محرز في آخر الثلاثينات من عمره. عندما كلّمه أحد معارفي وأخبره أنّني أريد أن أتحدّث معه، رحّب بالفكرة مباشرة. يوم اللقاء، الساعة العاشرة صباحاً، وقفت أنتظر تحت الجسر الذي يطل على شارع الحبيب بورقيبة وقرب عربة يشرف عليها عجوز يعدّ الساندويتشات. قدم محرز في الموعد. اتّجه إلى العربة، وقبل أن أبادره بسؤال، قال: "صحافي أنت مالا؟ باش تحكي علينا بالباهي، ماو؟ ولاّ كالعادة، نحن ديما طايرين وما نحترموش الإشارات"، واصل حديثه وهو يمضغ الخبز. "على كل نحن الحل للزّوالي، نقربو البعايد". 

قد يبدو كلام محرز سطحيًّا أو بلا معنى للبعض، لكن التمعّن في واقع الأشياء يثبت صحّة نظريّته. التاكسي الجماعي في العاصمة ليس مجرّد وسيلة نقل عاديّة بل تتخفّى حولها مجموعة من الحقائق الاجتماعية وفي بعض الأحيان النفسية.

التاكسي الجماعي في العاصمة ليس مجرّد وسيلة نقل عاديّة بل تتخفّى حولها مجموعة من الحقائق الاجتماعية وفي بعض الأحيان النفسية

ماذا يعني أن يُقبل المواطنون على وسائل نقل اشتهر سائقوها أنّهم يتجاوزون سرعات قياسيّة في الطريق؟ كيف يمكن أن يكون التاكسي الجماعي في علاقة مباشرة بالضغط المدينِي المسلّط على فئات اجتماعيّة معيّنة؟ هل ينقذ التاكسي الجماعي المواطن من تقصير الدولة في السياسات العامة فيما يتعلّق بالنقل العمومي؟ لماذا تنتشر هذه الأفكار المسبقة عن سائقي التاكسي الجماعي التي تصل إلى حدّ وصفهم بالبانديّة أو الخارجين عن القانون؟ 

اقرأ/ي أيضًا:  التاكسي الجماعي في سوسة.. فوضى وبلطجة وتحميل متبادل للمسؤولية


  • النقل العمومي: إشاعة

يستعدّ محرز لاصطياد المارّة. يتحدّث دون أن ينظر إليّ: "هاك تشوف، النّاس مزروبة. ما فمّة حتّى حد يتشكّى منّا". يتوقّف قليلًا، يسأل زميله عن عدد المقاعد المتبقية ثمّ يسترسل: "ماناش نيويورك ولا باريس. التونسي ما عندوش حل آخر. تحب تمشي للمرسى ولا لأي بلاصة أخرى؟ يا تستنى الكار ساعة ولا تاخو تاكسي بأكة الحسبة ولا تاكسي جماعي في لحظة".

منذ سنة 1985، حاولت الدولة التونسية ربط بعض أحواز العاصمة من خلال سكّة المترو الخفيف والتي تتضمّن 6 خطوط. تمّ إدماج شركة المترو الخفيف – التي أُسّسَت سنة 1981 – والشركة الوطنية للنقل (1963). منذ سنة 2003، أصبحت الجهة الوحيدة المشرفة هي شركة نقل تونس.

لطالما كانت السياسات العامة غير واضحة فيما يتعلّق بالنقل العمومي. تدهورت الخدمات منذ عقود. تدريجيّاً، أصبح القطاع الخاص يحل محل الدولة في العديد من المجالات. 

لطالما كانت السياسات العامة غير واضحة فيما يتعلّق بالنقل العمومي في تونس وتدهورت الخدمات منذ عقود وتدريجياً، أصبح القطاع الخاص يحل محل الدولة

في قطاع النقل، نرى تراجعاً جعل المواطن ميّالًا إلى التاكسي الجماعي بدلاً من المترو أو الحافلة. منير (36 سنة) يتنقّل يوميًّا من منوبة إلى البحيرة، مسافة يقطعها على مرحلتين. يشرح لي بنبرة ساخرة كيف يراوح بيْن المترو والتاكسي من منوبة ومن شارع بورقيبة يستقلّ التاكسي الجماعي. "الحقيقة أنّ الخط الرّابع، كبقيّة الخطوط، فيها العديد من المشاكل" يواصل منير "هي عمليّة حسابيّة دقيقة فيها تكلفة التاكسي مع 1500  مليم سُوم التاكسي الجماعي. معناها لازم نخلص فوق العشرلاف باش نوصل للخدمة". العديد من المواطنين مثل منير، يتّبعون استراتيجيّات مضبوطة في ظل غياب النقل العمومي. 

 اقرأ/ي أيضًا:  قاموس سواق النقل في تونس.. لغة منشقّة وخارجة عن المألوف

هذا الفراغ فسح مجالاً للتاكسي الجماعي. الطلب فاق العرض المقدّم من طرف الدولة. لذلك، في بلد وفي لتقاليده الريعيّة أصبحت رخصة التاكسي الجماعي مصدرًا للربح. وهو ما خلق صراعًا بين من يحتكرون هذا القطاع ومن يعتبرون أنفسهم ذوي أولويّة نظراً لحالة البطالة التي يعانون منها.

هكذا يرى محمّد الأمور، الذي تنقّلت لأراه في أحد أحياء حي التضامن. ما إن جلسنا في المقهى، دخل مباشرة في الموضوع وأخبرني أنّ مسألة رخص التاكسي الجماعي مجرّد شجرة تخفي غابة من الفساد والمحسوبية.  يؤكّد الشاب أنّه حاول عديد المرّات الحصول على الرخصة وحاول أن يشتغل كسائق لكنّه لم يتمكّن من ذلك. محمّد لا يغفل على ضرورة المحاسبة ويرى أنّ الحلول يجب أن تكون جذريّة. 

في بلد وفي لتقاليده الريعيّة أصبحت رخصة التاكسي الجماعي مصدرًا للربح. وهو ما خلق صراعًا بين من يحتكرون هذا القطاع ومن يعتبرون أنفسهم ذوي أولويّة نظراً لحالة البطالة التي يعانون منها

في 25 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، أصدر قاضي التحقيق الأول بالمكتب الثالث بالمحكمة الابتدائية بمنوبة 5 بطاقات إيداع في حق وال سابق، أعضاء من نقابة التاكسي الجماعي ومنتفعين برخص. مثل هذه الإجراءات، يرى محمّد أنّها غير كافية. فقيس سعيّد – على حدّ التعبير – لم يكن في مستوى الحدث ولم يفتح فعليًّا ملفّات الفساد كما وعد. 

اقرأ/ي أيضًا: منظومة النقل في تونس: ذبحة صدريّة في قلب الاقتصاد

  • أفكارٌ مسبَقة

أمام ازدياد عدد حوادث الطرقات التي يكون سببها التاكسي الجماعي وسوء المعاملة في بعض الأحيان، إضافة إلى "تهويل الأمور" على وسائل التواصل الاجتماعي، باتت الأفكار المسبقة التي تحوم حول التاكسي الجماعي وسائقيها منتشرة بكثرة. والحقيقة أنّ ما عزّز هذا الأمر هو الحديث عن رخصٍ تعطى بغير وجه حق أو في بعض الحالات إسناد رخص لأشخاص من ذوي السوابق الذين يمرّون بفترة إعادة تأهيل. 

علي (36 سنة)، قابلته في مدينة المرسى، يشتغل بسيارته الخاصّة ولا يملك رخصة. يحاول "ينطّر الفرنك" كما يقول. عندما يخرجُ صباحاً، لا يعرف وجهته. لكن في أوقات الذروة مثلاً، يمكن أن يشتغل على خط المرسى - البحر الأزرق. 

يؤكّد علي أنّ الأمور تسير هكذا مع العشرات من السيارات لكن السؤال الذي يطرح هنا، هل هي مجرّد تجاوزات بتواطؤ من رجال الأمن في نقاط معيّنة أم نتيجة طبيعيّة لاستقالة الدولة من أداء مهامها؟ 

عديدة هي الأفكار المسبقة التي تحوم حول التاكسي الجماعي وسائقيها وما عزّز هذا الأمر الحديث عن رخصٍ تعطى في بعض الحالات لأشخاص من ذوي السوابق الذين يمرّون بفترة إعادة تأهيل 

اقرأ/ي أيضًا: "الكوفواتيراج" في تونس.. "إذا أوقفتنا الشرطة سنقول إننا أصدقاء"

  • سياسات ليبراليّة ضحيّتها المواطن

الثامنة صباحاً، توجّهتُ إلى أكثر الأماكن التي تعجّ بالمواطنين الذين لا يزالون متشبثين لسبب أو لآخر بالمترو الخفيف. الجميع ينتظر المترو رقم 4 الذي ينطلق من محطّة برشلونة ليصل إلى منوبة. يتذمّر أحدهم: "لا يكفي أنّه يستغرق أكثر من ساعة للوصول للتيرمينوس، زيد يبطى علينا أكثر من نصف ساعة".

أقتربُ من شابّة يبدو من هيأتها أنّها طالبة. أسألها عن تأخّر المترو، فتشرح لي أنّ الوضع دائمًا على هذه الحال. شهد في الثانية والعشرين من عمرها، وتدرس العربيّة في كليّة الآداب. 

العديد من الطلبة تراوح بين المترو والتاكسي. أمّا عن التاكسي الجماعي فتؤكّد أنّها تخشى الحوادث. "هذا بخلاف أنّو ساعات السائقين يبداو يقلّلو في تربيتهم". غير بعيد عن هذه الشابة، تقف منيرة (38 عامًا) موظّفة بشركة انتبهت للحوار، فتدخّلت: "من المروج الرابع إلى ساحة برشلونة، أعتقد أنّ التاكسي الجماعي هو الشر الذي لابدّ منه. نعم هناك إفراط في السرعة وخشونة في التعامل في بعض الأحيان من طرف السائقين لكنّ الظروف الماديّة لا تسمح بالتنقّل بالتاكسي". 

في أفريل 2021، أكّد وزير النّقل الأسبق معز شقشوق أنّه تمّ وضع خطّة لإصلاح النقل العمومي، كأغلب البرامج الإصلاحية التي يتمّ الإعلان عنها لفائدة قطاع النقل، لم تطبَّق

في 8 أفريل/نيسان 2021، أكّد وزير النّقل الأسبق معز شقشوق أنّه تمّ وضع خطّة لإصلاح النقل العمومي وذلك بالشراكة مع الاتحاد العام التونسي للشغل. كأغلب البرامج الإصلاحية التي يتمّ الإعلان عنها لفائدة قطاع النقل، لم تطبَّق. تعمّقت أزمة قطاع النّقل الذي شهد تدهوراً على مدى عشر سنوات. تدهور راح ضحيّته آلاف المواطنين كشهد ومنيرة. 

اقرأ/ي أيضًا: في الـ514.. الأبواب مفتوحة والحافلة تسير و"نورمال"

  • ضد قهر "المتروبول"

في كتابه "مجتمع المقاومة" (كلمات عابرة، 2019)، يرى الباحث في علم الاجتماع ماهر حنين أنّ "السياسات النيوليبراليّة التي تتبّعها الدولة تحت غطاء العولمة، الهدف منها هو الهجوم الكاسح على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. 

وإذا ما قاربنا المسألة من جانب التنقّل كحق مواطني بامتياز، فإنّنا نخلص إلى أن الأمر لا يتعلّق بغياب الرؤى أو ضعف الاستراتيجيات بل هي سياسة ممنهجة للدّفع نحو عزل المواطن المُنْتَمِي إلى طبقات مهمَّشة في مربّعات متروبوليّة محدودة يتحرّك فيها دون غيرها. هذا ما ينتج انسحاباً للدولة الراعية التي توفّر النّقل. فتفسح المجال أمام قطاعات بديلة كالتاكسي الجماعي مثلاً، أين تغيب الرقابة ويكثر النقل العشوائي. 

الباحث في علم الاجتماع ماهر حنين: الأمر لا يتعلّق بغياب الرؤى أو ضعف الاستراتيجيات بل هي سياسة ممنهجة للدّفع نحو عزل المواطن المُنْتَمِي إلى طبقات مهمَّشة في مربّعات متروبوليّة محدودة 

كذلك نلاحظ ارتفاعاً في عددِ تطبيقات سيارات الأجرة. والتي توسّع الهوّة بيْنَ من يملك الثروة ومن لا يملِكُ إمكانيّة التنقّل. ههنا، يتحوّل المتروبول إلى سجن يضيق بمواطنين يجبرون على العيش على الهامش. أمر لم يتغيّر على مدى عشريّة كاملة، وكانت نتائجه رسائل لم تتلقّفها الحكومات المتعاقبة بمختلف توجّهاتها".

وككلّ القطاعات تقريباً، تعرّض الرئيس التونسي قيس سعيّد، بعد 25 جويلية/يوليو 2021 إلى إشكاليّات قطاع النّقل لكن لا تغيير يُذكر. كان من المنتظر أن تكون هناك مجموعة من الحلول العاجلة على المدى القصير كالأمن في الميترو أو المواعيد.. هكذَا يرى الأمور علاء (22 عامًا)، وهو ممّن ساندوا الرئيس، وفقه، ويضيف أنّ الاستشارة الإلكترونية ستأتي بمخرجات نعرفها. "أنا نحب نطلع في المترو مع أختي منغير مشاكل ومنغير لا نخاف عليها في أوقات معيّنة.. هذا حقي كمواطن. إن شاء الله نفهمو إلّي الحل موش في الكلام أما لازم الفعل والناس ما تقتنع كان ما ترى حياتها اليوميّة تبدلت حتّى في حاجات بسيطة". 

 

اقرأ/ي أيضًا:

أصدقاء وما هم بأصدقاء.. عن أحكام النقل في تونس

التنقل بين المدن التونسية.. متاعب تتجدد مع الأعياد