01-فبراير-2024
العنف ضد المرأة

في كل مرة تُرتكب جريمة شنيعة في تونس تعود مسألة عقوبة الإعدام للواجهة فتصبح مطلبًا شعبيًا ملحًا (صورة توضيحية/ Getty)

 

 

كان السكوت يخيم على سيارة الأجرة التي تقلني وثلة من الركاب نحو تونس العاصمة حتى أعلنت المذيعة عن إصدار بطاقة إيداع بالسجن في حق أربعيني بتهمة الاعتداء الجنسي على بنات شقيقه وعددهن ثلاث، لا يتجاوز عمر أكبرهن الـ11 سنة. 

امتقع وجه السائق واستشاط غضبًا فور سماعه الخبر ولم يتردد ولو للحظة في المطالبة بتسليط عقوبة الإعدام على الفاعل في ساحة عامة ليكون عبرة لمن يعتبر. ووجه السائق نظراته عبر المرآة إلى الركاب في الخلف وهو في حالة هيجان وغليان ليؤكد لهم أن الاقتصار على العقوبات السجنية في قضايا زنا المحارم هي السبب في تفشي الظاهرة لتطال حتى الأطفال والقصر وتصبح خطرًا حقيقيًا يهدد الطفل حتى في الوسط العائلي ومن أقرب الناس إليه. 

لم يُخْفِ الركاب دهشتهم من هول ما سمعوا ولم يتمكنوا من استيعاب كيفية إقدام كهل أربعيني على اغتصاب فتاة الست سنوات، مرجحين أن يكون الجرم قد ارتكب تحت تأثير مواد مخدرة. كما أبدوا تعاطفًا كبيرًا مع ضحايا الاغتصاب وذويهم.

تواتر الجرائم الشنيعة في تونس من اغتصاب وتحرش جنسي على أطفال يدفع بالكثيرين إلى المطالبة من حين إلى آخر بضرورة تسليط عقوبة الإعدام خوفًا من مزيد تفاقم هذه الجرائم

رغم الاختلاف الحاد في تحميل المسؤوليات خلال الجدل بين السائق والركاب كانت نقطة الالتقاء الوحيدة التي وحدت جميع المتدخلين هي تسليط عقوبة الإعدام على الجاني. كان الكل مقتنعًا بأن إلغاء تنفيذ عقوبة الإعدام في تونس في مثل هذه القضايا وغيرها هو ما شجّع على ارتكاب الفواحش خاصة وأن مرتكبي الجرائم لا يهابون العيش وسط أسوار السجن متمتعين بما يقدم لهم من خدمات. 

وتشهد تونس مؤخرًا تتالي جرائم الاغتصاب في الوسط العائلي، وقد تم يوم 1 ديسمبر/كانون الأول 2023 الحكم على أب بالسجن لمدة 40 سنة من أجل اغتصاب ابنتيه، وقد ثبت حمل إحداهن من والدها. كما تم  في أواخر سنة 2022 الاحتفاظ بشاب من ولاية القصرين بشبهة تورطه في اغتصاب أخته البالغ سنها 14 سنة.

وبالإضافة لحالات الاغتصاب في الوسط العائلي تفاقمت أيضًا ظاهرة اغتصاب الأطفال في الوسط المدرسي وحتى في رياض الأطفال. فقد اهتز الشارع تونسي سنة 2013 بعد تعرض طفلة الثلاث سنوات للاغتصاب من قبل حارس روضة الأطفال البالغ من العمر 55 سنة. كما سجلت البلاد سنة 2019 حادثة تحرش واغتصاب أستاذ لأكثر من 20 تلميذًا وتلميذة. هذه الحوادث وغيرها كثيرة غذت المخاوف من مزيد تفاقم حالات الاغتصاب والتحرش الجنسي ضد أطفال يفترض أن يكونوا في وسطهم العائلي والمدرسي في مأمن من مثل هذه الحوادث.  

 

  • التكتم في الوسط العائلي يفاقم الجرائم

يؤكد رئيس الجمعية التونسية للدفاع عن حقوق الطفل معز الشريف، في حديث لـ"الترا تونس"، أنّ الاغتصاب داخل الوسط العائلي أو ما يعرف بـ"زنا المحارم" ظاهرة منتشرة في جميع أنحاء العالم وليس في تونس فقط.

وأضاف أنّ "أغلبية الفضاءات التي يجد فيها الأطفال حريتهم تكثر فيها الانتهاكات لحقوقهم بجميع أنواعها"، لافتًا إلى وجود الكثير من التكتم على مثل هذه الاعتداءات في العائلة بسبب الموروث الثقافي الذي يراعي حرمة العائلة، حتى أنّه في بعض الحالات بعد تقديم الشكوى يطلب الوالدان سحبها لتجنب العار، بَيْد أنّ ذلك غير ممكن طالما يتعلق الأمر باعتداء جنسي على أطفال وذلك بمقتضى القانون عدد 58 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة. 

رئيس جمعية الدفاع عن حقوق الطفل لـ"الترا تونس": التكتم على جرائم الاعتداءات الجنسية على أطفال صلب  العائلة بسبب الموروث الثقافي يدفع إلى الإفلات من العقاب وهو ما يمثل السبب في تنامي الاعتداءات الجنسية

ويبين الشريف في حديثه لـ"الترا تونس" أن الاعتداءات الجنسية تتجاوز أحيانًا الطفل إلى العديد من الأطفال في نفس العائلة، مثل حادثة اغتصاب عم لبنات أخيه، مضيفًا أنّ "بسبب ظاهرة التكتم يحدث تأخير في الإشعار والإعلان وانطلاق الأبحاث مع الطفل، كما تصعب عملية إثبات الحادثة نظرًا لغياب العينات البيولوجية والإثباتات القطعية للاعتداء، بالتالي يتعذر تحميل المسؤوليات للمعتدين"، حسب تقديره. 

كما يرى المتحدث أن الإفلات من العقاب هو السبب في تنامي الاعتداءات الجنسية، منتقدًا كذلك طول الفترة بين الإدانة وانطلاق الأبحاث، ما ينتج عنه غياب الإثباتات القانونية، والحال أنّ صوت الطفل بمفرده أمام القضاء غير كاف للإدانة، وفقه. 

 

 

كما يعتقد رئيس الجمعية التونسية لحقوق الطفل أن "الوسيلة الناجعة للتصدي لحالات الاعتداء الجنسي على الأطفال هي التبليغ والإشعار وهما واجبان على كل مواطن، وفي حالة الامتناع يُدان الشاهد".

رئيس جمعية الدفاع عن حقوق الطفل: الإشعارات التي ترد على مندوبية حماية الطفولة تبين أن الفضاءات التي يفترض أن تكون آمنة للطفل كمنزل العائلة والمؤسسات التربوية هي أكثر الأماكن التي تحدث فيها الاعتداءات بكل أنواعها

 واستنكر محدث "الترا تونس" غياب قضايا ترفع ضد من يمتنع عن الإشعار معتبرًا أنه مادامت العدالة غير صارمة في مثل هذه القضايا ولا تحمل المسؤوليات لكل المتدخلين فستبقى الظاهرة تتنامى في المجتمع.

وأشار المتحدث إلى أن الإشعارات التي ترد على مندوبية حماية الطفولة تبين أن الفضاءات التي يفترض أن تكون آمنة للطفل كمنزل العائلة والمؤسسات التربوية هي أكثر الأماكن التي تحدث فيها الاعتداءات بكل أنواعها لأنها فضاءات مغلقة. وشدد على أهمية الوقاية من الاعتداءات الجنسية وذلك عبر تكوين الأطفال على الوسائل الوقائية وآلية الإشعار في كل المراحل العمرية وحتى في سن رياض الأطفال، لأنه سبق أن حدثت اعتداءات فيها وحتى داخل مؤسسات إيواء حاملي الإعاقة، وفقه.

 

  • أهمية الثقافة الجنسية للأطفال

ويلفت معز الشريف، في حديثه لـ"الترا تونس"، النظر إلى أن  القانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة يحدد النضج الجنسي في سن السادسة عشر، بالتالي وجب على الدولة توفير كل الآليات اللازمة لتمكين الأطفال من النضج الجنسي بالفعل، وكذلك تفعيل آليات التربية الجنسية للإناث والذكور على حدٍّ سواء لأن العائلة التونسية عمومًا محافظة وليست لديها الآليات والإمكانيات والميراث الثقافي لنشر الثقافة الجنسية في العائلة، ويصعب عليها ذلك لذا على وزارتي المرأة والتربية بلورة برامج والامتثال لالتزامات تونس سواء الدستورية والقانونية والمعاهدات الدولية لوقاية الأطفال من الاعتداءات الجنسية. 

رئيس جمعية الدفاع عن حقوق الطفل لـ"الترا تونس": لا بدّ من تفعيل آليات التربية الجنسية للأطفال لأن العائلة التونسية عمومًا محافظة وليست لديها الآليات والميراث الثقافي لنشر الثقافة الجنسية في العائلة

كما لفت رئيس الجمعية التونسية للدفاع عن حقوق الطفل إلى أهمية برامج التربية الوالدية لمحاربة التكتم والتوعية للتفطن مبكرًا بالتهديدات المسلطة على الأطفال وكيفية الوقاية والحماية والتبليغ، مشددًا على أهمية تمكين الطفل من كل آليات الحماية التي تضعها الدولة من أجله.

 كما شدد على أهمية تطوير مجلة حماية الطفولة التي تتضمن باب الطفل المهدد وباب الطفل في نزاع مع القانون، ويغيب فيها باب أساسي وهو الطفل الضحية الذي من شأنه أن يمكنه من آلياءات حمائية ووقائية وآليات تتكفل به، مؤكدًا أن إدانة المجرم لا تكفي فالطفل الضحية سيحمل وصمة الاعتداء عليه كامل حياته وهو ما يستوجب آليات تعويض ومرافقة ومصاحبة على طول المدى، حسب تقديره.

 

  • الإعدام عقوبة غير إنسانية

ينص الفصل 227 مكرر من القانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة على أن "مرتكب جريمة الاغتصاب يعاقب بالسجن 20 عامًا، ويعتبر الرضا مفقودًا بالنسبة لمن سنهم دون 16 سنة ويعاقب مرتكب الاغتصاب باستعمال السلاح أو ضد طفل ذكر كان أو أنثى أو ضد سفاح القربى "الأصول وإن علوا والإخوة والأخوات وابن الأخت والأخ وأحد الفروع" بالسجن مدى الحياة.

في كل مرة ترتكب جريمة بشعة وتنتشر عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي حتى تصبح قضية رأي عام، تعود مسألة عقوبة الإعدام للواجهة فتصبح مطلبًا شعبيًا ملحًا ما عدا للحقوقيين الذين لا يؤمنون بنجاعتها

وفي كل مرة ترتكب جريمة بشعة وتنتشر عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي حتى تصبح قضية رأي عام، تعود مسألة عقوبة الإعدام للواجهة فتصبح مطلبًا شعبيًا ملحًا ما عدا للحقوقيين الذين لا يؤمنون بنجاعتها في الحد من منسوب الجريمة.      

ويشدد رئيس الرابطة التونسية لحقوق الإنسان بسام الطريفي على أن موقف الرابطة مناهض لعقوبة الإعدام على اعتبارها عقوبة لا إنسانية ونهائية ولا يمكن الرجوع فيها أو تعويضها في صورة تنفيذها، لافتًا إلى وجود العديد من الحالات التي تبينت فيها بعد تنفيذ الإعدام براءة المتهم. 

 كما بين الطريفي، في حديثه لـ"الترا تونس"، أن إحصائيات أجريت في جميع دول العالم أثبتت أن الحكم بالإعدام وتنفيذ العقوبة لم يكونا يومًا من أسباب تراجع الجريمة، بل بالعكس يتزايد منسوب الإجرام كلما تمارس السلطة القتل لأنه يشجع على العنف، حسب قوله.

رئيس رابطة حقوق الإنسان لـ"الترا تونس": نناهض عقوبة الإعدام على اعتبارها عقوبة لا إنسانية ونهائية ولا يمكن الرجوع فيها أو تعويضها في صورة تنفيذها فضلًا عن عدم نجاعتها في تقليص أرقام الجريمة في تونس

وأشار الطريفي إلى أن البلاد التونسية صادقت على عدم تطبيق عقوبة الإعدام لكن الحكم بهذه العقوبة لا يزال متواصلًا رغم محاولات وضع ملف إلغاء عقوبة الإعدام على طاولة المجالس التشريعية المتعاقبة. كما اعتبر أن الرأي العام لم يفلح في إلغاء عقوبة الإعدام والإقناع بعدم جدواها كوسيلة للردع.

ويقول الطريفي إنّ "تونس تتعهد بالقيام بمراجعة تشريعاتها في مجلس حقوق الإنسان وفي الاستعراض الدولي الشامل، لكنّ هذا لم يحدث، ونحن بصدد معاينة صدور أحكام بالإعدام خاصة بمقتضى قانون الإرهاب".

ودعا محدث "الترا تونس" الدولة التونسية، في هذا الصدد، إلى مراجعة هذه التشريعات والتقليص من الجرائم المستوجبة للإعدام.

وختم الطريفي حديثه بتأكيد أنّ "الإعدام عقوبة لا إنسانية"، مشددًا على أنه "لا يمكن للدولة أن تمارس القتل حتى وإن كان مقننًا"، وأنه "يجب مراجعة المجلة الجزائية وكل القوانين التي فيها عقوبة الإعدام"، حسب رأيه.  

جدير بالذكر أن تونس تسجل أرقامًا قياسية في الاغتصاب وقد كشفت إحصائيات صادرة عن وحدة الطب الشرعي بمستشفى شارل نيكول لسنة 2019 عن وقوع 800 حالة اغتصاب سنويًا، 65 بالمائة من ضحاياها أطفال لا تتجاوز أعمارهم 18 سنة.