21-أكتوبر-2018

أشرف الحبيب بورقيبة بنفسه على جمع مقتنياته الشخصية في ضريحه المشيّد (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

أجاب الحبيب بورقيبة الابن (1927-2009) في كتاب "تاريخنا" الذي أثثه محمد كرو عن سؤال حول تاريخ ودوافع تشييد ضريح آل بورقيبة بالقول: "كان ذلك بين الستينيات والسبعينيات لما تم إعداد مسار الطريق الساحلي وإعادة تثبيت القبور، في ذلك الوقت حصل بورقيبة على الأرض التي تضم ضريحه الآن، ولم تكن هناك تربة محفوظة لعائلة بورقيبة بل كانت القبور فردية ومتناثرة، وكانت كل عائلة منستيرية تعرف قبور ذويها. جمع أبي رفاة والديه من جده ووالدته في ذات المكان الذين هم فيه الآن، وكان ذلك مصدر إلهام لتشييد ضريحه في المستقبل وهو المنزل الوحيد الذي يملكه.. وبذلك ادخر بورقيبة جدلًا حول مصير رفاته عند الممات ولم يناقش خياره ذلك أحد ولم يكن قابلًا للنقاش".

اقرأ/ي أيضًا: روضة آل بورقيبة في المنستير.. هكذا شيد الزعيم مرقده الأخير (الجزء الأول)

وأضاف الحبيب بورقيبة الابن قائلًا: "منذ سنة 1960، شارك العديد في تصميم التفاصيل المعمارية وقد استثمر عشاق الأرابيسك في المشروع، وقد اعتنى بذلك الباهي الأدغم وقد استغرقت عملية البناء أكثر من 10 سنوات وتم الإسراع في تهيئة الضريح سنة 1970 بعد النوبة القلبية التي أصابت بورقيبة سنة 1967 والتي كادت تودي بحياته". واسترسل الابن قائلًا: "بورقيبة رومانسي اضطر إلى أن يعيش حياة براغماتية، في جميع الميادين؛ الحياة، والدين، والسياسة والموت.. هو من الذين لم يستسلموا ببساطة لمنطق الواقع ولكن نظم نفسه بتنظيم الحقيقة". هكذا تحدث بورقيبة الابن عن أبيه في الكتاب الذي أثثه محمد كرو تحت عنوان "HABIB BOURGUIBA Jr NOTRE HISTOIRE" (الحبيب بورقيبة الابن: تاريخنا).

الحبيب بورقيبة الابن: استغرقت عملية بناء الضريح أكثر من 10 سنوات وتم الإسراع في تهيئته بعد النوبة القلبية التي أصابت بورقيبة سنة 1967 والتي كادت تودي بحياته

هذه بعض الحقائق المروية حول تشييد ضريح بورقيبة وآله، وهو من المعالم الحديثة في تونس التي نستشرف من خلالها شخصية الحبيب بورقيبة كرمز للحكم والقيادة، ويضطرنا ذلك في البحث عن مكامن القوة والضعف في شخص حام حوله جدل كبير بين مناصريه ومعارضيه على مدى حقبة حساسة في تاريخ البلاد التونسية.

اتصل "الترا تونس" بالباحث في التاريخ محمد سعيد، وسألناه في البداية عن دوافع بورقيبة لبناء هذا الضريح الضخم في مسقط رأسه بالمنستير فقال: "الحبيب بورقيبة كان زعيمًا قاوم الاستعمار وحكم البلاد، وكانت له شخصية كاريزماتية وشهد في شبابه تحولات جذرية في العالم وتأثر بزعماء العالم وقيادييه. كان يحلم بالعظمة، ولا يمكن أن ننفي تأثره الشديد بشخصيات عالمية مثل مصطفى كمال أتاتورك ولينين رغم أنه لم يكن شيوعيًا فهو شهد انبعاث الحركات الاجتماعية والنقابية في العالم التي أنزلت السياسة إلى الشارع وخرجت بها من الصالونات والقاعات المغلقة. فالإحساس بقوة المشروع الذي يحمله ومحاكاة قادة العالم يدفعه إلى تخليد تاريخه ببناء ضريح ضخم يكون مزارًا يحفظ الذاكرة والتاريخ".

صورة قديمة لروضة آل بورقيبة في المنستير

وواصل محمد سعيد قائلًا :"لم يكن الدافع لبناء الضريح ما ذكرناه آنفًا فقط، وإنما بورقيبة في لاوعيه يحتفظ لنفسه بصورة الحاكم ويسترجع بطريقة مبطنة صورة السلطان الحفصي. بورقيبة كوّن بلاطًا إذ كان يراه المحيطين به في صورة المنقذ، ويمكن أن نلاحظ رواسب ثقافة وعادات البلاط والقصور السلطانية مترسبة في الهوية التونسية. فلا ضير أن يخلد ذكراه بضريح عائلي على شاكلة الأضرحة التي عهدناها خاصة في العهد الحفصي، إذ يتم تجميع رفاة أفراد الأسرة الواحدة في الزوايا والمساجد، وقع تكريس هذا التقليد في العهد الحفصي وطوره الأتراك، ويمكن القول أن روضة آل بورقيبة هي ردة فعل على ما يسمى بتربة البايات وهذا يعتبر من الرواسب في لاوعي بورقيبة".

محمد سعيد (باحث في التاريخ): روضة آل بورقيبة هي ردة فعل على ما يسمى بتربة البايات وهذا يعتبر من الرواسب في لاوعي بورقيبة

وحول الخصائص العمرانية للضريح قال محمد سعيد: "روضة آل بورقيبة مزيج من الظواهر المعمارية أي القباب الخضراء، والمنارات، والرخام الأبيض، والأسيجة الحديدية وهي تشكل خليطًا من المدارس العمرانية المغربية والأندلسية والمشرقية من جهة، والمدارس الغربية سواء إيطالية أو فرنسية من جهة أخرى. ولكن في المجمل لم تخرج عن نطاق الفن المعماري التونسي".

هذا المزيج من الظواهر الذي ذكره الأستاذ محمد سعيد في حديثه معنا لم يكن في الهندسة المعمارية فحسب، حيث لاحظنا خلال جولتنا في الضريح الغرفة المفتوحة للعموم المؤثثة ببعض مقتنيات الحبيب بورقيبة. إذ نلاحظ داخل إحدى الخزائن البلورية بعضًا من ملابسه التي حفظها الشعب التونسي وهي خليط بين الملابس التونسية والافرنجية، فنجد الجبة والبلغة وكذلك البدلة الفرنسية والطربوش. كما عُرضت في الغرفة بعض الأغراض والأدوات الشخصية لبورقيبة مثل النظارات وقلمًا أهداه إياه الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغن. وأهم ما يجلب الانتباه هي بطاقة التعريف القومية التي تحمل رقم 00001 وكذلك جواز السفر الديبلوماسي ووسام الاستقلال خاصته، وذلك عدا على وجود مكتبه الخاص في هذه الغرفة.

المكتب الخاص للحبيب بورقيبة (ماهر جعيدان/الترا تونس)

ومعلوم أن الحبيب بورقيبة قد أشرف في حياته على جمع المحتويات المعروضة بما يكسب ذلك أهمية في فهم ثقافة الرجل ودوافعه لانتقاء كل كبيرة وصغيرة بعناية، غير أن بورقيبة كانت له زيارتين أو ثلاثة فقط للضريح بعد انقلاب 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987، إذ ظل في منفاه الأخير في "دار الوالي " حتى حُمل إلى الضريح محمولًا على الأعناق بعد وفاته في 6 أفريل/نيسان 2000.

اقرأ/ي أيضًا: الأخوان حفوز.. قصة مناضلين تونسيين اغتالتهما اليد الحمراء

ولم تكن الهندسة المعمارية والمعروضات من الأثاث وحدها كفيلة بأن تكشف عن جزء من الدوافع التاريخية والنفسية للرجل في تشييد الضريح، بل أن الأبيات الشعرية المنحوتة على اللوحات المرمرية والمثبتة أسفل المنارتين تكشف عن عشق بورقيبة للمدائح في شخصه. ولعل ذلك يشكل "جزءًا من ثقافة البلاط، فالعكاظيات الشعرية من صميم أدبيات المجتمعات التقليدية، ورغم تأثر بورقيبة بالثقافة الغربية فإن تعليمه الصادقي المزدوج يحمله على تجسيد اللاوعي المشترك بينه وبين التقاليد" وذلك على النحو الذي أفادنا به الباحث محمد سعيد.

ومن بين القصائد المنقوشة، قصيدة بعنوان "تحية المجاهد الأكبر في عيد ميلاد الجيش الوطني" لجلال الدين النقاش نُظمت في 24 جوان/يونيو 1956 يقول مطلعها:
حي يا شعب سيد القواد     وافتخر بالحبيب رمز الجهاد
وتنتهي بالأبيات التالية:
فلتردد أنا الفداء لشعبي       وزعيمي ورايتي وبلادي
ولتعش تونس تنال أمانيها   وعاش الحبيب رمز الجهاد

 الأبيات الشعرية المنحوتة على اللوحات المرمرية والمثبتة أسفل المنارتين في الضريح تكشف عن عشق الحبيب بورقيبة للمدائح في شخصه

كم توجد قصيدة أخرى تحت عنوان "يومك الخالد" نظمها مصطفى خريف في جوان/يونيو 1956:
سيرى الله ما عملتم ويبقى       أثرا خالد البنا لا يزلزل
أمة قادت الحضارات والفكر   وعاشت مجدا تليدا مؤثل

وفي الجانب الآخر، قصيد لأحمد خير الدين تحت عنوان "أعرفت وجه أسيرك المتحرر" نُظمت في 16 أوت/أغسطس 1956. كما نحتت له قصيدة "يا سيد الأسياد" على قطعة رخامية معلقة في الباحة الخارجية للضريح. فيما توجد أيضًا قصيدة لمحمد الصغير ساسي مطلعها:
كانك مسلم غيور        ادخل في حزب الدستور
الغادر يمشي مغدور    وبورقيبة انشاء الله منصور

ونُصبت في إحدى الأركان قصيدة  "تولد في المستير أعظم قائد" للهاشمي للهاشمي المدني تقول:
نبت غصن الحب في ديسمبر        وفي أوت شمينا الزهر والعنبر
إنجازات فوت القيمة                  الخير ياسر والزيادة ديما
الإنتاج والتصنيع طم طميمه         التخطيط يولد والحبيب يفكر

اللوحة الرخامية لقصيدة "كانك مسلم غيور" (ماهر جعيدان/الترا تونس)

ويبدو من خلال هذه العينات الشعرية تجلي النرجسية وتضخم الأنا في شخصية بورقيبة الذي كان يعشق قصائد المدح والثناء، إذ كان يخصص شهر أوت/أغسطس من كل سنة لاستقبال الشعراء من كل أنحاء البلاد ليلقوا بين يديه شعرًا في المدح، وذلك بقصر المرمر بسقانص بمناسبة إحياء عيد ميلاده بتاريخ 3 أوت/أغسطس من كل سنة.

شيّد الحبيب بورقيبة قبره بنفسه، وجمع في الضريح أهله غير أن ابنه الحبيب من زوجته الأولى مفيدة قد دفن سنة 2009 بضاحية المرسى حسب إرادة زوجته نائلة فما كل ما يتمناه المرء يدركه.

ولم يعد ضريح بورقيبة، بعد ثورة جانفي/كانون الثاني 2011، مزارًا فحسب بل بات محور الحملات الانتخابية والدعوات السياسية. إذ كانت بعض الأحزاب، وعبر كافة المحطات الانتخابية، تطلق شعاراتها وبياناتها من مبنى الضريح ساعية لتحشيد الجماهير بالاستثمار في صورة "المجاهد الأكبر"، غير أن الذاكرة تحفظ للكثيرين من هؤلاء تخليهم عن بورقيبة عندما سجنه الرئيس المخلوع بن علي في "دار الوالي"، وظل في غربة معزولًا حتى مماته.

مراسل "الترا تونس" قبالة روضة آل بورقيبة (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

اقرأ/ي أيضًا:

علي الزليطني.. قصة أحد مناضلي الاستقلال المنسيين

الذكرى الـ60 لاستشهاد مصباح الجربوع.. حمل السلاح ضد المحتل قبل الاستقلال وبعده