أعلن الرئيس التونسي قيس سعيّد، مساء 25 جويلية/ يوليو 2021، عَزْل رئيس الحكومة هشام المشيشي، وتجميد اختصاصات البرلمان، ورفع الحصانة عن النواب، وتولي رئاسة النيابة العامة، وفَرْض حظر تجوال ليليّ مدّته شهر. وجرى إعلان القرارات التي وصفها سعيّد بـ "الاستثنائية" بحضور قياداتٍ من الجيش والأمن. وقد طرح حضور هذه القيادات الإعلان عن قرارات الرئيس أسئلة قديمة، وأخرى مستجدة، عن دور المؤسسة العسكرية التونسية وموقعها في المشهد الأمني والسياسي منذ ثورة 2011، خاصةً بعد الإجراءات الرئاسية الأخيرة، وعمَّا إذا كان 25 جويلية/ يوليو 2021 يمثل تاريخًا فاصلًا في المشهد السياسي التونسي وفي تاريخ المؤسسة العسكرية التي ظلت محل ثقة التونسيين على امتداد السنوات التي تلت الثورة.
طرح حضور القيادات العسكرية الإعلان عن قرارات الرئيس أسئلة قديمة، وأخرى مستجدة، عن دور المؤسسة العسكرية التونسية وموقعها في المشهد الأمني والسياسي منذ ثورة 2011، خاصةً بعد الإجراءات الرئاسية الأخيرة
- التأسيس والأدوار المبكرة
تأسس الجيش الوطني التونسي، رسميًّا، في 24 حزيران/ يونيو 1956، حين صدّق مؤتمر الحزب الدستوري الحاكم على لائحة تطالب بـ"إحداث قوّة عمومية تكون نواة لجيش وطني تساعد على تحقيق الهدوء واستتباب الأمن والسلام بأرض الوطن"، بعد ثلاثة أشهر من إعلان الاستقلال عن الاحتلال الفرنسي. ومع تأسيس نواته الأولى، ساهم الجيش في أهم المعارك التي شهدتها البلاد ضد بقايا الاحتلال الفرنسي، خاصة في رمادة جنوبًا وبنزرت شمالًا، كما ساهم في التصدي لتوغلات الجيش الفرنسي المتمركز حينها في الجزائر. ففي ماي/ مايو 1958، شاركت تشكيلة عسكرية في معركةٍ خاضها متطوعون ضد قواتٍ فرنسيةٍ حاولت التوسع في قرية رمادة والقرى المجاورة في أقصى الجنوب، وقد سقط في هذه المعركة عشرات القتلى والجرحى من المدنيين والمتطوعين والعسكريين.
أدّت الأحداث التي شهدتها قرية رمادة إلى إخلاء فرنسا قواعدها في الجنوب التونسي، في حين أبقت على وجودها العسكري في بنزرت، أقصى شمال البلاد؛ ما أدى إلى اندلاع اشتباكات دامية بين الجيش التونسي الناشئ والمتطوعين من جهة، وقوات الاحتلال الفرنسي من جهة أخرى. وفي جويلية/ يوليو 1961، وبعد أيام من مطالبة الرئيس التونسي الراحل، الحبيب بورقيبة، فرنسا بإجلاء قواتها عن مدينة بنزرت، وسَّعت القوات الفرنسية قاعدتها هناك، غير أنها واجهت مقاومة نحو 500 عنصر من الجيش التونسي مدعومين بمسلحين متطوعين. ورغم الخسائر الجسيمة التي لحقت بالقوات التونسية الناشئة، فإن هذه المعركة مهّدت لمفاوضات ثم تفاهمات أدت، بعد سنتين، إلى رحيل آخر جندي فرنسي عن تونس.
ورغم حداثة تكوينه، كان الجيش التونسي حاضرًا في جُل الأحداث الساخنة التي عرفتها المنطقة العربية؛ إذ شارك بفوجين اثنين في تأمين الجبهة البحرية لمدينة بورسعيد المصرية وببعثة طبية عسكرية لدعم الجبهة السورية أثناء حرب 1973. وفي عام 1970، شاركت بعثة عسكرية تونسية في جهود مراقبة وقف إطلاق النار بين الجيش الأردني والفدائيين الفلسطينيين، إثر أحداث أيلول الأسود. ولم تقتصر المساهمات الخارجية للجيش التونسي على النزاعات المرتبطة بالصراع العربي - الإسرائيلي؛ إذ شارك بوحدة عسكرية في القوات المتعددة الجنسيات في الصومال عام 1992، تولّت تأمين عدد من المواقع في العاصمة مقديشو، كما شارك في مهمات أخرى ضمن قوات الأمم المتحدة، في الصحراء الغربية والكونغو ورواندا وبورندي وإريتريا وكمبوديا وهايتي وكوسوفو.
شكل المقاومون الذين انحازوا إلى الرئيس، الحبيب بورقيبة، ضد صالح بن يوسف، إثر الخلاف بينهما حول اتفاقيات الحكم الذاتي مع فرنسا، جزءًا من النواة الأولى للجيش
محطات التسييس
لم يكن تأسيس الجيش التونسي منعزلًا عن تأثير السياقات السياسية، المحلية والإقليمية، في أواخر خمسينيات القرن العشرين؛ إذ شكل المقاومون الذين انحازوا إلى الرئيس، الحبيب بورقيبة، ضد صالح بن يوسف، إثر الخلاف بينهما حول اتفاقيات الحكم الذاتي مع فرنسا، جزءًا من النواة الأولى للجيش، كما كان بناء مؤسسة عسكرية منظمة تدين بالولاء لخيارات الدولة الوليدة من الاهتمامات المبكرة للحزب الدستوري الحاكم. ورغم الخصوصية التي رافقت تأسيس الوحدات الأولى للجيش عقب الاستقلال، فإنّ تونس لم تكن استثناءً في سياق عربي تحوّلت فيه المؤسسات العسكرية الفتية إلى فاعل مؤثِّر في الصراع على الحكم؛ إذ شهدت، هي أيضًا، محاولات مبكرة للانقلاب كان لضباط الجيش دور مهم فيها.
في عام 1962، بعد عام واحد من معركة بنزرت، شهدت البلاد أولى محاولات الانقلاب وأخطرها على حكم الرئيس بورقيبة. ورغم أن قائد المحاولة الانقلابية لم يكن منتسبًا إلى المؤسسة العسكرية، فإن معظم من شاركوا فيها كانوا ضباطًا في الجيش والحرس الوطني. وما إنْ كشف المخطط، الذي أُحبط قبل الشروع في تنفيذه، حتى واجه بورقيبة المحاولة بقسوة بالغة، وأُحيلت المجموعة إلى محاكمة سريعة انتهت بإعدام عشرة متهمين رميًا بالرصاص، وإصدار أحكام ثقيلة بالسجن والأشغال الشاقة على بقية المتهمين.
أدّت المحاولة الانقلابية، التي كان بعض قادتها من المتعاطفين مع صالح بن يوسف ومن قدماء الزيتونيين ومن المتأثرين بالفكر العروبي، إلى تداعيات كبيرة على الحياة السياسية في تونس؛ إذ أُلغيت التعددية الحزبية، وحُظر الحزب الشيوعي التونسي، الذي لم تكن له أي علاقة بالمحاولة الانقلابية، كما فتحت محاكمة المتهمين فيها الباب أمام سلسلة من المحاكمات السياسية، طوال حكم بورقيبة وزين العابدين بن علي، شملت مختلف مكونات المشهد السياسي؛ من عروبيين وشيوعيين وإسلاميين، فضلًا عن حقوقيين وطلاب وغيرهم.
في عام 1962، شهدت البلاد أولى محاولات الانقلاب وأخطرها على حكم الرئيس بورقيبة. ورغم أن قائد المحاولة الانقلابية لم يكن منتسبًا إلى المؤسسة العسكرية، فإن معظم من شاركوا فيها كانوا ضباطًا في الجيش والحرس الوطني
شهدت السنوات الأخيرة من حكم الرئيس بورقيبة حملة اعتقالات كبيرة شملت آلافًا من المنتمين إلى حركة الاتجاه الإسلامي (حركة النهضة لاحقًا) والمتعاطفين معها، تُوِّجت بإصدار أحكام ثقيلة بالسجن في حقهم، وأحكام أخرى بالإعدام طاولت قيادات من الصف الأول. وأدى الصراع بين نظام بورقيبة والحركة الإسلامية إلى دخول البلاد في أزمة سياسية خانقة، في ظل عجز الرئيس وتقدّمه في السن وتحكّم المقربين منه في القرارات المصيرية في البلاد؛ ما مهّد للانقلاب الذي قاده آنذاك زين العابدين بن علي، الذي أمضى، معظم حياته المهنية، ضابطًا في الجيش قبل أن يعيّنه بورقيبة مديرًا للأمن الوطني، ثم وزيرًا للداخلية فرئيسًا للوزراء.
استند بن علي في انقلابه، يوم 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987، إلى فصل من الدستور يسمح للوزير الأول بتولي الحكم في حال عجز الرئيس عن ممارسة مهماته، واستعان في ذلك بتقرير طبي لإثبات حالة العجز، فبدا الانقلاب، من الناحية الشكلية، انتقالًا للحكم في إطار أحكام الدستور. واستعان بن علي في انقلابه بمجموعة من الضباط؛ من بينهم اللواء الحبيب عمار الذي عيّنه بن علي آمرًا للحرس الوطني. وتزامن انقلاب بن علي مع محاولة انقلاب أخرى كانت توشك أنْ تُنَفَّذ على يد "مجموعة الإنقاذ الوطني" التي تشكلت من ضباط ومدنيين مقربين من حركة الاتجاه الإسلامي. ورغم أن هذه المحاولة لم تستهدف نظام بن علي الذي خلف بورقيبة، فإن بن علي قمع المحاولة بقوة وعرَّض قادتها لتعذيب قاسٍ أدى إلى وفاة قائدها العسكري، الرائد محمد المنصوري.
لم يدُم الهدوء الذي طبع علاقة بن علي بالحركة الإسلامية طويلًا، فقد شنَّت الأجهزة الأمنية، ابتداءً من منتصف عام 1990، حملة شاملة على حركة النهضة، بلغت أوجها بالإعلان عن كشف تنظيم يضم عسكريين ومدنيين يخطط لإطاحة حكم بن علي؛ عرف بـ "برَّاكة الساحل" (مدينة في ولاية نابل شمال شرق تونس). ورغم أن حركة النهضة أنكرت ارتباطها بأي تنظيم سري واتهمت نظام بن علي باختلاق القضية للتخلص من القيادات الكفؤة في المؤسسة العسكرية، فإن النظام أصرَّ على روايته، وشنَّ حملة اعتقالات واسعة في حق مئات العسكريين، فضلًا عن عزل مئات آخرين.
استند بن علي في انقلابه، يوم 7 نوفمبر 1987، إلى فصل من الدستور يسمح للوزير الأول بتولي الحكم في حال عجز الرئيس عن ممارسة مهماته، واستعان في ذلك بتقرير طبي لإثبات حالة العجز
تعرضت المؤسسة العسكرية، إثر "قضية برَّاكة الساحل"، لتهميش دورها وتقليص عدد المنتسبين إليها؛ إذ تم تشريع آلية يتم بمقتضاها إعفاء الشبَّان من أداء الخدمة العسكرية الإلزامية مقابل دفع بدل مالي تحت مسمى "التعيينات الفردية"، كما تم تقليص مناظرات الالتحاق بالقوات المسلحة. وفي السياق ذاته، أطلقت يد الأجهزة الأمنية لإيقاف العسكريين - بمن فيهم أصحاب الرتب العالية - والتحقيق معهم، في حين كان هذا الدور من اختصاص جهاز الأمن العسكري.
- الجيش والثورة
مثّلت الثورة الشعبية، التي انطلقت في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010 وأدت إلى سقوط نظام الرئيس بن علي في 14 جانفي/ يناير 2011، محطة مهمة في تاريخ الجيش التونسي. فبعد سقوط أعداد من المتظاهرين برصاص قوات الأمن، وإحراق الكثير من المقرات الأمنية، وانسحاب رجال الشرطة في جلّ الجهات، في إثر عجزهم عن السيطرة على الوضع، تحركت الوحدات العسكرية خارج ثكناتها، وتمركزت في أغلب المدن لحماية المقرات السيادية والمؤسسات الإدارية والمنشآت العامة ومصانع المواد التموينية ومحطات المياه والكهرباء، وسيَّرت دوريات للحفاظ على الأمن في الأحياء السكنية والمناطق التي تشهد توترات.
لم يكن مشهد الدبابات والمدرعات والآليات العسكرية المنتشرة في الساحات العامة وأمام المؤسسات أمرًا مألوفًا في تونس؛ إذ يعود آخر نزول عسكري كثيف إلى الشارع إلى جانفي/ يناير 1984، حين اندلعت أحداث دامية عُرفت بـ "انتفاضة الخبز" على خلفية رفع الدعم عن المواد التموينية. ومنذ ذلك الوقت، ظل الجيش يلازم ثكناته، ولم يُعرف عنه أي تدخّل مباشر في الشأن الأمني اليومي، باستثناء الانتشار المحدود لبعض التشكيلات العسكرية عقب مواجهات بين المتظاهرين وقوات الأمن في مدينة الرديف، من ولاية قفصة، أدّت إلى سقوط قتلى وجرحى في عام 2009.
قوبل نزول الجيش إلى وسط المدن، خلال الثورة والأشهر التي تلتها، بترحيب شعبي عامّ، لأسباب عدة؛ من بينها إزالة التوتر وتبديد هواجس الريبة التي طبعت علاقة الشعب بالمؤسسة الأمنية طوال عقود، والعنف المفرط الذي قابلت به أجهزة الأمن المتظاهرين في بداية الثورة؛ إذ بدا المزاج العامّ مطمئنًّا، على العموم، لجيش لم يُعرف عنه انخراط مباشر في الممارسات القمعية. وفي ظل الفراغ الأمني، الذي خلفه انسحاب الشرطة من أغلب المدن وتخلّيها عن مهماتها، سادت مظاهر الترحيب بالتشكيلات العسكرية التي انتشرت في المدن والأحياء. وعلى خلاف الوحدات الأمنية التي كان حضورها مثيرًا للتوتر والمواجهات، شكَّل انتشار الجيش عامل تهدئة، ولم تشهد أيّ مدينة مواجهات بينه وبين المحتجين، رغم محدودية عدد المنتسبين إلى الجيش الذين لم يتجاوزوا، حينها 40 ألفًا، وهو رقم أدنى بكثير من عدد المنتسبين إلى الأجهزة الأمنية.
قوبل نزول الجيش إلى وسط المدن، خلال ثورة 2011 والأشهر التي تلتها، بترحيب شعبي عامّ، لأسباب عدة؛ من بينها إزالة التوتر وتبديد هواجس الريبة التي طبعت علاقة الشعب بالمؤسسة الأمنية طوال عقود
وعلى خلاف ما أُشيع، أثناء الثورة، عن رفض قيادات عسكرية عليا، من بينها رئيس الأركان رشيد عمار، تعليمات صادرة عن الرئيس الراحل بن علي بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، لم يثبت، عمليًّا، أنّ بن علي قد أمر الجيش بذلك، أو أنّ القيادات العسكرية رفضت تنفيذ أوامر من هذا القبيل. لكن الواضح أن المؤسسة العسكرية قررت عدم الانحياز إلى النظام أو الدفاع عنه، والاكتفاء بتأمين المؤسسات العامة والمرافق الحيوية. وقد تجلى ذلك في عدة مواقف؛ من بينها الامتناع عن التدخل لمنع المتظاهرين من إحراق المقرات الأمنية ومساكن عائلة بن علي وأصهاره ومؤسساتهم، وفسح المجال أمام القوات الخاصة لتطويق مطار قرطاج، ومنع فرار أقارب بن علي إلى الخارج في 14 كانون الثاني/ يناير 2011.
تواصل حضور المؤسسة العسكرية المباشر في المشهد التونسي طوال السنة التي تلت بداية الثورة؛ إذ قامت بتأمين المؤسسات التعليمية أثناء الامتحانات، وأدَّت أدوارًا في تنظيم انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، وتولَّت حماية مراكز الاقتراع ونقل الصناديق من هيئة الانتخابات وإليها؛ ما حافظ على منسوب الثقة العالي في مؤسسة الجيش لدى الرأي العامّ، بصفتها مؤسسة حامية للانتقال الديمقراطي ولا تطمح إلى الحكم، على خلاف ما عرف عن المؤسسات العسكرية في بلدان عربية مجاورة.
- الرئيس والجيش
يتولى الرئيس قيس سعيّد، بمقتضى الدستور، القيادة العليا للقوات المسلحة، وهي المهمة التي تولاها قبله الرئيسان المنصف المرزوقي والباجي قائد السبسي من دون إثارة إشكاليات أو جدل في هذا الشأن. غير أنّ الرئيس سعيّد حوّل هذه الصلاحية إلى عُقدة في علاقته بباقي مؤسسات الحكم في تونس. فقد واظب، منذ توليه مسؤولياته، على أداء زيارات متكررة إلى ثكنات الجيش وغرف العمليات العسكرية، إضافة إلى المراكز الأمنية ووزارة الداخلية. وتخللت هذه الزياراتِ خطاباتٌ سياسية حادة هاجم فيها خصومه السياسيين. ويُعَدّ تقديم خطابات ذات مضمون سياسي داخل الثكنات العسكرية، بحضور قادة الجيش والمنتسبين إليه، أمرًا غير مسبوق في تونس حتى في زمن الرئيسَين بورقيبة وبن علي.
في إطار التجاذبات التي شهدتها علاقة سعيّد بكل من رئيس الحكومة ورئيس البرلمان، عمد سعيّد إلى تأويل دستوري فريد، نصّب نفسه بمقتضاه "قائدًا أعلى للقوات المسلحة المدنية إضافة إلى صفته الدستورية قائدًا أعلى للقوات المسلحة العسكرية
وفي إطار التجاذبات التي شهدتها علاقة الرئيس سعيّد بكل من رئيس الحكومة هشام المشيشي ورئيس مجلس النواب راشد الغنوشي، عمد سعيّد، في اجتماع عقده بالقيادات العسكرية والأمنية إلى تأويل دستوري فريد، نصّب نفسه بمقتضاه "قائدًا أعلى للقوات المسلحة المدنية (أي الشرطة، والحرس الوطني، والجمارك)، إضافة إلى صفته الدستورية قائدًا أعلى للقوات المسلحة العسكرية، معتبرًا أنّ الدستور لم يفصّل في تبعية قوات الأمن الداخلي، وأنّ وصف "القوات المسلحة" ورد في صيغة التعميم وهو ما يسحبه على قوات الأمن الداخلي، إضافة إلى الجيش، ويلحق قيادتها برئيس الجمهورية؛ وهو تفسير غير مسبوق لمعنى عبارة "القوات المسلحة". وعقب هذا التأويل الدستوري، عمد الرئيس سعيّد إلى زيارة وزارة الداخلية، أثناء وجود رئيس الحكومة المشيشي الذي يتولى وزارة الداخلية بالنيابة، في الخارج، وأقال عددًا من القيادات الأمنية ونصّب مكانهم قيادات أخرى تدين له بالولاء، وهو الأمر الذي ردّ عليه المشيشي بإقالة المسؤولين الذين نصّبهم سعيّد وإعادة القيادات الأولى إلى مواقعها.
وفي سياق سعي الرئيس سعيّد لوضع اليد على المؤسستين العسكرية والأمنية، للاستقواء بهما على خصومه السياسيين، ابتكر هيكلًا أمنيًّا جديدًا بديلًا من مجلس الأمن القومي الذي يضم في عضويته رئيس الحكومة ورئيس البرلمان، أطلق عليه اسم "المجلس الأعلى للأمن"، وهو مؤسسة غير دستورية. ويبدو أن سعيّد جنح إلى هذه الصيغة لتفادي حضور رئيسَي الحكومة والبرلمان، في الاجتماعات التي يتمّ فيها تداول المسائل الأمنية مع قيادات الجيش والأمن الذي أصبح جزءًا من القوات المسلحة بموجب التأويل الدستوري الذي ذهب إليه سعيّد في وقت سابق. ولممارسة المزيد من الحصار على الحكومة ولإظهار عجزها، وسّع سعيّد مهمات المؤسسة العسكرية، وكلّفها بالتعامل مع الأزمة الصحية الناتجة من جائحة فيروس كورونا؛ من خلال الإشراف على تلقي شحنات التلقيح وتخزينها وتوزيعها، وتنظيم حملات تطعيم في الولايات تواكبها تغطية إعلامية مكثفة؛ لإظهار عجز الحكومة وهياكلها، مقابل نجاح المؤسسة العسكرية الذي جرى تسويقه على أنه نجاح شخصي للرئيس. ورغم أن تدخل الجيش لدعم جهود الهياكل والمؤسسات المدنية والمساعدة في التصدي للأزمات والكوارث والجوائح ليس أمرًا غير طبيعي في تونس، فإن السياق الذي جرى فيه ذلك، خلال الأشهر الأخيرة، يدفع إلى ترجيح فرضية تهيئة الرأي العامّ للترحيب بدخول الجيش إلى المجال السياسي وتهيئة الجيش، في حد ذاته، للقيام بدور سياسي لم يعتده منذ تأسيسه.
وسّع سعيّد مهمات المؤسسة العسكرية، وكلّفها بالتعامل مع الأزمة الصحية وكان السياق الذي جرى فيه ذلك، خلال الأشهر الأخيرة، يدفع إلى ترجيح فرضية تهيئة الرأي العامّ للترحيب بدخول الجيش إلى المجال السياسي وتهيئة الجيش، في حد ذاته، للقيام بدور سياسي لم يعتده منذ تأسيسه
موقف الجيش من قرارات 25 جويلية/ يوليو
عَقَد الرئيس قيس سعيّد، مساء الأحد 25 تموز/ يوليو 2021، اجتماعًا وصفه بـ "الطارئ" مع قيادات عليا من المؤسستين العسكرية والأمنية، عقب يوم شهد أعمال عنف في عدد من المدن، استهدف جلّها مكاتب حركة النهضة. وأعلن سعيّد، في ختام الاجتماع، أن البلاد تتعرض لـ "خطر داهم"، متهمًا خصومه بـ "الغدر والسطو والنفاق"، ومهددًا كل من يعارض قراراته بـ "مجابهته بوابل من الرصاص".
بناءً على قرارات سعيّد، تولّت عناصر من الجيش إغلاق مجلس النواب وقصر الحكومة ومبانٍ إدارية أخرى، وسُيِّرت دوريات محدودة في بعض المناطق، من دون اللجوء إلى الانتشار الكثيف وسط الأحياء والمدن مثلما حدث في بداية ثورة 2011. وفي اليوم التالي، منع الجيش رئيس مجلس النواب، راشد الغنوشي، ونوابًا آخرين، من دخول مبنى البرلمان بذريعة صدور "تعليمات عليا"؛ في إشارة ضمنية إلى قرارات صادرة عن القائد الأعلى للقوات المسلحة، الرئيس سعيّد، كما منَع موظفي رئاسة الحكومة من الالتحاق بعملهم.
لم يصدر عن المؤسسة العسكرية أيّ بيان حول موقفها من الإجراءات التي اتخذها الرئيس سعيّد، ولا حول مهماتها في هذه المرحلة؛ وهو ضرب من الغموض اعتادته المؤسسة العسكرية التونسية التي تُنعت بـ "المؤسسة الصامتة"، غير أنّ حضور كبار قادة الأمن والجيش خلال الاجتماع الطارئ الذي ترأّسه سعيّد، والمسارعة إلى تنفيذ قراراته، يطرحان تساؤلات عن موقف المؤسسة العسكرية من الانقلاب الرئاسي على الدستور، وعمَّا إذا كان التزامها بتعليمات الرئيس يأتي من باب الانضباط العسكري وتطبيق التعليمات الصادرة عن القيادة، أو من باب أنّه تحوّلٌ في التعامل مع الشأن السياسي بأداء أدوار مباشرة فيه، بعد أنْ ظلّت بمنأى عن التجاذبات السياسية. ورغم الصمت الذي التزمته المؤسسة العسكرية في إثر 25 جويلية/ يوليو والغموض الذي ظل يلفّ موقفها، فإن إصدار مرسوم رئاسي بإقالة وزير الدفاع إبراهيم البرتاجي، بعد يوم واحد من الانقلاب، ثم عزل المدعي العام العسكري، يؤشر إلى وجود صعوبات واجهت الرئيس سعيّد في توظيف المؤسسة العسكرية برمتها في مشروعه الجديد.
رغم الصمت الذي التزمته المؤسسة العسكرية إثر قرارات 25 جويلية فإن إصدار مرسوم رئاسي بإقالة وزير الدفاع وعزل المدعي العام العسكري، يؤشر إلى وجود صعوبات واجهت الرئيس سعيّد في توظيف المؤسسة العسكرية برمتها في مشروعه الجديد
- آفاق غير واضحة
ما إنْ دخلت الإجراءات التي أعلنها الرئيس سعيّد حيّز التنفيذ، حتى تتالت مذكرات التوقيف والجلب الصادرة عن القضاء العسكري، وقد استهدف جلّها نوّابًا وشخصيات سياسية معروفة بمعارضتها للرئيس؛ إذ فعّلت المحكمة العسكرية حكمًا بالسجن صادرًا ضد النائب ياسين العياري على خلفية تدوينات نشرها على شبكات التواصل الاجتماعي، وأصدرت برقيات تفتيش وجلب ضد خمسة نواب من كتلة ائتلاف الكرامة، كما تعرض مدونون معارضون للتوقيف، وأُحيلوا على القضاء العسكري رغم أنّ قضاياهم لا علاقة لها بالمؤسسة العسكرية. ويأتي تعويل الرئيس سعيّد على القضاء العسكري في ملاحقة خصومه السياسيين من المدنيين في ظل الاعتراض الذي أبداه المجلس الأعلى للقضاء على تولّيه رئاسة النيابة العامة، وتوقيع عشرات القضاة والمستشارين عريضة تندد بالخروقات القانونية التي شابت تطبيق الإجراءات التي أعلنها سعيّد؛ على غرار مَنْع قضاة ومواطنين من السفر من دون سند قانوني، ومن دون صدور أُذون قضائية في هذا الشأن.
وفي سياق إجراءات ما بعد 25 تموز/ يوليو، عَيّن الرئيس سعيّد عميدًا من الجيش وزيرًا للصحة، ووسّع مهمات المؤسسة العسكرية في مجال مكافحة جائحة كورونا؛ إذ جرى تنظيم أيام مفتوحة للتطعيم في مختلف المدن تحت إشراف إدارة الصحة العسكرية، وصدرت تعليمات لمختلف وسائل الإعلام من أجل تغطية هذه الأنشطة بكثافة، والتغاضي عن أحداث التدافع والفوضى التي شهدتها بعض مراكز التطعيم. ويُعدّ تعيين عسكريين في مواقع حكومية وإدارية أمرًا نادر الحدوث في تونس، غير أن ما حدث قد يؤشر إلى أن المرحلة القادمة قد تشهد تولي عسكريين مسؤوليات حكومية وإدارية؛ من بينها الوزارات، والولايات، والإدارات العامة، والمؤسسات الوطنية.
يأتي تعويل الرئيس سعيّد على القضاء العسكري في ملاحقة خصومه السياسيين من المدنيين في ظل الاعتراض الذي أبداه المجلس الأعلى للقضاء على تولّيه رئاسة النيابة العامة وتوقيع عشرات القضاة والمستشارين عريضة تندد بالخروقات القانونية التي شابت تطبيق الإجراءات التي أعلنها سعيّد
لا يمكن الجزم، حتى الآن، بتحول جذري في عقيدة الجيش التونسي وموقعه في المشهد السياسي، غير أنّ توسيع مهمات المؤسسة العسكرية لتشمل قطاعات مدنية عدة ظلت منذ الاستقلال بمنأى عن العسكرة مؤشرٌ دالٌّ على نية الرئيس سعيّد المضي في مخالفاته للدستور، وفي الحقيقة انقلابه عليه، بتحويل الجيش إلى ذراع وظيفية له لتنفيذ برنامجه الذي لم تتضح معالمه حتى الآن، وأداء أدوار تشبه الأدوار التي قامت بها المؤسسة الأمنية قبل الثورة. وتجدر الإشارة، في هذا السياق إلى أن الرئيس سعيّد أشاد بنموذج الجيش المصري، في أكثر من مناسبة، وأثنى على أدائه في مواجهة الأزمة الصحية، معتبرًا إيّاه نموذجًا ناجحًا يمكن الاقتداء به. والحقيقة أنّ بعض الأنظمة الديمقراطية تستعين بالجيش في زمن الكوارث، ولكن التشبّه بالنموذج المصري، وجعل الجيش أداة في خرق الدستور وفي محاكمة معارضين سياسيين، هما أمران مختلفان تمامًا.
- خاتمة
لا شك في أن الجيش التونسي، كغيره من الجيوش النظامية الأخرى، بما فيها جيوش الدول الديمقراطية المستقرة، لم يكن في أي مرحلة من تاريخه بمنأى عن السياسة بأبعادها الواسعة التي تشمل الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمن القومي، الداخلي والخارجي؛ فهو المؤسسة التي تتمثل مهمتها الأولى في الدفاع عن الوطن وحفظ كيانه ووحدته الترابية وتأمين حدوده، غير أن "تطلّع الجيش إلى السياسة بمعناها الضيق، أي ممارسة الحكم، والاستيلاء عليه، أو المشاركة فيه، أو اتخاذ القرار بشأنه"، سيكون انتكاسة للانتقال الديمقراطي في تونس، وضربًا لصورة المؤسسة العسكرية ذاتها التي ظلت ضامنةً للاستقرار ومحلًّا لثقة أغلب التونسيين. ولا شك أيضًا في أنّ الانتقال الديمقراطي الذي بدأته البلاد، بعد ثورة 2011، كان انتقالًا متعثرًا لأسباب موضوعية وأخرى مفتعلة، كما أنّ أداء النخب السياسية ومؤسسات الحكم؛ بما فيها البرلمان، لم يكن في مستوى توقعات أعداد كثيرة من التونسيين بعد نصف قرن من الاستبداد، غير أنّ البديل لا يكون بعسكرة المشهد السياسي والمؤسسات المدنية والارتداد عن المكتسبات النسبية التي تحققت خلال عَقد من عمر الثورة.
اقرأ/ي أيضًا: