19-مارس-2018

عربة لبيع "المروّب" بأحد شوارع العاصمة تونس (سيف الدين العامري/ الترا تونس)

ـ "ضربتني ريحة المرقاز.. شهاني في وحيّد" (أشتم رائحة نقانق.. لقد أيقظت بي الرغبة لتناول سندويتش)

ـ "شنوة يااا ولدي بش نبدلو عاد مبقاش وقت" (يجب أن نغير المكان، لم يعد هناك متسع من الوقت)..

ـ "يا سي الأستاذ تي الحداش تاع الليـ... تو مزال بكـ..ي" (يا أستاذ الساعة الحادية عشر ليلًا مازال الوقت مبكرًا)

ـ "انت فمك رزن ومعادش تتكلم مليح.. إيجا غلف بحويرة مروّب وبعد تو نشوفو شنية الحكاية" (فمك أصبح ثقيلًا ولم تعد تتكلم بشكل جيد.. تعال فلنأكل حارة "مروّب" وبعدها سننظر في الموضوع)..

ـ "حكاية شنوة؟" (أي موضوع؟)..

ـ "عجايب ! موش قتلي نحب نزيد يا سي الأستاذ؟؟" (غريب.. ألم تخبرني أنك تريد المزيد يا أستاذ)..

ـ "آه إيه فكرتني كنت ناسي"... ( آه نعم ذكرتني لقد نسيت)..

المقدمة موحية بموعد للأكل؟ الأمر يشبه ذلك، لكن في الحقيقة هو جزء من حوار بين صديق وصديقه بصدد الخروج من حانة تغلق باكرًا إلى حانة أخرى تطيل السهر في عمق متوسط من الليل مع هؤلاء الأبرياء. وفي الواقع فإني نقلت الحوار بعد تهذيبه بشكل جذري، فالذهاب إلى بائع المروّب (المروّب هو بيض مسلوق يضاف له شيء من الملح والفلفل وبعض التوابل، والتقليد التونسي هو أن يبتلع في دفعة واحدة). ليلًا تصاحبه حوارات أخرى لا تكتب عادة في الصحافة.

لبائعي المروّب أهمية استراتيجية لكل عابري الشوارع ليلًا

لبائعي المروّب أهمية استراتيجية لكل عابري الشوارع ليلًا. العابرون أغلبهم من رواد عيون السعادة، ولكن يوجد بينهم أيضًا من يقفل عائدًا إلى بيته بعد العمل ومنهم المارة وسائقو التاكسي والجيران وغيرهم. وقد يكون لأصحاب "البرويطة" الفضل ـ لهم وحدهم ـ في إبقاء شوارع العاصمة على قيد الحياة، لما لهم من قدرة على مغازلة المارة بروائح الشواء المنبعثة من معسكراتهم الخشبية الصغيرة. والملفت للانتباه لدى هؤلاء هو أنهم مركز تجمع أنماط عديدة من الناس، كلها تجتمع لدى بائع المروّب لسد رمق أضناه العمل أو السهر أو المسامرة من جهة، أو لـ"تغليف المعدة" تمهيدًا لتحمل سوائل بائع السعادة.. من جهة أخرى. وسوف نلقي نظرة سريعة على نموذج من بائعي المروّب، مختزلين مئات الحكايات اليومية في شخصيتين فريدتين.

في الطريق الرابطة بين شارع الحرية وشارع مرسيليا، يمكن أن تعثر على بائعين اثنين للمروّب بالغي الأهمية: الأول هو "شكشوكة" الكامن في النقطة الرابطة بين شارع الولايات المتحدة الأمريكية وشارع الحرية والشاذلي قلالة. والثاني هو مراد (اسم مستعار) الذي يعسكر بالبرويطة في تقاطع شارع مرسيليا مع شارع مختار عطية. وإذا كنت من جماعة "الرعد" أو جماعة شارع خير الدين باشا وما جاوره فسيتسنى لك تذوق "وحيّد عياري مروّب" (سندويتش ببيض مروّب) محترم وسط تلك الطريق (مقابل محطة بنزين عجيل).

قد يكون لبائعي المروب الفضل في إبقاء شوارع العاصمة على قيد الحياة

اقرأ/ي أيضًا: أشهر 10 أكلات في شوارع تونس

أسمر ضحوك.. "أعمل كسكروتك وحدك"

البداية بشكشوكة. وسوف أتعمد عدم وضع اسمه هذا بين ظفرين احترامًا للشحنة السيميائية المنبعثة من تراثنا مع الشكشوكة، تلك الأكلة التي آوت ملايين الناس على مدى عصور طويلة، وأرى أن شكشوكة جدير بحمل هذا التراث في كنيته.

هو شاب أسمر اللون، ثلاثيني، نحيف ومتوسط الطول. عيناه صغيرتان ومدورتان ولونهما يقترب من السواد، ومن المستحيل أن ترى شكشوكة غير مبتسم، فهو ضاحك دائمًا، حتى في تلك الدقائق الصغيرة التي يروي فيها حكاياته مع الشرطة وأعوان البلدية. ولشكشوكة أنامل ميكانيكي محترف غير أنها ملطخة بالهريسة وبقايا الخضار المشوية والبصل، ورائحته دائمًا هي ذاتها رائحة الشواء المختلط برائحة الفحم المحترق والبصل.. يعني أنه حامل لجينات الشكشوكة في هويته الجسدية.

شكشوكة (بائع بيض مروّب):  "عذبوني جماعة البلدية".. في كل مرة يأتونني فيها يهددوني بإزالة مورد رزقي

ويروي شكشوكة بعجالة ما حصل له الأسبوع الماضي قائلًا "جاءني أحدهم من حي قريب وطلب مني "وحيّد مرقاز" (سندويتش نقانق) وبعد أكله قال لي أنه "الزرقا" و"الزرقا كي ياكل ما يخلصش" (عندما يأكل لا يدفع). وصادف أن كان شكشوكة بصحبة أصدقائه فعاقبوه. ويضيف: "لو جاني برجلة كيما السيد اللي مشى توة نعطيه ونزيدو مصروفو كان يحب، أما أنا منحبش الباندية" (لو طلب مني صراحة مثل الذي سبقه لأطعمته ولأعطيته مالًا لو أراد. أنا لا أحب البلطجية). وبالفعل فقد سبق أحدهم وقال لشكشوكة إنه جائع ولا يملك مالًا لدفع ثمن السندويتش فتفنن الرجل في إطعامه مجانًا.

زبائن شكشوكة ليسوا مقتصرين على الرجال فقط، فموقعه يخوّل له أن يبيع سلعته لكلا الجنسين. لقد رأيت العديد من الفتيات القادمات نحوه لـ"حارة مروّب" يعلوها الكمون والفلفل الأسود والملح. ولا فرق بين الجنسين لدى شكشوكة، إذ يحرص هذا الشاب على تلبية رغبات الجميع وعدم إفساد تلك اللحظة الحلوة التي يعيشها زبائنه وقد علت حمرة الجعة محياهم ناطقة الانتشاء. وقال لي يومًا: "عذبوني جماعة البلدية.. في كل مرة يأتونني فيها يهددونني بإزالة مورد رزقي وأنا أعيش التهديد منذ زمان، وفي كل ليلة أفتح فيها عربتي للزبائن أقول إن هذه آخر ليلة. أنا لم أسرق مال الناس ولم أدخلهم للسجون ولم أعذب أحدًا ولم أختر أن أكون فقيرًا.. ولا أحلم بأي عمل سياسي ككل هؤلاء الذين نراهم في التلفزيون لماذا يريدون قتلي؟".

وقبل أن أنسى، لشكشوكة امتياز خاص في عمله، إذ يمكن لك أن تقوم بنفسك بتحضير أكلك وشواء "النقانق" فربما يبالغ شكشوكة أحيانًا في وضع الهريسة الحارة.

باعة المروّب لهم قدرة عالية على استيعاب السكارى ليلًا

مع "الرفاق" في شارع مرسيليا

في الليلة الموالية، لم أمرّ على شكشوكة، وقد افتقدني سائلًا عني أصدقائي قائلًا "وينو أكا الطويل لي يلبس مرايات لي ميحبش الحار؟" (أين هو ذاك الطويل الذي يرتدي نظارات ولا يحب الحار). فأجابه الشباب أنني في شارع مرسيليا هذه الليلة. وبالفعل، عرجت على مراد (قال لي أن لا أكتب اسمه الحقيقي لأن بينه وبين البلدية مشاكل عدة) وهو شاب ثلاثيني أيضًا. عيناه توحي بأنه دائمًا في حالة خوف، فحدقتاه متسعتان طوال الوقت. لباسه يميل إلى الأزرق، سروال دجين و"كابوش" كتب عليها "ITALIA" وحذاء رياضي. له أصابع نحيفة لكنها قوية والظاهر أنه اشتغل كثيرًا في حواضر البناء. وجسد مراد يشبه جسد شكشوكة في الكثافة التي يحتلها في الفضاء العام. وله ميزة في عربته الخشبية وهي أنها واسعة وفيها كمية أكبر من البيض "المروّب" وقد سمعت عنه أن سلعته جيدة وهو متخصص في المروّب.

وقفت أمامه طالبًا بيضتين، إذ تقول الأسطورة أن بيضتين قبل الدخول إلى "مغارة السعادة" كفيلتان بأن تشرب "محيطًا" دون قلق في المعدة. وسألته عن ذلك فعلًا فأجابني بأن الأمر صحيح وأن البيض المروّب له مفعول جيد في تهدئة المعدة وتحضيرها لاستقبال السائل العجيب. ثم أضفت له سؤالًا آخر: "هل تهددك الشرطة أو البلدية أحيانًا برفع عربتك من هنا؟". ضحك وقال "من النادر أن أتعرض لذلك. هل ترى كل هؤلاء المارة؟ كلهم يأكلون من عندي المروّب، فتخيل لو أجبرتني البلدية على رفع عربتي، ما مصير مزاج حوالي 500 زبون يمرون من أمامي كل ليلة؟". وكان كلامه واثقًا لأنه منطقي.. ربما.

تركته وذهبت إلى الساقي، بقيت برهة من الزمن في أحد الأماكن الجميلة والمعروفة، حيث التقيت بعض "الرفاق" ممن أعرفهم منذ زمن طويل ولا أزال أحبهم لطبيعة الحكايات التي جمعتنا في زمن مرّ كالعلقم. طبعًا فارقتهم بعد أن أصبحت أمتهن الصحافة. وحينما خرجت، أردت أن أعود إليه لاقتناع "حارة مروّب" بعد جلسة نقاش طويلة مع الأصدقاء. كان مبتسمًا حينما رآني، وربما كنت أثير ابتسامته لأني بعد النقاش أتحول إلى شخص ذو وجه أحمر ويداي لا تفارقان جيب معطفي. سألته إن كان العمل جيدًا هذه الليلة، فأجابني بأن الأمر كالعادة "الحمدولله". قلت لمراد أن يكشف لي سر تميزه في بيع المروّب، فقال "البهارات، السر في البهارات المضافة ودرجة حرارة البيضة"، وتوقف عن الكلام وأظنه لا يريد كشف سره لي.

البيض المروّب ليس مكلفًا كثيرًا، الواحدة بحوالي 350 مليمًا لكنه يحوي سعرات حرارية عالية وبالتالي طاقة كثيفة وهو بهذه الكيفية أكل مغذ جدًا. وباعة المروّب لهم قدرة عالية على استيعاب السكارى ليلًا، فقد دربتهم الليالي الطويلة على التعاطي مع كل أنواع المشاكل والعراك وتدخل الأمن والخطب الرنانة التي تخرج من أفواه رواد الحانات. وهم أناس بسطاء وهادئون حتى وإن كانوا طفيليين. سمعت من أحدهم في ليلة شتاء باردة إن أحد باعة المروّب كان يستمع إلى مشاكله كل ليلة. إذ بعد أن يكمل "زجاجات السعادة"، يمرّ إلى أحد الباعة ليتناول "كعبات المروّب" وينطلق في نجواه.. وقد حزن كثيرًا عندما مر في إحدى الليالي ولم يجده.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أنا أسكر.. إذًا أنا موجود": من الدوام إلى الحانة

تونس العتيقة.. محط الرحال في شهر رمضان