مقال رأي
"دولة البوليس"، هكذا كانت فئة واسعة من التونسيين، تسمّي الدولة التي يحكمها المخلوع وعائلته، وأطراف نظامه المترامية، والممتدّة داخل كلّ الأجهزة، بعد أن ذاق جزء ويلات العقاب والردع والاستئصال، وعاش آخرون وهم الأغلبيّة، على وقع الرعب والخوف من بطش جهاز وزارة الداخليّة، حتّى تحوّلت البلاد، إلى ما يشبه سجنًا كبيرًا، لا رحمة فيه، ولا شفقة عن أحد.
كان جهاز أمن الدولة يعلم بأسرار البيوت الداخلية للتونسيين
عندما اندلعت أحداث الحوض المنجمي في سنة 2008، أصدر المخلوع زين العابدين بن علي، التعليمات لوزارة الداخليّة لتطويق مدينة قفصة، فكان له ذلك وكان قاب قوسين أو أدنى، من سحق ثلاث مدن بالكامل، لولا إخماد الاحتجاجات، وعندما اندلعت ما يعرف بـ"مظاهرات التراويح" في شهر رمضان، الذي سبق ثورة 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010، صدرت تعليمات مشابهة للوحدات الأمنيّة كانت لا تطارد و تختطف فقط، بل وتطلق الرصاص الحي تجاه المتظاهرين، بعد أداء صلاة التراويح، كما أن جهاز أمن الدولة كان يعلم حتّى بأسرار البيوت الداخلية للتونسيين، أكثر منهم أنفسهم في بعض الأحيان، فضلًا عن ترويعه للآلاف من عائلات من يشتبه في معارضتهم للنظام، أو حتّى من أخطأ سهوًا وذكر المخلوع أو "الطرابلسيّة"، في موضع غير الموضع الذي يريدون.
وزارة الداخلية التونسية كانت المؤسّسة الأولى التي فرض من خلالها النظام وجوده على سدّة الحكم، عبر الرعب والخوف التي تحطمت حوازه جميعًا ذات 17 أيلول/ديسمبر 2010، على رائحة لحم بشري أكلته نيران اختلطت بالبنزين على جلد بائع الخضار المتجوّل البوعزيزي أمام مبنى محافظة سيدي بوزيد، ليسقط بالرصاص الحي وبالقنص المباشر العشرات من الجرحى و الشهداء، حتّى موعد 14 كانون الثاني/ يناير 2011، الذي فرّ فيه رأس النظام، وتداعت أطرافه إمّا طلبًا للصلح والمصالحة والصفح، أو اختفت لإعادة ترتيب صفوفها بعد أن فقد صاحب "التعليمات".
صبيحة 15 كانون الثاني/ يناير 2011، كانت بوصلة المزاج العام الشعبي في تونس، تشير إلى خروج الجيش منتصرًا، وراجت الروايات الكثيرة عن تصدّي المؤسسة العسكرية لغطرسة المؤسسة الأمنية، ووقوفها في صفّ الجماهير الهادرة بشعارات العدالة الاجتماعية والحرية، ومن ذلك ما حدث على مرأى ومسمع عدد من المحتجّين، ليخرج الأمنيون بسرعة في مسيراتٍ يذرفون الدموع، طلبًا للصفح مناشدين مصالحة مع الشعب، بتعلّة تنفيذ التعليمات، واعدين بعدم العودة إلى صنيعهم هذا.
خمس سنوات مضت فعل فيها عدد من الأمنيين، ملتحفين بالعمل النقابي ما شاؤوا، وصالوا بين أستديوهات المؤسسات الإعلامية، وجالوا بين صفحات الجرائد، ليكونوا أحد أبرز العوامل المؤثرة في الرأي العام، وفي السلوك الانتخابي لعدد كبير من التونسيين، حتّى صار مطلب إعادة عدد من الوجوه المعروفة في المؤسسة الأمنيّة بتنكيلها، بعدد من معارضي النظام مطلبًا نقابيًا، وصار بإمكان الأمنيين محاصرة مبنى محكمة من أجل إطلاق سراح زميل لهم، أو تسريب وثائق خطيرة من داخل وزارتهم، تشكك في وطنتيها ومصداقيتها لدى العامّة، وكان هذا طبعًا أمرًا محمودًا لعدد من الأطراف السياسية، واللوبيات الإعلاميّة والمالية التي وجدت فيهم طرفًا، يدّل كفّة مشهد يميل إلى الانتصار لممثلي "تونس المناضلة".
أكد السبسي أن الاحتجاجات الاجتماعية والأوضاع الصعبة وعدم الاستقرار هي التي أدت إلى اللجوء إلى قانون الطوارئ
ما ضمنه الدستور التونسي الجديد من حقوق وحريات، ومن بينها حرية التعبير والتظاهر، باتت كلّها في مهبّ قانون الطوارئ الذي عاشت على وقعه تونس نحو أربع سنوات، دون أن تمنع مسيرة واحدة ودون حدوث مشادات بين محتجين وأمنيين، باستثناء حادثة الرشّ في محافظة سليانة، ولكن التهمة صارت اليوم "خرق قانون الطوارئ"، فرئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، قد أكد في تبريره لإعلان الطوارئ في البلاد أن الاحتجاجات الاجتماعية، والأوضاع الاقتصادية الصعبة وعدم الاستقرار الأمني، خاصة على الحدود مع ليبيا، إلى جانب ممكن حدوث أعمال إرهابية، هي أسباب الحاجة إلى الالتجاء لهذا القانون، ما يعني ببساطة شديدة أن لحظة جديدة سياسيًا وحقوقيًا تقبل عليها البلاد.
البداية كانت بمظاهرات "وينو البترول"، التي تطالب بالشفافيّة في قطاع الطاقة، والتي ووجهت بقمع شديد، حتّى أن عددًا من المشاركين فيها لاحظوا أن شارع الحبيب بورقيبة يومها، كان أقرب إلى شارع محتلّ من القوات الأمنية، وتم اعتقال عدد كبير من المحتجين، والاعتداء على آخرين، واليوم يتكرّر السيناريو مع المحتجين ضدّ قانون المصالحة الاقتصادية في العاصمة وصفاقس وسيدي بوزيد، وبينهما اعتداء على نقابيّي التعليم الأساسي بوحشيّة غير معهودة، نددت بها عدة منظمات وتيارات سياسية في البلاد، وأخيرًا اعتداءات مجانيّة على الفلاّحين سالت فيها دماء بعضهم.
وزارة الداخلية تصرّ في تعليقها على الأحداث والمواجهات، على أنها تقوم بتطبيق القانون، وعلى اعتبار المحتجين يواجهون تهمة خرق قانون الطوارئ، التي تم استدعاء بعض المتظاهرين للتحقيق، بناء عليها وتصرّ كذلك على أن الوضع في البلاد لا يسمح بالتظاهر، وأن حالة الطوارئ إعلان دستوري، وهو ما يعتبره حقوقيون وسياسيّون تبريرًا غير مقبول، للمس من الحريّات خاصة حريّة التعبير، بعد استدعاء عدد من الصحفيين والمدوّنين للتحقيق، وطالب بعضهم حتّى بإسقاط قانون الطوارئ، متّهمًا الائتلاف الحكومي بمحاولة تمرير بعض القوانين، وإعادة القمع بموجبه.
عشرات حالات التعذيب في السجون التونسية، والمئات أو أكثر من الموقوفين كمشتبه بهم، لم يقع التحقيق معهم إلى اليوم إلى جانب البيانات شبه الأسبوعية لمنظمات مدنية نقابية وحقوقيّة وأحزاب سياسيّة، تندّد بعودة "دولة البوليس" التي يجمع كلّ من حضر المسيرات والمظاهرات، التي تعرّضت للقمع الشديد مؤخرًا أنّها "عائدة وتتوعد".
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"