لم يكن عيد الأضحى لهذه السّنة سلسًا للتّونسيّين أو لجزء مهمّ منهم على الأقلّ، لا يتعلّق الأمر بضغط الإنفاق الصيفيّ المعتاد، وارتفاع أسعار الأضاحي والعودة المدرسيّة والجامعيّة المُرتقبة أو بترقّب جماعيّ لانتخابات رئاسيّة مُرتقبة فحسب، ولكنّه أيضًا انقطاع متزامن ومتواصل للمياه الصّالحة للشّرب في أيّام العيد دون سابق إنذار. بل إنّ الدّولة مُمثّلة في وزارة الفلاحة المُشرف الرئيسيّ على إدارة المياه سبق وأن بشّرت المواطنين في بداية هذا الشّهر بأنّها قد اتّخذت كلّ التّدابير لتجنّب انقطاع المياه هذه الصّائفة.
ولا فائدة من التّفصيل في خطورة لا مصداقيّة مؤسّسات الدّولة على شرعيّتها المُجتمعيّة وأبعادها المُعقّدة والخطيرة في آن، ولا فائدة أيضًا في تفصيل سبات الفاعلين السياسيّين واقتصار دعواتهم على "محاسبة المسؤولين" تعفّفًا ربّما عن التورّط في تفاصيل وحلول بديهيّة للجمع الانتخابيّ الكريم. فلكلّ مشكلة مجتمعيّة سياسيّة في تونس حلّ وحيد تشترك فيه كلْ الأحزاب: محاسبة المسؤول والزّيادة في الإنفاق العموميّ لحلّ المشكل، إمّا بتحلية مياه البحر أو بتجديد الشّبكات أو غير ذلك من الإجراءات ولا تهمّ الكُلفة وكيف سيتمّ رصد الموارد وغير ذلك.
اقرأ/ي أيضًا: منسّق المرصد التونسي للمياه: الدولة تتجه لخوصصة قطاع المياه (حوار)
وهم أيديولوجيا المساواة في توزيع المياه
يُمثّل توزيع المياه الصّالحة للشّرب أحد الأعمدة الرئيسيّة لدولة الرعاية الاجتماعيّة ولشرعيّتها المجتمعيّة منذ الاستقلال، حتّى أنّ إحدى الحجج التي تبدو فلكلوريّة لقوّة الدّولة وتواصلها بعد الثّورة في تونس يتمثّل في تواصل إمداد المواطنين بالماء يوم 15 جانفي/كانون الثاني 2011 إثر رحيل بن علي. ولقد اقتضت أيديولوجيا العدالة التّوزيعيّة للدّولة التّونسيّة منذ الاستقلال أن يتمّ التّعاطي مع إدارة المياه على أساسين رئيسيّين:
- التّمييز بين منظومتين لتوزيع المياه في المناطق الريفية والحضريّة، بحيث تتكفّل الشّركة الوطنيّة لتوزيع المياه المعروفة بـ"السوناد" بالتّوزيع في المناطق الحضريّة والتّمركزات الدّيمغرافيّة الكبرى أما في المجال الريفيّ تتكفّل مُجمّعات التنمية الفلاحيّة مدعومة من الدّولة بتسيير توزيع المياه.
أدى مبدأ المساواة في سعر الاستهلاك إلى اقتسام تكلفة التّوزيع المرتفعة في المناطق الساحليّة والتي تنتفع بها المؤسّسات الاقتصاديّة والسياحيّة الكبرى على كلّ التّونسيّين
- وحدة سعر استهلاك المياه في كلّ أنحاء البلاد التّونسيّة مع اعتماد التدرّج في السّعر بالتّناسب مع معيار واحد هو الاستهلاك، أي أنّه كلّما ارتفع الاستهلاك كلّما ارتفعت التّسعيرة أيّا يكن الدّخل وأيّا يكن مكان الإقامة.
تبدأ حدود أيديولوجيا المساواة هذه في كون الفئة المستهدفة بأنشطة الشركة الوطنيّة لتوزيع المياه لا تشمل سكّان التجمّعات الريفية مترامية الأطراف والتي تُقدّر بحوالي خمس سكّان البلاد التّونسيّة والتي تعتمد عمليًا على مجهودات أهليّة ذاتيّة عبر مجمّعات التنمية الفلاحيّة. على أنّ الأهمّ في حدود أيديولوجيا المساواة هذه يتمثّل في كون كلفة استهلاك المياه لسكّان هاته المناطق، وهم عادة الأكثر هشاشة وفقرًا، هي أعلى بكثير من كلفة الاستهلاك بالنّسبة لمنظوري الشركة الوطنيّة لاستهلاك المياه ومن ضمنهم المؤسّسات الصّناعية والسياحيّة في الشّريط السّاحلي.
وفيما يتعلّق بالشّركة الوطنيّة لتوزيع المياه، فإنّ مبدأ المساواة في سعر الاستهلاك قد أدّى إلى اقتسام تكلفة التّوزيع المرتفعة في المناطق الساحليّة والتي تنتفع بها المؤسّسات الاقتصاديّة والسياحيّة الكبرى على كلّ التّونسيّين بما في ذلك المناطق الزّاخرة بالثّروات المائيّة والتي تعاني من هشاشة اقتصاديّة في الآن ذاته.
التخلّي عن التّضامن التوزيعيّ: شرط للقسط في توزيع المياه
ماذا إن افترضنا تحييد هذا التّضامن التوزيعيّ بحيث يتمّ تحديد سعر الاستهلاك في كلّ إقليم جغرافيّ على أساس كلفة التّوزيع؟ ماذا لو كان سعر الاستهلاك سعرًا تجاريًا؟
سيؤدّي ذلك إلى ارتفاع سعر الاستهلاك في الشّريط السّاحليّ تناسبًا مع كلفة التّوزيع وانخفاضه في الشّمال وبعض المناطق الدّاخليّة الزّاخرة بالثّروات المائيّة. وإذا ما اعتبرنا أهمّية كلفة استهلاك المياه في تحديد خيارات الاستثمار الاقتصادي، فإنّ تدخّلًا أقلّ للدّولة في توحيد سعر المياه الصّالحة للشّرب بين كلّ مناطق البلاد على أساس أيديولوجيا المساواة سيكون أكثر قسطًا للمناطق الدّاخليّة وسيمكّنها من ميزة استثماريّة تنافسيّة. وقد لن نحتاج لتدخّلات إضافيّة لـ"جذب الاستثمار للمناطق المُهمّشة"، ولن نحتاج للتذمّر من ضغط الاستثمار السياحيّ على البيئة المحلّية في الشّريط السّاحليّ وغير ذلك من أسباب التدخّلات الإضافيّة للدّولة والتي لن تؤدّي إلاّ إلى إخلال إضافيّ لما يمكن أن نعتبره توازنات طبيعيّة.
إنّ تدخّلًا أقلّ للدّولة في توحيد سعر المياه الصّالحة للشّرب بين كلّ مناطق البلاد على أساس أيديولوجيا المساواة سيكون أكثر قسطًا للمناطق الدّاخليّة وسيمكّنها من ميزة استثماريّة تنافسيّة
اقرأ/ي أيضًا: تونسيون دون ماء والجمعيات المائية في قفص الاتهام
قد يجادل أحدهم بأنّ الترفيع في سعر الاستهلاك تناسبًا مع الكلفة هو من قبيل الضّيم لسكّان الشّريط السّاحليّ وهم غالبيّة التّونسيّين. لا بدّ هنا من التّنويه بحجم كبار المستهلكين من المؤسّسات الصناعيّة والسّياحيّة والذين يمثّل استهلاكهم 67 في المائة من جملة المداخيل السنويّة للشركة الوطنيّة لتوزيع المياه، في حين لا تزيد كلفة استهلاك 92 في المائة من العائلات التونسيّة في كلّ البلاد عن 17 دينار (حوالي 8 دولار أمريكي) شهريًا.
ومغزى ذلك هو أنّ سعر استهلاك المياه الصّالحة للشّرب في تونس منخفض مقارنة بالنّدرة وهو قابل للتّرفيع بشرط التّحسين في الجودة. وحتّى إذا ما افترضنا إرجاء التّرفيع في السّعر للعائلات والأفراد وهم صغار المستهلكين فإنّ اعتماد سعر تجاريّ يغطّي كلفة التّوزيع ويضمن هامش الربح كفيل في حدّ ذاته بتحسين الوضعيّة الماليّة للشّركة ولأيّ موزّع مُفترض للمياه الصّالحة للشرب والاضطلاع بأعباء الصّيانة وتحسين شروط الضخّ على النّحو الأمثل.
انسحاب الدّولة من توزيع المياه لصالح دور أكبر في توفيرها
إنّ هذا التّرفيع في سعر استهلاك المياه الصّالحة للشّرب بما يجعله أقرب للسّعر التجاريّ وأكثر تناسبًا مع قيمة الماء عُرفًا وعلمًا، على الأقلّ بالنّسبة لكبار المستهلكين (المؤسّسات الاقتصاديّة)، يحمل في حدّ ذاته إشكالًا يتعلّق باحتمال أن تستغني بعض المؤسّسات الصناعيّة والسياحيّة عن خدمات الشركة الوطنيّة "السوناد" لصالح الاعتماد على مواردها الذاتيّة لتوفير حاجياتها، إمّا باستعمال وسائل جديدة لتوفير المياه (تخزين مياه الأمطار، التحلية إلخ) أو بإنهاء أنشطتها لا سيّما بالنسبة لبعض المؤسّسات السياحيّة.
وفي حين يُعتبر هذا الاحتمال مناسبًا للمنظومة البيئيّة والمائيّة وقد يخفّف من الكلفة غير المباشرة للقطاع السياحيّ على الاقتصاد الوطنيّ، فإنّه قد يعني أيضًا التخلّي التدريجي عن التصرّف العمومي المركزي في توزيع المياه لصالج القطاع الخاصّ والجماعات المحلّية في حين يقتصر دور الدّولة على الاستثمارات الكبرى على غرار السّدود وتعديل الشروط الفنية والتكنولوجية لجودة توزيع المياه.
إنّ تشريكًا أكبر للقطاع الخاصّ الربحيّ والأهليّ في إدارة وتسيير توزيع المياه وضخّها يجب أن يكون هدفًا وطنيًا في المدى المنظور، وهو ما يعني حرية التفاعل بين العرض والطلب في سوق توزيع المياه الصّالحة للشّرب
ومن زاوية عمليّة وكما تبيّن ذلك عدّة دراسات في هذا الموضوع، فإنّ تشريكًا أكبر للقطاع الخاصّ الربحيّ والأهليّ (المجتمع المدنيّ) في إدارة وتسيير توزيع المياه وضخّها يجب أن يكون هدفًا وطنيًا في المدى المنظور، وهو ما يعني حرية التفاعل بين العرض والطلب في سوق توزيع المياه الصّالحة للشّرب واقتصار دور الدّولة على الاستثمار في العَرض المُستدام للمياه الصّالحة للشّرب بما يدفع السعر التجاريّ إلى الحدود المقبولة بالنسبة لعموم المستهلكين. ويعني الاستثمار في العَرض أو توفير المياه بطريقة مستدامة الاستثمار في تكنولوجيا استباق العطب والإهدار الرّاجع لعدم صيانة القنوات المائيّة والذي بلغت نسبته في تونس سنة 2017 حوالي 30 في المائة، كما يعني هذا الاستثمار تحفيز صغار المستهلكين وربّما كبارهم على استغلال مياه الأمطار بالوسائل التقليديّة على غرار الفسقيّة، في بلد يحتضن ضمن معالمه التّاريخيّة فسقيّة الأغالبة، أكبر فسقيّة أثريّة في العالم.
من الصّعب أن نتوقّع في خضمّ النّقاش العامّ الانتخابيّ في تونس تفاعلًا جدّيًا مع أزمة المياه الصالحة للشرب وغيرها من أزمات الحياة اليوميّة للتونسيين، اللهمّ أن يقتصر التّفاعل على جمل رنّانة تبدأ بمفردات كـ"إصلاح" و"تدعيم" و"وضع استراتيجيّة" ولعلّنا نكون مجانبين للصّواب في هذا التوقّع. بيد أنّ هذه الصّعوبة لا تعود لنقص في المعطيات والدّراسات والتّشخيص، وإنّما تعود إلى نقص في الشّجاعة الأدبيّة والسّياسية مغزاها الخروج من أغوار البحث عن الحلّ من داخل الدّولة وتدخّلاتها التوحيديّة التبسيطيّة القائمة على نماذج بالية للعدالة الاجتماعيّة. كلّ البرامج والتصوّرات تدور حول فلك الدّولة الرّاعية وتدخّلاتها باعتبارها مجالا لاستنباط الحلول وتنفيذها، قلّما ننتبه إلى أنّ الحلول تبدأ في التشكّل عند انسحاب الدّولة إلى مربّع الحدّ الأدنى الضروريّ.
اقرأ/ي أيضًا: