22-أغسطس-2019

بلقاسم الحداد يستمدّ الصبر والجلد من الصحراء ويقاوم سوداوية الواقع بقلب ينبض حياة وحلمًا (ذاكر بن صوف)

في الجنوب التونسي، وتحديدًا في ولاية قبلي، يقطن شاب تأرجح بين مسارات الحياة، ينهل من كل مسار يجد نفسه  فيه ولا يستسلم للواقع الذي قد يأتي بغير ما تشتهي نفسه. جنوبي الهوى، يستمدّ الصبر والجلد من الصحراء ويقاوم سوداوية الواقع بقلب ينبض حياة وحلمًا، فلم يستسلم حينما وجد نفسه في مواجهة البطالة بعد إنهاء دراسته الجامعية.

بلقاسم الحداد (شاب تونسي) لـ"ألترا تونس": الظروف هي التي كانت همزة وصل بيني وبين الحدادة التقليدية

اقرأ/ي أيضًا: فاروق العيشاوي.. شاب قارع البطالة بالعجلات المطّاطية

هو الشاب بلقاسم الحدّاد الذي أبى أن يكون عاطلًا عن العامل أو أن يعمل في غير اختصاصه بأجر يحطّ من كرامته، فكانت "صنعة" الأجداد ملاذه، ليرتمي في أحضان الحديد والنار، وينطلق فصل جديد من حياته عنوان الحدادة التقليدية.

"الظروف هي التي كانت همزة وصل بيني وبين الحدادة التقليدية، وهي التي جعلت من هذه المهنة الشاقة عشقًا لا غنى لي عنه في هذه المرحلة"، كلمات عبّر بها محدّثنا عن علاقته بالحدادة التقليدية.

أما عن امتهان هذه "الصنعة" فعليًا، يقول بلقاسم الحداد لـ"ألترا تونس"، "جدّي حدّاد وأبي حدّاد. هي مهنة توارثناها جيلًا بعد جيل وكنا نتعلّمها في الصغر لكن لم يخطر ببالي يوما أنّها ستكون مصدر رزقي خاصة وأنني خيّرتُ مواصلة تعليمي".

هي إرهاصات الواقع التي قوّضت حلمه في أن يعمل في اختصاصه بعد التخرّج وهو المتحصّل على الإجازة التطبيقية في الهندسة الميكانيكية ويحبّ اختصاصه ولكنّ سوق الشغل في تونس لن تستوعب كل أحلام الشباب، وفق روايته.

لا يخفي بلقاسم الحداد  أنه راض تمام الرضا بالعودة إلى إرث تركه أجداده (أحمد حداد)

"لكل امرئ من اسمه نصيب وأنا أحمل لقب الحدّاد في بطاقة التعريف الوطنية، والحدادة تسري فيّ كما يسري الدم في عروقي، ويميل قلبي إلى ممارستها، وأنا اليوم أستجير بها من البطالة"، هكذا لخّص بلقاسم حكايته مع الحدادة التقليدية.

اليوم، يخضع الحدّاد الشاب إلى الواقع ويفتح لنفيه باب مهنة يعزف عنها الشباب من جيله، وكبر طفل الخمس سنوات الذي يرافق والده إلى محلّ الحدادة وصار يبلغ من العمر ستة وعشرين سنة، وهو اليوم حدّاد مشهود له بالكفاءة في قبلي.

كان يراقب والده وهو يدق الحديد الساخن، ويمضي أيام العطل في استبطان أسرار مهنة الحدادة التقليدية، ولما اشتد عوده صار يساعده ويدرس بالتوازي، لتكون هذه "الصنعة" ملجأه حينما عزّ العمل بشهادته الجامعية، وفق تعبيره.

هو لا يخفي أنه راض تمام الرضا بالعودة إلى إرث تركه أجداده خاصة وأنه في حلّ من الاستغلال ومن التوقيت الإداري، وهو الذي يعمل في كل الأوقات بكل حريّة ودون تدخّل من مدير، على حدّ قوله.

وفي الحدادة التقليدية، الصناعة يدوية ونادرًا ما يلجأ الحداد إلى بعض الآلات التي تتطلّب هي الأخرى معاضدة اليد، وأما المطرقة والسندان ونار الكير فهي من الأساسيات في هذه المهنة إلى جانب أدوات أخرى تُستعمل في تطويع الحديد، طبقًا لما جاء على لسانه.

يسعى بلقاسم الحداد إلى تطوير مهنة الحدادة التقليدية مع الحفاظ على طابعها التقليدي

اقرأ/ي أيضًا: أنيس حبيب.. شغف "الجعة الحرفية" قاده إلى الأرجنتين ليعود محملًا بحلم

أما عن المعدّات التي يصنعها الحدّاد في قبلي، فتتغيّر حسب المواسم والفصول وهي في أغلبها مرتبطة بالفلاحة والنخيل على غرار الفؤوس والمناجل والمساحي، ناهيك عن السكاكين والسواطير في عيد الأضحى و"الجلم" في موسم الجز، ومعدّات لها علاقة بميكانيك السيارات، حسب حديث بلقسام الحدّاد

وإن كانت الحدادة التقليدية "صنعة" متوارثة في قبلي، فإنّ البعض هجرها نحو مهن أخرى لأنها لا تخلو من التعب والمشقة وخاصة تحمّل لفحات النار في قيظ الصيف، إلا أنّ محدّثنا أحبّها وهو اليوم مدين لوالده الذي لولا حرصه على توريثه إيّاها لكان اليوم أسيرًا للبطالة، على حدّ قوله.

يؤكد بلقاسم الحداد أن "صنعة" الأجداد بعض من هويّته (أحمد حداد)

بعد أن كان يتعلّمها على مضض في سنوات الطفولة ويخيّر اللعب على أترابه على البقاء في محلّ ساخن وسط أكوام الحديد، هو اليوم يسعى إلى تطوير هذه المهنة مع الحفاظ على طابعها التقليدي ذلك أن الناس يميلون اليوم إلى الأدوات المصنوعة يدويًا، طبقًا لحديثه.

وعن رؤيته لتطوير الحدادة التقليدية، يقول محدّثنا إن الأمر يتطلّب دراسة السوق وذلك بهدف طرح أدوات جديدة  يقبل عليه الحرفاء ويحافظ على صبغة الصناعة اليدوية، مشيرًا إلى أن الجيل الجديد يتقاسم هذه الرؤية ذلك وأنه يسعى رفقة ابنه عمه الذي يمتهن هو الآخر الحدادة إلى الإبقاء على وميضها، حسب تعبيره.

وبلقاسم الحدّاد الذي بات يتعامل مع الحدادة كفن يتطلّب الإتقان والحب في صناعة الأدوات الحديدة، يؤكّد أن "صنعة" الأجداد بعض من هويّته وأن هدفه تطويرها خاصة وأنّها جعلته مستقلًا ماديًا ووفرت له الاستقرار والراحة النفسية. وهذا الشاب، لم يمض أيامه في المقهى في انتظار وظيفة في الدولة أو عملًا في شركة خاصة، وتشبّث بأرضه و"صنعة" أجداده ليكون مثالًا في الاعتماد على الذات والاستثمار في الإرث الرمزي الذي يتركه الأجداد وتتوارثه الأجيال.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ياسمين القرمازي.. عندما تكون التجربة الشخصية حافزًا للاختراع

الـ"فريلانس".. وجهة جديدة لشباب تونس الباحث عن عمل