تعدّل إنصاف "باروكتها" بعناية فوق رأسها، بينما تدور عيناها يمنة ويسرة لتتأكّد من أنّ لا أحد يتابع حركاتها. تُسدل بعض الخصلات إلى جانب أذنيها بحنوّ بالغٍ، بينما تطالع شكلها في مرآة صغيرة تحملها معها في حقيبتها.
تبتسم وتقول: "لم أتقبّل بعدُ شكلي الجديد، وأحاول قدر الإمكان ألّا يؤثر ذلك على السير العادي لحياتي اليومية، أكثَرَ مما فعل". تلتقط أنفاسها وتضيف: "مذ خضعت للعلاج الكيميائي وبدأ شعري في التساقط، دخلت في حالة نفسية صعبة. لم تؤثر فيّ الآلام التي عانيتها من العلاج بقدر ما أثّرت فيّ خسارتي لشعري".
إنصاف، 32 سنة، تفطنت صدفةً، في إحدى حملات تقصّي سرطان الثدي في "أكتوبر الوردي"، إلى أنها تحمل الورم الخبيث في مرحلة متقدمة منه.
إنصاف (مربّية) لـ"الترا تونس": "لم أتقبّل بعدُ شكلي الجديد، وأحاول قدر الإمكان ألّا يؤثر ذلك على السير العادي لحياتي اليومية، أكثَرَ مما فعل، فمنذ خضعت للعلاج الكيميائي وبدأ شعري في التساقط، دخلت في حالة نفسية صعبة"
ومنذ ذلك الحين، دخلت إنصاف، وهي مربّية بإحدى رياض الأطفال، في دوامة التحاليل والاختبارات والصور الشعاعية والمتابعات الطبية المتواصلة، إلى أن بلغت مرحلة العلاج الكيميائي، وهي أصعب المراحل بالنسبة إليها، خاصّة وأنّها تعرضت لانتكاسة لأكثر من مرة، سواءً من الجانب الصحي في علاقة بمدى فاعلية العلاج، أو من الجانب النفسي.
-
أهمية التقصي المبكر لسرطان الثدي
"لو كنت قد تفطنت إلى إصابتي بسرطان الثدي في وقت أبكر، لما بلغت هذا الوضع الحرج"، تقول إنصاف مستدركة أنها ممتنة لتمكنها في الأخير، حتى ولو صدفةً، من إدراك إصابتها ومباشرتها العلاج، قبل أن يزيد الوضع تدهورًا.
وبالتوازي مع خضوعها للعلاج الكيميائي، تخضع إنصاف إلى متابعة نفسية من أجل تخفيف وطأة المرض عليها وتمكينها من قبول وضعها الجديد. تقول لـ"الترا تونس": "أنا بطبعي مرحة للغاية، في حياتي اليومية وفي عملي الدائم مع الأطفال، وأحمل طاقتي الإيجابية أينما حللت، لكنّ وضعي الجديد قلب حياتي رأسًا على عقب، وفقدت شغفي وطاقتي، وصار أقصى أحلامي أن أتغلب على هذا الداء وأعيش".
إنصاف (مربّية) لـ"الترا تونس": لو كنت قد تفطنت إلى إصابتي بسرطان الثدي في وقت أبكر، لما بلغت هذا الوضع الحرج من المعاناة اليومية سواءً من الجانب الصحي في علاقة بمدى فاعلية العلاج، أو من الجانب النفسي
تمسح سيلًا من الدموع التي انهمرت من عينيها، تلتقط أنفاسها ثم تستأنف الحديث: "أدرك جيدًا أنّ الجانب النفسي مهم جدًا في علاقة بعلاجي، لكنّ الأمر كله يفوق طاقة استيعابي، لذلك باشرت مؤخرًا المتابعة النفسية مع أخصائي في علم النفس، وأعتقد أنّني بدأت أسترجع بعضًا من شغفي بالحياة، وعدتُ أهتمّ لجمالي ومظهري، وأحاول قدر المستطاع أن أستعيد روحي المرحة"، قالت جملتها وابتسامة مشرقة ممزوجة بالدمع علت محيّاها.
وسرطان الثدي هو مرض تنمو فيه خلايا الثدي غير الطبيعية بشكل خارج عن السيطرة وتشكل أوراماً. ويمكن للأورام إذا تركت دون علاج أن تنتشر في جميع أنحاء الجسم وتصبح قاتلة، وفق تعريف منظمة الصحة العالمية.
وتبدأ خلايا سرطان الثدي داخل قنوات الحليب و/أو الفصيصات المنتجة للحليب في الثدي. والشكل الأولي لها (اللابِد في الموضع) لا يهدد الحياة ويمكن الكشف عنه في مراحل مبكرة. ويمكن أن تنتشر الخلايا السرطانية إلى أنسجة الثدي القريبة (سرطان الثدي الغزوي). ويخلق هذا أوراماً تسبب كتلاً أو سماكة.
ويمكن أن تنتشر السرطانات الغازية إلى العقد الليمفاوية القريبة أو أجهزة الجسم الأخرى (النقيلة). ويمكن أن تشكل النقيلة تهديدًا للحياة وأن تكون قاتلة. ويعتمد العلاج على الشخص ونوع السرطان وانتشاره. ويجمع العلاج بين الجراحة والعلاج الإشعاعي والأدوية.
منظمة الصحة العالمية: في البلدان التي لديها مؤشر تنمية بشرية منخفض، لا تحصل على تشخيص سرطان الثدي سوى امرأة واحدة من كل 27 امرأة في حياتهن وتموت امرأة واحدة من كل 48 امرأة بسببه
ويصيب سرطان الثدي بالخصوص النساء من كل الأعمار بعد سن البلوغ ولكن بمعدلات متزايدة في مراحل متقدمة من العمر. وفي عام 2022، شُخصت إصابة 2.3 مليون امرأة بسرطان الثدي وسُجلت 670 ألف حالة وفاة بسببه في العالم. وفق دراسة نشرتها منظمة الصحة العالمية في مارس/آذار 2024.
وتكشف التقديرات العالمية عن أوجه تفاوت صارخ في عبء سرطان الثدي بحسب مؤشر للتنمية البشرية. ففي البلدان التي لديها مؤشر تنمية بشرية مرتفع جدًا، تحصل على تشخيص سرطان الثدي امرأة واحدة من كل 12 امرأة في حياتهن وتموت امرأة واحدة من كل 71 امرأة بسببه.
في المقابل، في البلدان التي لديها مؤشر تنمية بشرية منخفض، لا تحصل على تشخيص سرطان الثدي سوى امرأة واحدة من كل 27 امرأة في حياتهن وتموت امرأة واحدة من كل 48 امرأة بسببه، وفق الدراسة ذاتها.
حنان، 45 سنة، سبق أن قامت بفحص مبكّر إثر ملاحظتها لكتلة صغيرة في أحد ثدييها، وبالكشف والاختبارات الطبية تبيّن أنها كتلة ورمية. تقول لـ"الترا تونس": "الإصابة بسرطان الثدي في عائلتنا تكاد تكون متوارثة، سبق أن أصيبت بيه والدتي وخالتي، وقبلهما أصيبت به جدتهما"، مضيفة: "هذا السبب جعلني متنبّهة دائمًا إلى أنّني قد أكون عرضةً للإصابة به بدوري".
حنان (موظفة) لـ"الترا تونس": "اكتشاف الكتلة الورمية في وقت مبكر مكّنني من درء الخطر، إذ بعد سلسلة من الفحوصات والاختبارات الطبية والعلاج، خضعت لعملية استئصال الكتلة الورمية لجراحة سرطان الثدي، وها أنا الآن بخير"
قبل تفطنها للإصابة بسرطان الثدي، حرصت حنان، وهي موظفة، على القيام بالفحص الذاتي عبر المتابعة الدورية لثدييها حتى إذا ما اكتشفت إحدى الإشارات التي قد تمثل صافرة إنذار، تكون قد تفطنت بشكل مبكر، وهو ما حصل معها بالفعل.
"اكتشاف الكتلة الورمية في وقت مبكر مكّنني من درء الخطر، إذ بعد سلسلة من الفحوصات والاختبارات الطبية والعلاج، خضعت لعملية استئصال الكتلة الورمية لجراحة سرطان الثدي، وها أنا الآن بخير"، تضيف حنان، معقبة: "صحيح أنّ رحلة العلاج لم تكن هيّنة بالمرة وذقت خلالها الأمرّين، لكنني فخورة جدًا بتغلّبي على هذا الداء الخبيث وتخلّصي منه بعد لأي شديد".
واستئصال الكتلة الورمية هو جراحة حافظة للثدي. ويعتمد هذا الإجراء على استئصال السرطان فقط مع بعض الأنسجة المحيطة به. وعند استئصال الكتلة الورمية، يزيل الجراح السرطان أو الأنسجة غير الطبيعية الأخرى ومقدارًا صغيرًا من الأنسجة السليمة التي تحيط به. ويضمن ذلك استئصال جميع الأنسجة غير الطبيعية، وفق ما توضحه مجموعة "مايو كلينيك" الطبية والبحثية.
حنان (موظفة) لـ"الترا تونس": "رحلة العلاج لم تكن هيّنة بالمرة وذقت خلالها الأمرّين، لكنني فخورة جدًا بتغلّبي على هذا الداء الخبيث وتخلّصي منه بعد لأي شديد"
ويُسمى استئصال الكتلة الورمية أيضًا بجراحة الثدي المحافظة أو الاستئصال الموضعي الشامل، لأنه لا يستأصل سوى جزء من الثدي. لكن على النقيض من ذلك، فخلال استئصال الثدي، تستأصل جميع أنسجة الثدي. ويُعد استئصال الكتلة الورمية خيارًا علاجيًا لسرطان الثدي في مرحلة مبكرة.
-
ضرورة الفحص الذاتي الدوري
يساعد الفحص الذاتي للثديين الذي يجرى للاطمئنان على الحالة الصحية على التثبت من المظهر والملمس الطبيعيين للثديين. وإذا تمت ملاحظة أي تغيّر بالثديين وبَدَوَا غير طبيعيين أو إذا لوحظ اختلاف بأحدهما عن الآخر عند مقارنتهما ، لا بدّ حينها من التوجه للفحص الطبي، وفق مجموعة "مايو كلينيك".
وفي هذا الصدد، وضحت القابلة والأخصائية في الصحة الإنجابية درصاف العويني، في حديث مع "الترا تونس"، طريقة القيام بالفحص الذاتي للاطمئنان على الوضع الصحي للثديين.
إنصاف العويني (قابلة وأخصائية في الصحة الإنجابية) لـ"الترا تونس": أنصح كلّ امرأة بالقيام بالفحص الذاتي لثدييها في منزلها، مرة كل شهر بعد انقضاء الدورة الشهرية، والتثبّت ممّا إذا كانت هناك أيّ تغيرات قد تكون مؤشرًا على الإصابة بورم
وتقول: "بعد انتهاء الدورة الشهرية والاغتسال، لا بدّ من القيام بالفحص الذاتي بشكل دوري وخطوات بسيطة، عبر الوقوف أمام المرآة وفحص الثديين بصريًا والتثبت ما إذا كانت هناك تغيّرات غير عادية عليهما أو على أحدهما، مثل ملاحظة تغيّر في حجم أحدهما مقارنة بالآخر، أو بروز بقعة حمراء أو زرقاء أو بنفسجية"، مؤكدة أنّ "جميعها إشارات تدلّ على ضرورة القيام بفحص طبي".
وتتابع العويني أنه "إذا لم تجد أي تغيرات بارزة للعين المجردة في ثدييها، تمرّ إلى مرحلة الفحص عبر اللمس"، مشيرة إلى أنه "لفحص ثديها الأيمن، تضع كفّها الأيمن خلف رأسها، وتقوم بحركات حلزونية بأصابع يدها اليسرى الثلاث، البنصر والوسطى والسبابة، بدءًا بالحلمة إلى غاية فحص كامل الثدي، وكذلك الإبطين".
وتوضح أنّه عند القيام بهذه الحركات الحلزونية يجب أن تركّز في ما إذا كانت هناك كتلة صغيرة في حجم الحمصة، أو آلام غير عادية عند الضغط، معقبة أنّ "هذا سبب القيام بهذه الخطوات بعد انقضاء الدورة الشهرية، كي لا يختلط الأمر بين آلام الثدي لدى الدورة وبين الآلام التي قد تشكّل أحد مظاهر الإصابة بورم".
إنصاف العويني (قابلة وأخصائية في الصحة الإنجابية) لـ"الترا تونس": سرطان الثدي لا يرتبط بالنساء المتقدمات في السن فقط، بل إنّ أي فتاة وصلت سنّ البلوغ عليها أن تباشر القيام الفحص الذاتي دوريًا لأنّ السرطان يحلّ صامتًا دون جَلَبة
وتعقّب محدثة "الترا تونس" أنه "بعد الحركات الحلزونية، على المرأة القيام بالضغط قليلًا على الحلمة، وإذا ما تسرّب ماء أو سائل أصفر أو بنّي أو دم، فهي إشارات للتوجه إلى أقرب قابلة أو طبيب للقيام بالكشف، حسب تقديرها.
وتنصح القابلة والأخصائية في الصحة الإنجابية درصاف العويني كلّ امرأة بالقيام بالفحص الذاتي في منزلها مرة كل شهر، بعد انقضاء فترة الطمث، والتثبّت ممّا إذا كانت هناك أيّ متغيرات على مستوى الحجم والشكل واللون أو الآلام أو أي تغيرات أخرى.
كما أكدت محدثة "الترا تونس" أنّ سرطان الثدي لا يرتبط بالنساء المتقدمات في السن فقط، بل إنّ أي فتاة وصلت سنّ البلوغ عليها أن تباشر القيام الفحص الذاتي دوريًا لأنّه يمكن أن يصيبها في أيّ وقت، خاصّة وأنه يحلّ صامتًا دون جَلَبة، وهو ما يستوجب التفقد الدائم للذات دوريًا، مردفةً أنّ "أي امرأة تجاوز سنها الـ40 عليها القيام بـ"الماموغرافي" مرة كل سنتين للتقصي.
و"الماموغرافي" تعني التصوير الإشعاعي للثدي أو التصوير الشعاعي للثدي، وهو فحص بواسطة الأشعة السينية يهدف لإعطاء صورة عن الثدي من أجل التشخيص المبكر لسرطان الثدي. ويلعب هذا الفحص دورًا هامًا في التشخيص المبكر لسرطان الثدي ويساهم في تقليل عدد حالات الوفاة نتيجة له حول العالم.
-
حملات التقصي المبكر لسرطان الثدي
وتنظم وزارتا الصحة والمرأة في تونس، خلال شهر أكتوبر/تشرين/الأول من كل سنة، سلسلة من الأنشطة حول التقصي المبكر لسرطان الثدي وكيفية الوقاية بالتعاون مع الهياكل المتدخّلة والجمعيات الناشطة في المجال.
وتهدف هذه الأنشطة إلى التوعية بأهميّة الكشف المبكر لمرض سرطان الثدي وخطورة إهمال أعراضه وكيفية تفاديه عبر نظام حياتي صحي ومن خلال معرفة كيفية القيام بالفحص الذاتي المرئي والحسي وبيان أهميّة المتابعة النفسية والطبية أثناء رحلة العلاج.
وتتوزع الأنشطة عمومًا بين:
- أيام وحملات تحسيسيّة للتقصي المبكر لسرطان الثدي لفائدة النساء والفتيات
- عروض لأشرطة وومضات تحسيسية وتوعوية وشهادات لنساء ناجيات من المرض
- أنشطة توعوية حول تقصي سرطان الثدي لفائدة سجينات
- عيادات طبية لتقصي سرطان الثدي لفائدة النساء والفتيات بالوسطين الريفي والحضري
- حصص تثقيف وتوعية لفائدة النساء والفتيات
- قوافل صحيّة وكشوفات سريرية ميدانية
- أنشطة رياضية وورشات تثقيفية وتظاهرات تنشيطية وتوزيع دعائم اتصالية وتوعوية
وتؤكد القابلة والأخصائية في الصحة الإنجابية درصاف العويني، وهي متطوعة ضمن حملات التوعية بضرورة التقصي المبكر لسرطان الثدي، أنها لاحظت إقبالًا لافتًا من النساء على الفحص، مصرّحة: "كثيرات أبدين رغبتهنّ في الفحص والمتابعة وتعلم كيفية القيام بفحص ذاتي، ووجدنا لديهنّ تجاوبًا واهتمامًا بسماع النصائح والتوصيات".
إنصاف العويني (قابلة وأخصائية في الصحة الإنجابية) لـ"الترا تونس": "في السنوات الأخيرة ارتفعت درجة الوعي والإقبال على التقصي المبكر لسرطان الثدي بشكل ملحوظ وصرنا نجد لدى النساء تجاوبًا واهتمامًا بسماع النصائح والتوصيات
وأضافت محدثة "الترا تونس": "في السنوات الأخيرة، ارتفعت نسبة الوعي بضرورة التقصي المبكر لسرطان الثدي بشكل ملحوظ، بفضل الومضات سواءً في وسائل الإعلام أو على منصات التواصل الاجتماعي، وصارت المعلومة تصل بسرعة وبشكل أوسع في علاقة بأماكن تنظيم حملات التقصي المبكر في أكتوبر الوردي، لذلك أصبحت الحملات تلاقي إقبالًا لافتًا مقارنةً بالسابق".
وتهدف منظمة الصحة العالمية إلى خفض معدل الوفيات الناجمة عن سرطان الثدي في العالم بنسبة 2.5% سنوياً، وبالتالي تجنب 2.5 مليون حالة وفاة من جراء سرطان الثدي على مستوى العالم بين عامي 2020 و2040. ومن شأن خفض معدل الوفيات الناجمة عن سرطان الثدي في العالم بنسبة 2.5% سنوياً أن يتفادى 25% من الوفيات الناجمة عن سرطان الثدي بحلول عام 2030 و40% بحلول عام 2040 في أوساط النساء دون سن السبعين.
وتؤكد المنظمة الدولية أنّ الركائز الثلاثة لتحقيق هذه الأهداف هي: التثقيف الصحي لتعزيز الكشف المبكر، والتشخيص المبكّر، والعلاج الشامل لسرطان الثدي.