الحركة التشكيلية التونسية لم تكن أبدًا بمعزل عن الحياة الفكرية والاجتماعية والسياسية والثقافية السائدة في تونس وفي الوطن العربي والعالم، بل كانت ضالعة فيها كتابةً ومنجزًا جماليًا تحول مع الزمن إلى وثائق شاهدة ومواقف شاهقة على أحداث ووقائع، والدفاع عن القضايا الإنسانية في أبعادها الذوقية والقيمية. كما كانت لها إسهاماتها الموسومة بالتميز في النقاشات والسجالات والاختلافات وتصور البدائل التي سادت وطرحتها النخب الوطنية التونسية والعربية والعالمية طيلة النصف الثاني من القرن العشرين وما تلاه.
من بين الفنانين التشكيليين التونسيين الذين كانوا مثقفين غرامشيين ومبدعين مزدحمين بالأسئلة الحارقة في الحرية والوجود نجد الحبيب بيدة المثقف المتعدد الذي قضى أزيد من 4 عقود في الممارسة الثقافية بمعانيها الفلسفية والجمالية العميقة
لكن قلة قليلة من الفنانين التشكيليين التونسيين الذين نهضوا بتلك الأدوار، وكانوا مثقفين غرامشيين ومبدعين مهمومين ومزدحمين بالأسئلة الحارقة في العدم والحرية والوجود، ولهم مشاريع جمالية تسامق وتباري الزمن في خلوده.
ومن هذه الكوكبة المتفردة من التشكيليين التونسيين نجد الأكاديمي والرسام والناقد والكاتب الحبيب بيدة، المثقف المتعدد الذي قضى أزيد من أربعة عقود في الممارسة الثقافية بمعانيها الفلسفية والجمالية العميقة، أدواته في ذلك قلم وفرشاة وكلاهما في مواجهة البياض، بياض الورقة وبياض القماشات، والبياض طريق واثقة وصعبة نحو الحرية ومسك الحقيقة وتثبيتها بالأساليب المشتهاة المتخارجة من عقل وقلب المبدع.
ومن خلال معرضه الفني الشخصي الجديد "حوائيّات" الذي يحتضنه رواق دار الفنون بالبلفدير بالعاصمة تونس على امتداد أيام من شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2024، يكون الرسام الحبيب بيدة قد توغل بعيدًا بعد عشرات المعارض الجماعية وعدد من المعارض الفردية في الممارسة التشكيلية المثوّرة المغيّرة المنحازة لمدارات التجديد والبحث بأنات عن منابت الضوء والوقوف على ربى لم يقف عليها سواه.
من خلال معرضه الفني الشخصي الجديد "حوائيّات" يكون الرسام الحبيب بيدة قد توغل بعيدًا بعد عشرات المعارض الجماعية والفردية في الممارسة التشكيلية المثوّرة المنحازة لمدارات التجديد والبحث بأنات عن منابت الضوء
"حوائيات" هو جمع مؤنث لحواء الأم النابتة من الضلع الشارد لآدم والنازلين سويًا من السماء العليّة إلى الأرض المنبسطة المحفوفة بالغموض والتساؤل.
والحبيب بيدة المتمرس يأخذنا من خلال لوحاته الثلاثين ذات الحجم المتوسط إلى حرم الأسرار فنتحد بالأسطوري ونفتتن بالسحري من خلال مزج الأليف بالغريب والحقيقة بالوهم والخيال، فلا الزمان زمان ولا المكان مكان، إنه تسريد لقصة الخلق عبر تزمين ذهني ولوني يتخارج من عقل الفنان الفيلسوف الحبيب بيدة الذي تخير القماش محملًا بدل الورق من أجل تقديم وجهة نظره كمثقف حول أسئلة الوجود والمصير الأول والمنتهى وطرح سؤال العودة لونيًا، مع التزام واضح بالمرجعيات الحضارية والتراثية، فجاءت الألوان أثيرية شفافة وبروح أيقونية واضحة تمزج كل تلك القصص التي نعرفها عن حواء وتقدمها على نحو جمالي آسر ومدهش ومحفوف باللامعقول في بعض الأحيان.
الحبيب بيدة المتمرس يأخذنا من خلال لوحاته الثلاثين ذات الحجم المتوسط إلى حرم الأسرار فنتحد بالأسطوري ونفتتن بالسحري من خلال مزج الأليف بالغريب والحقيقة بالوهم والخيال، فلا الزمان زمان ولا المكان مكان
تأتي الأعمال المعروضة برواق دار الفنون بالبلفدير بتونس العاصمة محمولة على أجنحة التخييل والارتحال عبر دروب البديع في وصف بسيط بأنها سفر في فضاء الأعماق السحيقة للتفكير البشري يواكبه الخيال والتقليب في نقطة بداية الحياة المشفوعة باليأس الضيق تارة وبرؤى الأمل في عودة إلى الجنة الموعودة بعد الدينونة الكبرى والذي تجتمع كل الأديان على تسميته بالبعث أو ما وراء العقل البشري حسب المعتقدات والفلسفات القديمة.
يرتحل بنا الحبيب بيدة بعيدًا عن التصوير الفج والفلكلورية التراثية إلى بساطة الغيم ومروج الأزهار البرية على ضفاف أنهار قصيّة، ويتجول بنا في كون حواء المقدس فتتجلى حوائيات تسبحن كالأطياف في مدارات ذائبة مأخوذة بالمطلق، تواصل غوايتها لآدم/نحن، فيبهرنا القوام الرشيق الذي يشبه آنيات الزهر والملامح الصبوحة والثغور المغرية والأصابع القرنفلية.
يرتحل بنا الحبيب بيدة بعيدًا عن التصوير الفج والفلكلورية التراثية إلى بساطة الغيم ومروج الأزهار البرية على ضفاف أنهار قصيّة، ويتجول بنا في كون حواء المقدس فتتجلى حوائيات تسبحن كالأطياف في مدارات ذائبة مأخوذة بالمطلق
حوائيات، إذ نظرنا إلى عمقها الشعري، نجد أنها تمجيد الرسام للحياة باعتبارها فسحة قصيرة.. نعم، لقد كان الرسام الكبير الحبيب بيدة إزاء الحياة بكل معانيها وعمقها الأصيل، الحياة بما هي جسر ومرقى عالم البدايات والنهايات.
الحبيب بيدة، وقد تقدمت فرشاته في التجربة، بدا تأمليًا، يقلّب الفكرة بين عقله وقلبه ووجدانه وفؤاده قبل كتابتها باللون وحملها إلى مناطق الجدل والنقاش. لقد بدا الفنان صوفي الملامح من خلال تخيره لمبحث شديد التوهج والإثارة الفكرية والفلسفية وهو قصة حواء وما يحيط بها من إيحاء وتوهم وغواية.
"حوائيات" هو تمجيد للحياة ومحاكاة هووية لها من خلال إيلاء عنصر من عناصرها وهي المرأة المنفعلة والفاعلة والقطب الذي تدور حوله ومنه الحياة عبر رحلة لونية أنجزها "الحبيب بيدة" بفرشاة مقتدرة وبوعي مثقف
"حوائيات " الغائمة السابحة في سحيق أعمال الرسام التونسي "الحبيب بيدة" تأتي متلونة ومتقلبة الأحوال وتمتح أساسًا من المخزون الفيزيائي والنفسي لجسد المرأة سليلة حواء الأم الأولى وذلك وفق تمشٍّ بصري خاضع بالأساس لأحوال الرسام المبدع وهو بصدد سرد القصة من وجهة نظره وبسطها أمام الرائي متوخيًا الغواية خطًا ومرجعًا تاريخيًا و"الكادر" الأاكواريومي اللعبي مساحة جذلى محتوية لألوان حارة باذخة، فالقة، مدوخة، مجنونة طورًا، وهادئة وضبابية في أطوار أخرى، وخطوط سانحة كانت المنطلق الأول للفكرة على القماش ولم يتخلص منها الرسام بل جعلها من معالم رحلته وهو يسكب اللون ويمزجه فييقّن الفكرة المراد إضاءتها ويجعل بذلك من الشكل معنى إضافيًا بعيدًا عن الوظيفية الفجة التي يجنح إليها بعض الرسامين رغم براعتهم.
"حوائيات" هو تمجيد للحياة ومحاكاة هووية لها من خلال إيلاء عنصر من عناصرها وهي المرأة المنفعلة والفاعلة والقطب الذي تدور حوله ومنه الحياة عبر رحلة لونية أنجزها "الحبيب بيدة" بفرشاة مقتدرة وبوعي مثقف مجرب وشاهد على الحياة.