25-أكتوبر-2024
العفو الدولية علم تونس جمعيات منظمات احتجاجات

(محمد مسرة/وكالة الصور/epa) يتحول العلم إلى أحد أدوات الهيمنة الرمزية على الجمهور، وتُنسى كل المعاني التي ارتبطت به

مقال رأي 

 

هناك بالنسبة للتونسيين فرص كثيرة لإظهار الاعتداد بتاريخهم، وهم في الغالب يستغلونها لإبراز تميزهم عن غيرهم من العرب وحتى المسلمين. قصة الاحتفال بالعلم التونسي، أو بذكرى إحداثه على وجه التدقيق، هي من الفرص الأكيدة للتعبير عن هذا الشعور. في الحقيقة لا نجد لدى معظم الدول العربية، بل وحتى الإسلامية مرة أخرى، مثل هذا النوع من الاحتفالات. قد يعود ذلك إلى أن مسار إحداث الراية الوطنية التونسية واضح، مثل أن سياقه واضح، على العكس مما نجده في الغالب لدى عديد الدول الأخرى حيث لا يزال المؤرخون في كثير من الأحيان مضطرين للبحث المضني من أجل الكشف عن الجذور التاريخية لراياتهم الوطنية.

هناك بالنسبة للتونسيين فرص كثيرة لإظهار الاعتداد بتاريخهم، وإبراز تميزهم عن غيرهم من العرب وحتى المسلمين وقصة الاحتفال بالعلم التونسي، أو بذكرى إحداثه على وجه التدقيق، هي من الفرص الأكيدة للتعبير عن هذا الشعور

يصرّ التونسيون على أن العلم التونسي أُحدث في سنة 1827، وهو بذلك أقدم علم في البلدان العربية بل وحتى الإسلامية، (مرة ثالثة). أما الأكثر تحمسًا فإنهم يقولون إنه أقدم حتى من العلم التركي. تاريخياً، لا نجد في سنة 1827 سوى إبداء الباي حسين، الحاكم آنذاك على بايلك تونس والتابع اسميًا للسلطنة العثمانية، رغبته في أن يكون للبلاد سنجق خاص يمكن تمييزه عن السنجق العثماني. لكن هذه الرغبة لن تجد طريقها للتنفيذ سوى في سنة 1831. معنى ذلك أن التاريخ برغبة الباي أصبح لدى كثير من التونسيين، وحتى لبعض المؤسسات الرسمية في الدولة، ممارسة مقبولة. تاريخيًا تسمى هذه مغالطة، وهي تأتي تجسيدًا للرغبة في ربح أربع سنوات أخرى من "العراقة الوطنية".

قلة ممن يحتفلون بسنة 1827 ينسون أن الأمر يتعلق بالسنة التي حطم فيها التحالف البحري البريطاني الفرنسي الروسي الأسطول العثماني في معركة نافارين البحرية الكبرى، والتي ستكون إيذانًا بالسيطرة الكاملة والنهائية للأوروبيين على المتوسط. سيفتح ذلك الباب لاحتلال فرنسا للجزائر دون أن تخشى ردة فعل بحرية قوية من العثمانيين، أقل من ثلاث سنوات فقط بعد هذه المعركة الكارثية على السلطنة. شارك التونسيون في هذه المعركة ببعض السفن التي تحطمت كلها تحت قذائف التحالف الأوروبي، مثلما ستشارك لاحقًا في حرب القرم، ولكن هذا سياق آخر.

الهدف من إبداء حسين باي رغبته في تميز تونس بسنجق خاص كان حرصه على أن يميز الأوروبيون في البحر سفن تونس عن سفن السلطنة العثمانية حسب بعض المؤرخين والغاية كانت إبراز أن تونس لها مصالحها الخاصة في البحر

يذكر بعض المؤرخين أن الهدف من إبداء حسين باي رغبته في تميز تونس بسنجق خاص كان حرصه على أن يميز الأوروبيون في البحر سفن تونس عن سفن السلطنة، حيث تتمتع تونس بعلاقات سمحت لها بإبرام معاهدات سلم مشتركة مع عدد من دول وإمارات الضفة الشمالية. كان في الملخص نوعًا من الابتعاد عن شبهة العثمنة، التي كانت لا تزال تؤطر رسميًا علاقات تونس بالباب العالي. بطريقة أخرى، فإن الغاية كانت إبراز أن تونس لها مصالحها الخاصة في البحر التي تحرص على حمايتها، بغض النظر عن طريقة تصرف الأوروبيين مع السفن العثمانية. لنقل إن الأمر يتعلق، بلغة اليوم، بنوع من الانتهازية، وهي انتهازية مفهومة جدًا في ذلك السياق الخاص، بالرغم من أن الباي قد شارك، بضعة أيام قبل إبداء رغبته المذكورة، في تلك الواقعة الكبرى.

ومرة أخرى، فإن التونسيين الفخورين برايتهم الوطنية لا يذكرون، أو لعلهم لا يتذكرون أصلاً، سياق رفع أول علم تونسي في سنة 1831، أشهرًا قليلة بعد استيلاء فرنسا على الجزائر. ودون العودة إلى السياسة التي اتبعها حسين باي تجاه هذا الغزو، والمساعدات التي قدمها وتلك التي أعرب عن استعداده لتقديمها للفرنسيين، فإن العلاقات بين الجانبين ظلت في الغالب جيدة. لقد كانت من الاستقرار والودية إلى الدرجة التي سمحت بالتعاون بينهما من أجل استنباط علم للإيالة.

 

 

تذكر المؤرخة التونسية فاطمة بن سليمان أن حسين باي "أقدم على استنباط العلم مستعينًا بضابطين تابعين للماريشال كلوزيل قائد الجيش الفرنسي في الجزائر، وأن ذلك قد تم عن طريق قلب الألوان المكونة للعلم العثماني، وأنه بداية من ذلك الوقت أصبح هذا العلم يرفع فوق المراكب التونسية في البحر، وهو نفس العلم الذي حيته المدافع الفرنسية في ميناء طولون لما رحل أحمد باي إلى باريس في أكتوبر/تشرين الأول 1846. وبذلك بات هذا العلم رمزًا دالاً على البلاد وسيادتها".

بغض النظر عن مشاعر الاعتزاز التي قد تكون مبررة، فإن السياق الذي "استنبط" فيه العلم التونسي، كان سياق تدخل أجنبي كاسح، فرنسي بالخصوص، في شؤوننا السياسية الداخلية

لعل عملية قلب ألوان العلم العثماني هي التي لا تزال تفسر الخلط الذي يقع فيه كثيرون بين علمي تونس وتركيا، بما في ذلك عدد من التونسيين. في سنة 2008، أدى تجول عربة مترو في العاصمة التونسية، ولمدة أيام عديدة، وهي تحمل في واجهتها العلم التركي، إلى حالة استياء في بعض الأوساط المثقفة. لم يتفطن كل من اعترض طريق المترو، أو استقله، إلى أن الأمر يتعلق بالعلم التركي وليس بالعلم التونسي.

مؤخرا، ارتكب بعض موظفي شركة السكك الحديدية التونسية خطأً من خلال رفع علم تركيا عوضًا عن علم تونس على واجهة الشركة الرسمية. اعتبر ذلك إهانة للعلم وللشعور الوطني، وفي سياق الحمى الشعبوية الحالية في البلاد، حكم على "كل من شمله البحث" ببضعة أشهر من السجن.

وبغض النظر عن مشاعر الاعتزاز التي قد تكون مبررة، فإن السياق الذي "استنبط" فيه العلم التونسي، كان سياق تدخل أجنبي كاسح، فرنسي بالخصوص، في شؤونها السياسية الداخلية. كان على وجه الدقة سياق تفتيت للإمبراطورية العثمانية، بدفع باي تونس إلى إبراز المزيد من رغبات الانفصال، ما سيجعل البلاد أكثر استعدادًا لتقبل الأصدقاء الجدد للحكم الحسيني، كمحتلين للبلاد. ليس هذا أمرًا خاصًا بتونس، حيث نجد أن المقيم العام الفرنسي في المغرب، الماريشال ليوطي، هو الذي "استنبط" العلم الحالي للمغرب الأقصى في 1915، أي ثلاث سنوات بعد بسط الحماية الفرنسية على البلاد، وكذلك الشأن بالنسبة لمعظم الرايات الوطنية في بلاد المشرق العربي. لم تفعل تونس في نهاية الأمر سوى أن كانت فاتحة لهذا المسار، سباقة كما بتنا نعرف بالتجربة، في كل شيء.

عبر العلم، يتم الاحتكار الضيق للوطنية من طرف كل سلطة مستبدة، يتحول العلم إلى أحد أدوات الهيمنة الرمزية على الجمهور، وتُنسى كل المعاني التي ارتبطت به عبر مسيرته الطويلة، كرمز للوحدة ورفض للظلم وعلامة على الوجود المستقل لشعب أو أمة

لكن ذلك لا يمنع أن يشعر التونسيون بعاطفة جياشة تجاه رايتهم الوطنية. حمل هذه الراية وطنيون كافحوا باستماتة الاستعمار الفرنسي، وضرجها بدمائهم شهداء كثيرون في المعارك ضد الاحتلال الأجنبي أو ضد الاستبداد. لكن سلوك السلطة كان يشي باستمرار بنوع من الرغبة في احتكار هذه الراية. طيلة عقود طويلة من الاستبداد، وقبل ذلك من الاستعمار، كان رفع الوطنيين المتظاهرين للعلم التونسي حركة محفوفة بكثير من المخاطر. كان فعلاً محجرًا يعاقب عليه بقسوة، أحيانًا بالسجن، وأحيانًا أخرى بإطلاق النار.

في السياق الشعبوي البائس الذي تعيشه اليوم البلاد، تمعن السلطة في استعمال هذا الرمز كدليل على استماتتها السيادية، وكطريقة لوضع خصومها في الزاوية عبر تخوينهم والحط من مشاعرهم الوطنية. لقد كان هناك باستمرار احتكار من السلطة لهذا الرمز، واستغلال لا يعرف حدودًا لمعناه الأسمى بوصفه راية يتوحد تحتها كل التونسيين، ولا أعتقد أن الوضع مختلف في البلدان الشقيقة الأخرى.

عبر العلم، يتم الاحتكار الضيق للوطنية من طرف كل سلطة مستبدة. يتحول العلم إلى أحد أدوات الهيمنة الرمزية على الجمهور، وتنسى كل المعاني التي ارتبطت به عبر مسيرته الطويلة، كرمز للوحدة ورفض للظلم وعلامة على الوجود المستقل لشعب أو أمة.  يشترك في ذلك اليوم، عبر رقعة الاستبداد الواسعة، من كان عمر علمه 20 عامًا، أو مائتي عام.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"