تواجه تونس تحديات غير مسبوقة نتيجة تغير المناخ، الذي ترك آثارًا مدمرة على قطاعاتها الأساسية، ما يهدد بشكل جديّ مستقبل الأفراد وسبل عيشهم. ولم تعد هذه الظاهرة مجرد قضية بيئية، بل أصبحت مسألة وجودية تمس حياة السكان واستدامتهم.
وتراجعت نسبة الخصوبة في البلاد لتنخفض في أقل من عقد من 2.4 طفل لكل امرأة سنة 2013 إلى 1.8 طفل في 2021، وفق بيانات رسميّة للمعهد الوطني للإحصاء (حكومي).
تواجه تونس تحديات غير مسبوقة نتيجة تغير المناخ، الذي ترك آثارًا مدمرة على قطاعاتها الأساسية، ما يهدد بشكل جديّ مستقبل الأفراد وسبل عيشهم، خاصة وأنّ تغير المناخ يلوح كأحد الأسباب المهمة لكبح معدلات الإنجاب
ورغم أنّ معظم تفسيرات المعهد تعزو هذا الانخفاض إلى عزوف الشباب عن الزواج والاختيارات الفردية والضغوط الاقتصادية، يلوح تغير المناخ كأحد الأسباب المهمة لكبح معدلات الإنجاب في تونس.
-
الحرارة عائق أمام الإنجاب
أكد أخصائي أمراض النساء والتوليد، الدكتور محمد أيمن الفرجاوي، أنّ ارتفاع درجات الحرارة يؤثر على خصوبة كلا الجنسين ويجعل سعي الأزواج إلى الإنجاب أكثر صعوبة.
وتعني نسبة الخصوبة عدد الولادات الجديدة لكلّ ألف امرأة ضمن سنّ الإنجاب في الفئة العمرية من 15 إلى 49 سنة بغض النظر عن حالتهن المدنية، أي سواء كن عزباوات أو متزوجات أو أرامل أو مطلقات.
أخصائي أمراض النساء والتوليد محمد أمين الفرجاوي لـ"الترا تونس": ارتفاع درجات الحرارة يؤثر على خصوبة كلا الجنسين ويجعل سعي الأزواج إلى الإنجاب أكثر صعوبة، لا سيّما وأنّ ارتفاع درجة حرارة كيس الصفن يؤثر سلبًا على جودة الحيوانات المنوية وحركتها وشكلها
وأوضح الفرجاوي، في تصريح لـ"الترا تونس" أنّ "ارتفاع درجة حرارة كيس الصفن يؤثر سلبًا على جودة الحيوانات المنوية وحركتها وشكلها"، مضيفًا أنّ درجات الحرارة المرتفعة في عدد من المحلات مثل المخابز والحمامات العمومية "قد تسبب مشاكل جنسية للعاملين في المهن المرتبطة بها".
وأبرز ذات المصدر أن الطقس الحار يؤثر على السلوك الجنسي لأن الأنشطة التي تتطلب جهداً بدنياً تصبح أكثر صعوبة في درجات الحرارة المرتفعة.
وكشفت ورقة بحثية بعنوان "التضخم المناخي.. التحديات والفرص في مواجهة تغير المناخ" أن تونس من أكثر دول البحر الأبيض المتوسط تعرضًا لتغير المناخ، حيث شهدت البلاد ارتفاعًا في درجات الحرارة بحوالي 0.4 درجة مئوية خلال العقود الثلاث الماضية.
المهندس البيئي حمدي حشاد لـ"الترا تونس": تغير المناخ يساهم في طفرة جينية للفيروسات ويجعلها أكثر فتكًا بالبشر وصحتهم بما في ذلك تهديد خصوبتهم
من جانبه، اعتبر المهندس البيئي حمدي حشاد أنّ ارتفاع درجات الحرارة ومستويات الرطوبة عاملان لهما تأثير على الصحة الإنجابية لدى الذكور والإناث.
وأضاف حشاد، في تصريح لـ"الترا تونس"، أن تغير المناخ يساهم في طفرة جينية للفيروسات ويجعلها أكثر فتكًا بالبشر وصحتهم بما في ذلك تهديد خصوبتهم.
ولفت المهندس البيئي حمدي حشاد إلى ندرة الدراسات المرجعية التي تربط تغير المناخ بالصحة الإنجابية بشكل مباشر وهو ما يحدّ من فهم هذه التأثيرات على المجتمع التونسي.
المهندس البيئي حمدي حشاد لـ"الترا تونس": ندرة الدراسات المرجعية التي تربط تغير المناخ بالصحة الإنجابية بشكل مباشر تحدّ من فهم هذه التأثيرات على المجتمع التونسي
وأشارت دراسة أجراها باحثون بجامعة سنغافورة الوطنية إلى أن الرجال الذين يعملون في بيئات حارة لديهم عدد حيوانات منوية أقل بنسبة 40% من الرجال الذين يعملون في بيئات أكثر برودة.
-
المبيدات الحشرية والأسمدة.. خطر إضافي
أخصائي أمراض النساء والتوليد محمد خروف لـ"الترا تونس": الاعتماد المكثف على المبيدات والأسمدة الكيميائية في الزراعة يؤدي إلى إنتاج محاصيل تحمل موادَ ضارّة تهدد خصوبة التونسيين
أدّى استعمال المبيدات الحشرية إلى إحداث تغييرات عميقة مسّت جودة المُنتجات الزراعية في تونس. ويحذّر الأطباء والباحثون من أنّ الضرر الذي تلحقه هذه المبيدات تطال الصحة الإنجابية لدى الذكور والإناث على حدٍّ سواء.
وتجد هذه المواد الكيميائية، المصممة أساسًا لحماية المحاصيل ومكافحة الآفات، طريقها إلى جسم الإنسان مسببةً اضطرابات كبيرة في التوازن الهرموني الدقيق الذي يحكم الوظائف الإنجابية.
وأكّد أخصائي أمراض النساء والتوليد، الدكتور محمد خروف، أن الاعتماد المكثف على المبيدات والأسمدة الكيميائية في الزراعة يؤدي إلى إنتاج محاصيل تحمل موادَ ضارّة تهدد خصوبة التونسيين.
أخصائي أمراض النساء والتوليد محمد خروف لـ"الترا تونس": لا بدّ من انتقاء الأطعمة العضوية وتجنب المنتجات البلاستيكية التي تحتوي على مادة بيسفينول "A"، لأنها مرتبطة بشكل وثيق بتكيس المبايض لدى الإناث
وأوصى خروف، في حديثه لـ"الترا تونس" بانتقاء الأطعمة العضوية وتجنب المنتجات البلاستيكية التي تحتوي على مادة بيسفينول "A"، لأنها مرتبطة بشكل وثيق بتكيس المبايض لدى الإناث.
-
التلوث والخصوبة
يربط الأطباء والباحثون بين التعرض لتلوث الهواء بالجسيمات الدقيقة وزيادة نسب العقم، وتبدو عدد من المحافظات التونسية على غرار قابس وصفاقس مهددةً بهذا الخطر المحدق.
وأشار فؤاد كريم، رئيس الجمعية التونسية للبيئة والطبيعة بقابس، في مقابلة صحفية ، إلى أن دراسة أعدتها الجمعية بمحافظة قابس (جنوب شرق تونس)، سلطت الضوء على التأثير السلبي للتلوث المنتشر في المنطقة على الصحة الإنجابية للمتساكنين.
يربط الأطباء والباحثون بين التعرض لتلوث الهواء بالجسيمات الدقيقة وزيادة نسب العقم، وتبدو عدد من المحافظات التونسية على غرار قابس وصفاقس مهددةً بهذا الخطر المحدق
وأبرز كريم أنّ الدراسة شملت 16 ألف عينة أثبتت معاناة النساء في سنّ الإنجاب من تأخر في الحمل بنسب مرتفعة.
ويعاني متساكنو محافظة قابس منذ أكثر من أربعة عقود من مشكلات التلوث الناتج عن تسرب الغازات السامة لعدد من الوحدات الكيميائية المتمركزة في المنطقة، أبرزها المجمع الكيميائي (مؤسسة حكومية).
وشدّد أخصائي أمراض النساء والتوليد، محمد أيمن الفرجاوي، على وجود فروقات جوهرية بين كيفية استجابة جسم الرجال والنساء للعوامل البيئية، فالرجال ينتجون الحيوانات المنوية من المنطقة الخارجية للجسم مباشرة إثر البلوغ، وهذا يعني أن تأثيرات الملوثات السامة تظهر بسرعة على الخصوبة. وعلى النقيض، تُولد النساء بجميع بويضاتها، وبسبب وجود منظومة داخلية لحماية هذه البويضات من التلف، يستغرق الأمر غالبًا وقتًا أطول حتى يظهر تأثير البيئة واضحًا على السيدات.
-
تغيّر المناخ يجعل مشروع الزواج والإنجاب مؤجلًا
يُلقي تغير المناخ بظلال قاتمة على الإنتاج الزراعي في تونس، وهو ما يفاقم الصعوبات التي تواجه الفئات الهشة، خصوصًا النساء.
ولفتت الباحثة في علم الاجتماع صابرين الجلاصي إلى أن النساء الريفيات يتحملن القسط الأوفر من الصدمات الناتجة عن تغير المناخ لأن هذه الظاهرة تحد من الفرص الاقتصادية المتاحة للنساء وتجعل إنجاب الأطفال في مرتبة متأخرة ضمن سلم أولوياتهن.
الباحثة في علم الاجتماع صابرين الجلاصي لـ"الترا تونس": النساء الريفيات يتحملن القسط الأوفر من الصدمات الناتجة عن تغير المناخ لأن هذه الظاهرة تحد من الفرص الاقتصادية المتاحة للنساء وتجعل إنجاب الأطفال في مرتبة متأخرة ضمن سلم أولوياتهن
وأوضحت الجلاصي، في تصريح لـ"الترا تونس"، أنّ الأشهر الأخيرة للحمل وفترة الإنجاب تعني غالبًا إجازة غير مدفوعة الثمن للنساء الريفيات في تونس، وهو ما يجعل تفكيرهن منصبًّا على حماية استدامة وظائفهن على حساب إنجاب مزيد من الأطفال.
وأظهرت دراسة أنجزتها وزارة البيئة التونسية، بالتعاون مع السفارة البريطانية، سنة 2022 بعنوان "الآثار الاقتصادية للتغّيرات المناخية في تونس"، أن القطاع الزراعي الذي يمثل 14.2 بالمائة من الناتج الداخلي الخام، يواجه خطر فقدان ما يقارب 1000 موطن شغل سنويًا.
وتوقّعت الدراسة أن تتجاوز الخسائر التي سيتكبدها قطاع الزيتون، وهو من القطاعات الاستراتيجية في البلاد، عتبة الـ228 مليون دولار سنويًا بحلول سنة 2100 بسبب شح المياه وزيادة عدد أيام الحر.
ولا يقتصر هذا التأثير على النساء، بل إنّ تدهور المحاصيل الزراعية ونضوب الثروة السمكية يتركان أثرًا على حياة قطاعات واسعة من السكان في تونس بشكل يؤثر على صحتهم النفسية وخططهم لإنجاب أطفال.
تؤدي الظروف المناخية المتدهورة، مثل الجفاف والفيضانات، إلى تدهور سبل العيش في المناطق الريفية، وهو ما يجبر الفئات الأكثر شبابًا على مغادرة المناطق المتضررة ما من شأنه أن يقلص نسبة الخصوبة ويهدد الاتجاه الديموغرافي طويل الأمد
على سبيل المثال، تؤدي الظروف المناخية المتدهورة، مثل الجفاف والفيضانات، إلى تدهور سبل العيش في المناطق الريفية، وهو ما يجبر الفئات الأكثر شبابًا على مغادرة المناطق المتضررة ما من شأنه أن يقلص نسبة الخصوبة في هذه المناطق ويهدد الاتجاه الديموغرافي طويل الأمد.
وأبرز الدكتور محمد خروف أن موجة الهجرة الحالية من تونس إلى الدول الأوروبية ساهمت في تخفيف وطأة التهرم السكاني في القارة العجوز مقابل تعميقها في بلدهم الأم، لكنّ الأسوأ أن الرغبة في الهجرة في نسق تصاعدي لدى الشباب التونسي.
الدكتور محمد خروف لـ"الترا تونس": موجة الهجرة الحالية من تونس إلى الدول الأوروبية ساهمت في تخفيف وطأة التهرم السكاني في القارة العجوز مقابل تعميقها في بلدهم الأم، لكنّ الأسوأ هو أنّ الرغبة في الهجرة في نسق تصاعدي
وتصدرت تونس قائمة دول المنطقة العربية التي يرغب شبابها بالهجرة بحثًا عن حياة أفضل، وفق ما جاء في تقرير الهجرة الصادر عن المنظمة البحثية الباروميتر العربي، في دورته الثامنة.
وجاء في التقرير ذاته أنّ 46% من مواطني تونس يقولون إنهم يفكرون في الهجرة، لافتًا إلى أن الشباب هم الأكثر تعبيراً عن الرغبة في الهجرة، مقارنةً بالأكبر سنًا. وكشف التقرير أن 7 من كل 10 شباب في تونس (تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عامًا) يرغبون في الهجرة.
بينما تتصاعد درجات الحرارة ومستويات التلوث في تونس، تتضاءل آمال الإنجاب مع ما يترتب عن ذلك من ضغوطات نفسية واجتماعية، وهو ما يثير تساؤلات حول التوازن الديمغرافي لمجتمع يهرم بنسق حثيث مما يستدعي اتخاذ إجراءات عاجلة للتخفيف من آثار تغير المناخ على الخصوبة وصحة الفرد والمجتمع.