04-يناير-2024
دكتور في الفيزياء يبيع الملاوي.. معاناة أصحاب الدكتوراه في تونس مستمرة

يكثف أصحاب الدكتوراه في تونس المعطلون عن العمل احتجاجاتهم منذ ثلاث سنوات تبعًا لتواصل أزمتهم

 

منذ حوالي 7 سنوات، قرر محمد علي الثامري افتتاح محل تجاري لبيع "الملاوي" وهو خبز شعبي يتناوله التونسيون كوجبة فطور أو وجبة خفيفة، واختار لهذا المشروع محلًا صغيرًا في إحدى زوايا شوارع المروج الخامس وبنى عليه أحلامًا كبيرة.. لا تتعلق هذه الأحلام بتطوير المشروع أو ما شابه قط، بل باستكمال مساره الدراسي وذلك من خلال استثمار العائدات التي يدرّها المحل على بساطتها في إتمام أطروحة الدكتوراه التي كلفته وكلّفت عائلته الكثير. 

محمد علي الثامري لـ"الترا تونس": الأماكن التي يفترض أن يشغلها دكاترة داخل أسوار الجامعات تم السطو عليها من قبل أشخاص غير أكفاء تحصلوا فقط على الأستاذية في التعليم الثانوي

بينما يقوم بعمله بكل إتقان، يقول الثامري في حديثه لـ"الترا تونس" ويداه منشغلتان في تفطير العجينة التي كان قد أعدّها منذ برهة ورصفها على الرخام لتلبية حاجة الزبائن: "لقد كان حلم والدي أن يراني دكتورًا في أعلى المراتب، فاضطر إلى بيع قطيع الغنم والأبقار وقطعة من أرضه لكنه خسرهم وخسر الحلم لا تقصيرًا مني طبعًا، فقد نلت الدكتوراه ونالت مني الكثير جسديًا وماديًا.. كنت على مدى سبع سنوات أقضّي 10 ساعات أعمل بجدّ في المحل و10 ساعات بين المخبر والعائلة، وفقط أربع ساعات نوم.. لقد وهبت شبابي وحياتي للحصول على الدكتوراه فدرست بعد البكالوريا 12 سنة على أمل أن أجد نفسي في المكان الذي يليق بي، واجتهدت من أجل بلوغه، لكن للأسف لم تسعني سوى جدران هذا المحل الذي أصبح ملاذي الوحيد لإعالة عائلتي المتكونة من أربعة أفراد، أنا وزوجتي وابناي".

 

الثامري دكتوراه
لم يتغير شيء في حياة الشاب الدكتور محمد علي الثامري سوى تمكنه من إضافة حرفي "Dr" على واجهة محله الصغير لبيع الملاوي لتصبح "chez Dr Dali"

 

  • "لعنة الدكتوراه"

رغم تمكنه من الحصول على الدكتوراه في الفيزياء من كلية العلوم بتونس سنة 2021، وحصوله على براءة اختراع في تقنيات إخماد كل أنواع الحرائق بشتى أنواعها، لم يتغير شيء في حياة الشاب الدكتور محمد علي الثامري سوى تمكنه من إضافة حرفي "Dr" على واجهة محله الصغير لبيع الملاوي لتصبح "chez Dr Dali". يقول المتحدث إن شهادة الدكتوراه هي أعلى شهادة يمكن أن يتحصل عليها الإنسان، لكن على أرض الواقع لم يتمكن من الانتفاع بها وارتطم بواقع التفقير والتهميش والتهجير الذي يتخبط فيه هو وسائر المتحصلين على شهادة الدكتوراه وعددهم بالآلاف. 

حامل شهادة دكتوراه معطل عن العمل لـ"الترا تونس": الدكتوراه في تونس تحوّلت إلى لعنة.. عندما تتحصل عليها تتقلص حظوظك في إيجاد عمل أو تنعدم كليًا

يضيف الثامري: "أعي جيدًا بأن البلاد تمر بوضع مادي صعب، لكن الأماكن التي يفترض أن يشغلها دكاترة داخل أسوار الجامعات تم السطو عليها من قبل أشخاص غير أكفاء فهناك 2047 أستاذ متحصل على الأستاذية في التعليم الثانوي يدرّسون في الجامعات والكليات، وأصحاب شهادة الدكتوراه معطلون عن العمل واضطروا لممارسة مهن هشة ليتمكنوا من تحصيل لقمة العيش، فمنهم من تحصل على الدكتوراه في العلاقات الاجتماعية ويعمل (سمسارًا) ينسق بين أصحاب المنازل والمتسوغين وهناك من تحصل على الدكتوراه في التجارة العالمية ويشتغل في سوق الجملة.. الدكتوراه في تونس أصبحت عبارة عن لعنة أو سحر أسود عندما تتحصل عليها تتقلص حظوظك في إيجاد عمل أو تنعدم كليًا".

 

 

وأعرب محمد علي الثامري عن أسفه من عدم حصوله حتى على صفة دكتور، ففي بطاقة التعريف الوطنية نجد أنّ مهنته "عامل يومي"، والبعض الآخر من زملائه يُكتب لهم "شؤون المنزل" وهو ما يعسّر حتى عملية الهجرة إلى بلد آخر وهو حل لا يريد محدثنا اللجوء إليه ولم يفكر فيه عندما كان باحثًا وبإمكانه السفر، مشددًا على أنه وزملاءه الدكاترة متشبثون بالعمل في تونس والنهوض بها وذلك عبر براءات الاختراع التي قاموا بها وظلت مقبورة في الرفوف فيقول: "هناك من تمكن من الزيادة في إنتاج الحليب 7 مرات بنفس التكلفة وهناك من تمكن من صناعة مواد تمكّن النبتة من الاستغناء عن الماء، كما تمكن دكتور آخر من تطوير تقنية تمكن من الزراعة في السبخات وما أحوجنا لمثل هذه الاختراعات في الوقت الحالي الذي تشهد فيه البلاد موجات جفاف غير مسبوقة.. لكن للأسف لا وجود لتوجهات أو نوايا لاستثمار قدراتنا".  

حامل شهادة دكتوراه معطل عن العمل لـ"الترا تونس": مناظرة انتداب الدكاترة تُفتح مرة كل خمس سنوات ويُطلب فيها 1100 خطة 800 منهم ترقيات أي أن المناظرة تُفتح لـ 300 دكتور فقط

وأفاد محمد علي الثامري بأن مناظرة انتداب الدكاترة تُفتح مرة كل خمس سنوات ويُطلب فيها 1100 خطة 800 منهم ترقيات أي أن المناظرة تُفتح لـ 300 دكتور فقط، في حين أن عدد الدكاترة المتخرجين طيلة السنوات الخمس يبلغ 5000 دكتور أو أكثر، لافتًا إلى أن الحلول موجودة وهي توفير رواتب الملحقين والعرضيين وغيرهم لانتداب أساتذة مساعدين علاوة على فتح باب الانتداب في هياكل البحث بالوزارات التي تحتوي على العديد من الخطط الشاغرة.

وبيّن محمد علي الثامري أن حراك الدكاترة المعطلون عن العمل كان قد طالب بحقه في الانتداب عبر العديد من السبل السلمية فنظم مسيرة " الأقدام الحافية" من سوسة إلى تونس كذلك مسيرة إلى مجلس النواب لكنهم لم يجدوا آذانًا صاغية كما قدموا مبادرة تشريعية للبرلمان بتاريخ 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 طالبوا فيها بقانون استثنائي يجمع كل الدكاترة العاطلين عن العمل للانتداب على 3 سنوات وتنظير شهادة الدكتوراه في السلم الوظيفي لأنه غير معترف بها في الانتداب وخاصة دكاترة الجامعة أي أنه لا يمكن إلا للدكاترة الالتحاق بالجامعات للتدريس.

 

دكتوراه
الثامري لـ"الترا تونس": من زملائي من تحصل على الدكتوراه في العلاقات الاجتماعية ويعمل (سمسارًا) وهناك من تحصل على الدكتوراه في التجارة العالمية ويشتغل في سوق الجملة

 

  • ملف الدكاترة المعطلون عن العمل يراوح مكانه

يكثف الدكاترة المعطلون عن العمل احتجاجاتهم منذ ثلاث سنوات تبعًا لتواصل أزمتهم دون حلول تلوح في الأفق، ورغم توجه وزارة التعليم العالي والبحث العلمي لانتداب العديد من الدكاترة، فإن افتتاح مناظرة سنة 2021 لـ 1130 خطة لم يحل المشكل لأن عدد العاطلين أصبح بالآلاف وطال انتظارهم مما اضطر البعض للهجرة وأحال البعض الآخر على البطالة القسرية، وحسب إحصائيات الدكاترة فإن 85% منهم عاطلون عن العمل وهي نسبة كبيرة تزيد من حالة الإحباط التي يعيشونها.

وقد أكد وزير التعليم العالي منصف بوكثير في لقاء تلفزيوني  بتاريخ 15 ديسمبر/ كانون الأول الفارط أن الوزارة تعتزم انتداب 920 دكتور بعد أسبوع من تصريحه لكن وبدخول السنة الجديدة لم يتم الإعلان عن أي مناظرة وهو ما يثير استياء الدكاترة الذين يعتبرون أن الوزارة تنتهج سياسة التسويف التي لا تراعي وضعياتهم.  

الناطقة باسم الدكاترة الباحثين التونسيين لـ"الترا تونس": مناظرات انتجاب الدكاترة تشوبها العديد من شبهات الفساد ورفعت قضايا في شأنها لم يتم البت فيه

من جانبها بينت الدكتورة مريم الدزيري الناطقة باسم الدكاترة الباحثين التونسيين أن الدكاترة قاموا بالعديد من التحركات أولها يوم 10 أكتوبر/ تشرين الأول أمام المسرح البلدي ثم مسيرة الأقدام الحافية التي انطلقت من سوسة يوم 25 نوفمبر/ تشرين الثاني ووصلت إلى القصبة يوم 27 من الشهر نفسه، ثم يوم 20 ديسمبر/ كانون الأول مسيرة من مقر وزارة التعليم العالي إلى البرلمان كما تم إيداع مطلب برئاسة الحكومة لمقابلة رئيس الجمهورية ومطلب لجلسة استماع بالبرلمان لكن لم يتم الإنصات إليهم من أي جهة كانت معتبرة أنه عار على الدولة عدم استقبال دكاترة كانوا قد قطعوا 148 كلم مشيًا على الأقدام.

وتؤكد الدزيري في حديثها لـ"الترا تونس"، أن الجامعات التونسية تضم أساتذة التعليم الثانوي والحرفيين والخبراء ما عدا الدكتور الباحث الذي يفترض أن يكون داخل أسوار الجامعة التي تعج المخابر بالتقنيين أو الإداريين عوض الدكاترة الباحثين مشيرة إلى أنه في سنة 2021 انعقد مجلس وزاري وأبرم محضر جلسة لانتداب الدكاترة المعطلين عن العمل ورصدت وزارة المالية على إثر هذا القرار ميزانية لكن وزارة التعليم العالي في بلاغ الانتداب لم تنص على الدكاترة المعطلين عن العمل فاجتاز المناظرة الأستاذة المبرزون وأساتذة التعليم الثانوي الحائزون على الدكتوراه والمتفقدون، وظل الدكتور المعطل عن العمل معطلًا رغم أن الميزانية رصدت من أجل انتدابه، كما لفتت إلى أن هذه المناظرة تشوبها العديد من شبهات الفساد ورفعت قضايا في شأنها لم يتم البت فيها، كما أن مطالب النفاذ للمعلومة التي قدمها الدكاترة الذين اجتازوا المناظرة للحصول على نتائجهم جوبهت بالرفض.

الناطقة باسم الدكاترة الباحثين التونسيين لـ"الترا تونس": حامل الدكتوراه في تونس يعيش وضعية صعبة جدًا، والخطط التي وعدت وزارة التعليم العالي بفتحها فيها فرز أكاديمي وإقصاء

وترى المتحدثة أن الـ 920 خطة التي وعدت وزارة التعليم العالي بفتحها فيها فرز أكاديمي وإقصاء على أساس مجموع النقاط الذي يحرم العديد من الدكاترة من التسجيل "وهذا قمة التنكيل بالدكتور أن تُمنع عليه عقود التدريس والساعات العرضية ومنحة البحث التي يحظى بها فقط الأساتذة القارين ثم تقع مطالبته بملف محترم"، وفقها. كما لفتت إلى وجود العديد من المغالطات من قبل الوزارة التي أنكرت وجود أساتذة ملحقين من التعليم الثانوي في حين أن جامعة جندوبة راسلت وأعلمت بوجود 17 أستاذ تعليم ثانوي كما تحدثت عن قطع أرزاق الأساتذة الملحقين والحال أنهم يتقاضون رواتبهم من وزارة التربية بما أنهم ملحقين.

وختمت مريم بالتأكيد على أن الدكتور التونسي يعيش وضعية صعبة جدًا، وكانت النقابات الطلابية قد دعت إلى تسوية ملف الدكاترة المقصيين عن العمل وانتدابهم في مراكز البحث والجامعات، داعية السلطة إلى إجراء حوار جدي مع كل مكونات منظومة التعليم العالي.