06-مارس-2018

الرّهان هو استغلال موقع تونس كبوّابة بين أوروبا وإفريقيا (مارتا كارنزي/getty)

إنّ المتأمل في تاريخ تونس الحديث يرى فشل دولة الاستقلال في تحقيق أي نهضة اقتصادية في هذه الدولة الفتية من أيام الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة وتجارب وزرائه كمحمد الهادي نويرة الذي أراد أن يحدّث الاقتصاد التونسي بعد فشل تجربة الاشتراكية، إضافة لفكرة التعاضد في الفلاحة والتجارة بقيادة أحمد بن صالح، وصولاً إلى عهد بن علي حيث لم يكن الوضع الاقتصادي في عهده بأحسن حال، والذي انتهى بثورة على نظامه نتيجة فشل الخيارات الاقتصادية في البلاد التي قامت على الخوصصة وبيع المؤسسات العمومية وبفساد مالي وسيطرة العائلة الحاكمة على جزء كبير من القطاعات الاقتصادية في البلاد.

وهو ما أدّى إلى استئثار هذه العائلة بالثروة عبر استغلال النفوذ وعدم دفعهم للضرائب المستحقة واستحواذهم على عدة شركات وطنية واستغلالهم لمؤسسات المرفق العام لصالح مشاريعهم الخاصة، ممّا أدّى لخسارة الدولة سنويًا لنسبة 5 في المائة من النمو الاقتصادي حسب تقرير "منظمة الشفافية العالمية Transparency International" لسنة 2008.

لم تحقّق تونس نهضة اقتصادية منذ زمن أول رؤساء البلاد وصولًا لعهد الرئيس المخلوع الذي اتّسم زمنه بالفساد المالي ما أدى لاندلاع الثّورة

في الأثناء، دعونا نلقي نظرة على التجربة السينغافورية. عودةً للتاريخ، أعلنت سنغافورة استقلالها عن بريطانيا سنة 1963 لتنظم إلى الاتحاد الماليزي في نفس السنة، لكن بعد سنتين أي في سنة 1965 صوّت البرلمان الماليزي على طرد سنغافورة من الاتحاد لكونها عالة على البلاد بما أنها دون موارد وتحديدًا دون نفط أو معادن أو أي شيء يُذكر. ويذكر التاريخ أنّ الرئيس السنغافوري لي كوان ظهر على التلفزيون الرسمي باكيًا في خطاب قال فيه "كيف ستعيش سنغافورة؟".

اقرأ/ي أيضًا: يناير تونس الساخن دائمًا.. احتجاجات مثيرة للجدل ضد غلاء المعيشة

ولكن هذه الدولة التي كانت تعيش على المساعدات من الدول الأجنبية في ستينيات القرن الماضي، تعيش اليوم نهضة اقتصادية كبيرة مما جعلها في مصاف الدول المتقدمة، في حين أن تونس المتحصّلة على استقلالها السياسي سنة 1956، على حالها المعلومة اليوم رغم أنها تتمتع بموارد طبيعية كبيرة جدّا إذا ما تمّت مقارنتها بسنغافورة، التي كانت تستجلب مواد البناء من الدول المجاورة حتى يتمكن المواطن السنغافوري من بناء بيت صغير يعيش فيه.

اليوم يجب أن نعلم أن سنغافورة، هذه الدولة الصغيرة مساحةً وحجمًا، هي رابع مركز مالي في العالم وخامس أغنى دولة من ناحية احتياطي العملة الصعبة. وتحتل المركز الثالث في معدل الدخل الفردي من الناتج القومي الخام بمبلغ يناهز 64 ألف دولار في سنة 2013، في حين أنّ الدخل الفردي من الناتج القومي في تونس بلغ 4360 دولار في نفس الّسنة.

سنغافورة التي كانت ظروفها الاقتصادية أسوأ بكثير من تونس في ستينيات القرن المنصرم، نجحت حقيقة في تغيير واقعها والمعادلة الاقتصادية السيئة باستغلال موقعها الاستراتيجي لتجعله من أهم أسباب نهضتها وتقدّمها الاقتصادي. وفي المقابل، لم تستفد تونس من موقعها الجغرافي الذي هو شبيه بسنغافورة إلى حدّ ما، حيث توجد تونس بين ضفّتي البحر الأبيض المتوسط وتمثّل نقطة عبور بين القارة الأوروبية وشمال القارة الافريقية، بل بامكانها أن تكون بوّابة اقتصادية كبرى نحو دول وسط افريقيا على الأقل إذا أحسنت استغلال هذا العامل المهمّ، وهو ما سيحقّق النهضة الاقتصادية المنتظرة.

يبلغ عدد سكان سنغافورة أكثر من 5.5 مليون ساكن في دولة تُقدّر وارداتها بقيمة 349 مليار أورو، فيما بلغت قيمة صادراتها نحو العالم تقريبا 407 مليار أورو وفق أرقام سنة 2016. أمّا إذا ألقيت نظرة على تونس، سنجد أنّ صادراتها في نفس تلك السنة بلغت 13.6 مليار دولار، أما وارادتها في حدود 19.5 مليار دولار، ويبدو أن الصورة واضحة، بما لا تحتاج للبرهنة وذلك لتبيان الفارق الكبير بين تونس وسنغافورة على المستوى الاقتصادي.

حوّلت سنغافورة التحديات إلى قصة نجاح، حيث استغلت موقعها الاستراتيجي، ليحتلّ ميناؤها المرتبة الثانية على مستوى العالم متجاوزًا ميناء روتردام الهولندي وميناء هونج كونغ، مستحوذًا على خُمس الحاويات العالمية، والمقدّرة بــ 30.5 مليون حاوية بوزن 423 مليون طن. ليكون ميناء سنغافورة بذلك، أكثر مؤانئ العالم ازدحامًا، وهو الذي يرتبط بأكثر من 600 ميناء في أكثر من 123 دولة.

اقرأ/ي أيضًا: مشاريع تونس الكبرى.. الوعود المُنتظرة

ويحقّ لنا هنا أن نتساءل، ما دخل تونس في التجربة السنغافورية في تحقيق نهضتها الاقتصادية، وما موجب الحديث المستفيض عن مينائها العالمي؟

الإجابة وبكل بساطة أنّ تونس لها نفس مقوّمات نجاح التجربة السنغافورية إذا اتّبعت نفس خطواتها.

التجربة السنغافورية هي نموذج للنهضة الاقتصادية (كليف ماسون، getty)

فتونس هي بوّابة القارة الافريقية نحو أوروبا، وكذا هي بوّابة أوروبا نحو القارّة الافريقية، دون أن ننسى إمكانية ربط دول وسط أفريقيا بموانئ تونس التي تصبح ممرًّا لأنشطة التوريد والتصدير. بل يمكن أن تصبح بلدان وسط افريقيا أسواقًا للاقتصاد التونسي، ونعلم أنّ دولاً مثل تركيا والصين وغيرها أصبحت هذه البلدان مناطق نفوذ اقتصادي بالنّسبة لها. وهذا العامل مساعد لو تتجّه تونس نحو تطوير بنية تحتية ملائمة مثل تشييد الموانئ، ومدّ الطرقات نحو هذه الدّول الافريقية بالشراكة مع الجارة الجزائر.

تشهد الآن هذه المنطقة من افريقيا صراعًا اقتصاديًا محتدمًا بعد تراجع النفوذ الفرنسية في الآونة الأخيرة، ولذلك يجب على تونس أن تلتقط هذه الفرصة التاريخية بمعيّة الجزائر، من أجل تغيير وجه البلاد والمساهمة في تحسين الوضع الاقتصادي، وبهدف ظهور سنغافورة جديدة في العالم العربي وفي شمال أفريقيا.

تونس لها نفس مقوّمات نجاح التجربة السنغافورية إذا اتّبعت نفس خطواتها

ويبدو أنّ الأهمية الكبرى للقارّة الافريقية انتبه لها المغرب الأقصى الذي ربط علاقات اقتصادية متطوّرة مع دول غرب افريقيا، ونعلم أن المغرب قد حصل حديثًا على عضوية "المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا" المعروفة اختصارا باسم "سيداو". وتشير احصائيات مكتب الصرف، وهو هيئة حكومية مغربية، أنّ استثمارات المغرب في هذه المنطقة بلغت 630 مليون دولار في السنوات الستّ الماضية، وتركّزت هذه الاستثمارات في المجال البنكي ومجال الطيران حيث أنّ الخطوط الملكية المغربية لها استثمارات ضخمة في العديد من الشركات مثل "آرسنغال انترناشيونال".

وربّما بدأت تنتبه تونس أخيرًا أن اقتصار علاقاتها الاقتصادية مع أوروبا وتحديدًا فرنسا وإيطاليا سيفوّت عليها فرصًا كثيرة لتحسين وضعها الاقتصادي مع هذه الدول الإفريقية أو غيرها إجمالاً. حيث شهدت سنة 2017 زيارة رئيس مفوضية المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا إلى تونس بهدف تعزيز العلاقات التجارية بين الطرفين، ونذكر أن هذه المجموعة الاقتصادية تضمّ 15 بلدًا، يبلغ ناتجها الدّاخلي الخامّ 630 مليار دولار، فيما يبلغ عدد سكانها 300 مليون نسمة.

لذلك، حان الوقت أن تغيّر تونس سياساتها وخياراتها الاقتصادية، وأن تنوّع مصادر دخلها وذلك باقتفاء آثار التجربة السنغافورية، ففيها أسرار الخروج من عهود الفشل التي شهدتها دولة الاستقلال ليومنا هذا. فلنا أن نتخيّل لو يمرّ جزء هامّ من صادرات مناطق وسط وغرب افريقياّ عبر موانئ تونس، وكذا الحال لوارداتها، غير أنّ ذلك مشروط بتوفّر بنية تحتية عبر طرقات تربط تونس بدول كالتشاد والنيجر ومالي وبوركينا فاسو وغيرها. فمن باب المؤكد، حينها، أنّ وضع البلاد سيتحسّن اقتصاديًا، وستتوفر آلاف مواطن الشغل في كامل الجمهورية.

اقرأ/ي أيضًا: تونس والسعي وراء أفريقيا "المنسية"

إنّ استغلال هذه الفكرة والسعي نحو تنفيذها سيجعل البلاد مركزًا جاذبًا للاستثمارات الخارجية، وسيساهم في انتصاب شركات عديدة ستستفيد من الوضع الجديد للبلاد. كما سيساعد على وجود مستودعات كبرى لهذه الشركات وذلك في إطار ما يُسمّى بالاقتصاد اللوجستي الذي يهتمّ بإدارة البضائع والتحكّم فيها وفي طرق تدفقها وتخزينها وشحنها وتوصيلها، وهو ما يعني اختصارًا خلق عشرات الآلاف من مواطن الشغل للشباب في تونس. وهو ما سعت إليه سابقًا سنغافورة التي كانت تعاني من بطالة حادّة في منطقة ديمغرافية عالية الكثافة، حينما عملت على تشجيع الاستثمارات الخارجية التي تتطلّب يد عاملة عالية فقضت على البطالة في الدولة وجعلت منها، كما نراها اليوم، مركزًا اقتصاديّا عالميًا.

على تونس أن تستغلّ كلّ مواردها الاقتصادية واللوجيستية، وأن تجعل من موقعها الجغرافي بوابّة نحو الازدهار والتقدم

إنّ تونس اليوم في مفترق طرق، وعليها أن تحدّد وجهتها بين أن تسير في طريق السّياسات السابقة الفاشلة التي جعلتها تعيش الهزّات الاجتماعية بين الفترة والأخرى، أو أن تمضي في طريق آخر تستغلّ فيها كلّ مواردها الاقتصادية واللوجيستية، وتجعل من موقعها الجغرافي بوابّة نحو الازدهار والتقدم.

وختامًا، إنّ سنغافورة التي أسّست اقتصادًا قويّا ومتينًا ما جعلها تخرج من حالة الفقر والتخلّف التي كانت تعاني منها، بدأت بمحاربة الفساد بكل قوّة، كخطوة أولى، وفرضت الانضباط على كلّ من يعوّق التطوّر الاقتصادي لها. فقد قام رئيس سنغافورة بعد الاستقلال لي كوان بانشاء جهاز خاصّ للتحقيق في قضايا الفساد ومكافحتها، وتمتّع هذا الجهاز بالصلاحيات الكاملة في التحقيق واتخاذ الاجراءات والتدابير اللازمة لمحاسبة أي شخص يتورط في أي نوع من انواع الفساد المالي في البلاد. في الأثناء، لازالت تحوم الشكوك حول جديّة الدّولة التونسية في مكافحة الفساد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مجلة الاستثمار.. خفايا القانون الأكثر ريبة في تونس

هل يحيي قطار تونس-الجزائر مشروع قطار "الوحدة"؟