الله".
شباب تونس المتمرد
أيّا كان وقع خيبة الأمل وتراجع الدور والمساهمة فإنّ جزءًا من فئة الشباب يبقى متوهّجًا دائمًا متجاوزًا للبيروقراطيّة الحزبيّة، التي دجّنت البعض وحوّلتهم إلى ذراع تنفيذي وقاطعًا مع دور اللامبالاة السلبي الذي يساهم في استمراريّة مشهد العجائز، مستعدّا للدخول في منطق التطوّر الحضاري والفكري والسياسي الذي يجعله لا يلتفت إلى تيارات التعصّب الديني أو الإيديولوجي. و إذا كان ثمّة من نجاح للثورة في تونس مثلاً فهو ذلك الشباب الذي تجاوز كرّاسات التاريخ ونظريّاته الجامدة وغادر جحور الإيديولوجيا المتكلّسة نحو أفق أرحب وأوسع لإدارة الاختلاف والمشاركة في الشأن العام بما يجعل البيروقراطيّة الحزبيّة نفسها تسابق الزمن السياسي الذي تجاوزها معهم.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"