مقال رأي
حظيت المدوّنة لينا بن مهني باهتمام إعلامي دولي بالغ طيلة التسع سنوات التي مضت من عمر مسارات الثورة التونسية. وتعرضتا معًا إلى وابل لا يكف من الشيطنة والترذيل طورًا والاختطاف التحوّزي طورًا آخر.
تنتمي لينا بن مهني إلى الجيل الذي ترعرع في ظل عقدي سيطرة بن علي على تونس. جيل شبابي عمل نظام بن علي على هندسته ثقافيًا وتعليميًا على مدار ربع قرن سيطر فيه على كل أجهزة الهيمنة الإيديولوجية والترويض والدعاية والمراقبة والمعاقبة، مباهيًا متفاخرًا بجعل "شباب تونس التغيير" مواكبًا لثمرات الثورة المعلوماتية، وصولًا إلى سنة 2010 ساعة أعلنها سنة دولية للشباب التونسي.
اقرأ/ي أيضًا: تونس.. تسع سنوات بعد الثورة
حتى فوجئ في السابع عشر من ديسمبر/ كانون الأول بتمرد الجيل الذي اعتقد أنه وضع عليه يديه وأصبح طوع بنانه بعدما أنهى منظماته الطلابية في بداية تسعينيات القرن الماضي، بعيد خمس سنوات من انقلابه على نظام بورقيبة الأبوي الذي بدوره رفض تمرد الأجيال الشبابية التي ترعرعت في ظل خياراته فانتهوا منفيين في محتشدات رجيم معتوق بتهمة عقوق الأب الرئيس قائد الجهاديين!
دخلت لينا بن مهني عالم التمرد على "صانع التغيير" (لقبه الأثير) من بوابة الأدوات التي تباهى بتمكين الشباب من مواكبتها
دخلت لينا بن مهني عالم التمرد على "صانع التغيير" (لقبه الأثير) من بوابة الأدوات التي تباهى بتمكين الشباب من مواكبتها حد تفاخره باحتضان فعاليات قمة عالمية للمعلومات بتونس سنة 2005. فهل تراه يصبر على هذا الجيل الذي سيجره من لسانه لاختبار حدود الدعوة من الدعاية في خطابه؟
لم ترصد أجهزة البوليس السياسي لنظام بن علي لينا بن مهني مناضلة طلابية في الاتحاد العام لطلبة تونس (الذي كان لوالدها المناضل اليساري الصادق بن مهنّي وحركة آفاق اليسارية في ستينيات القرن الماضي أدوار في رسم بعض مساراته طيلة عقوده اللاحقة)، الذي عرف استفاقة ملحوظة خلال العشرية الأخيرة لدولة بن علي البوليسية العائلية. إذ مثل مناضلو اتحاد الطلبة أحد منصات المقاومة والثورة على منظومة التعليمات والعائلات المافيوزية التي اختطفت البلاد وخنقت الأنفاس.
وإنما تم رصد لينا بن مهنّي والتضييق عليها من خلال جبهة مقاومة جديدة تملكها الشباب الجامعي المتملك لظروف عيش مريح نسبيًا من أبناء الطبقة الوسطى القادرة على تمكين أبنائها من تملك أدوات الثورة الاتصالية والمعلوماتية التي كسرت سياسات العزلة والاستفراد بالشعوب والتعتيم السلطوي على معاناتها ونضالاتها وتكميم منصات الإعلام التقليدي مكتوبًا ومسموعًا ومرئيًا، حتى ظهر الإعلام والتواصل السبراني منتوجًا عولميًا يتم فرضه على وكلاء العولمة نهاية الحرب الباردة، رغمًا عنهم ضمن حزمة شروط الهيمنة الجديدة في "نظام عالمي جديد".
اقرأ/ي أيضًا: أنس جابر.. قدوة وأكثر!
وفي الوقت الذي أتقنت فيه لينا وأمثالها من المتملكين للغات العولمة وأدوات هذه الثورة الاتصالية، عجز نظام بن علي و"ثكنة" بوليس الانترنت عن لجم شبكة العنكبوت والسابحين فيها عبر التدوين والهواتف الجوالة وآلات التصوير الرقمي قبل ظهور عالم الفيسبوك وانفلات الأمور من قبضة بوليس المراقبة والمعاقبة التي كان يقبض من خلالها بوليس بن علي السياسي على أنفاس أجيال معارضيه وأساليبهم النضالية ما قبل أدوات التواصل السبراني العولمي.
ما ميّز لينا بن مهنّي عن غيرها من المدونين ومنحها تفردًا أنها كانت تقاوم على جبهتين. تقاوم الأمراض التي تفتك بجسمها النحيل وتقاوم الديكتاتورية
حتى كان السابع عشر من ديسمبر/ كانون الأول 2010 الذي خُيل لنظام بن علي أنه قادر على محاصرته هناك في سيدي بوزيد بعيدًا عن العاصمة كما فعل قبلها مع انتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008. لكن مياهًا كثيرة قد جرت في نهر النضال الاجتماعي المجذر للكفاح الديموقراطي المحاصر في العاصمة. إذ كان للهاتف الجوال وآلات التصوير الرقمي وشبكة الفيسبوك أدوار حاسمة في كسر الحصار والتعتيم وإيصال سردية الثائرين ودموية أجهزة بوليس بن علي. ساعة كان المناضلون الاجتماعيون والنقابيون والمثقفون وشباب الأحياء الشعبية في مدينة سيدي بوزيد وبلدات بوزيان والمكناسي وسيدي علي بن عون والرقاب ولاحقًا في أحياء وشوارع القصرين وتالة، يخوضون الملاحم في الشوارع والساحات وسط غيوم القنابل المسيلة للدموع وهراوات البوليس والإيقافات والمداهمات، كانت لينا بن مهنّي أحد عناوين فك هذا الحصار وإيصال حقيقة ما يجري في مدن الانتفاض.
كانت آلات التصوير الرقمي سلاحًا وكان التدوين سلاحًا وكان الهاشتاغ سلاحًا ناعمًا وفتاكًا في تهشيم سردية السلطة وأكاذيبها المشيطنة لثورة الشباب الذين اعتقد نظام بن علي أنه روّضهم وافتكهم وأبعدهم عن سبيل معارضيه من مختلف ألوان الطيف، فأطلوا عليه من بوابة عولمية اعتقد أنها حبل نجاته في إلهاء الشباب بمتع العولمة الافتراضية بعيدًا عن معارك السياسيين فحولوا أدوات العولمة إلى أعتى أسلحة فك الحصار وسيولة المعلومة والانتظام والاجتماعات الافتراضية بديلًا وكسرًا للرقابة البوليسية ومنعها لحق التنظم والتعبير والاجتماعات على الأرض.
وقد كان لمجموع هذه الخبرات والقدرات اللغوية والاتصالية أن أفادت لينا بن مهنّي وبعض شباب الطبقة الوسطى في البروز الدولي بعد 14 جانفي/ كانون الثاني 2011 وترشيحها لنيل التكريمات والاعترافات أكثر من غيرهم ممن كانوا ميدانيين في المواجهة العنيفة طيلة شهر العصيان الثوري، لكن حرمتهم ظروفهم من إيصال صوت الثورة التونسية إلى آفاق رحبة، وحرموا من إيصال مضامين ثورتهم بعيدًا عن تسميات "ثورة الياسمين" و"ثورة الفيسبوك" التي أطلقتها دوائر غربية للانحراف بالثورة التونسية من مضامينها الاجتماعية السيادية وحاملها الاجتماعي المفقّر والمعطّل عن العمل نحو مضامين ثورة شباب الطبقة الوسطى الذي "يشبهنا ويتقن لغاتنا وأدوات تواصلنا" ليجعل لنفسه نسبًا وصلة بثورة ما كانت لتحدث لولا هذا الجيل الذي يشبه الغربيين!
ميزة لينا أنها حوّلت إشعاعها وشهرتها الوطنية والدولية منصة للتعريف بمختلف معارك المسار الثوري لثورة 17 ديسمبر
ولكن ما ميّز لينا بن مهنّي عن غيرها من هؤلاء المدونين ومنحها تفردًا أنها كانت تقاوم على جبهتين. تقاوم الأمراض التي تفتك بجسمها النحيل وتقاوم الديكتاتورية. ميزة لينا أنها حوّلت إشعاعها وشهرتها الوطنية والدولية منصة للتعريف بمختلف معارك المسار الثوري لثورة 17 ديسمبر/ كانون الأول التي واصلها مناضلوها الاجتماعيون بعدما انخرطت النخبة السياسية في مسارات ترويض ثورة اجتماعية سيادية واختزالها في رطان ديمقراطوي شكلي وزج بها في مسارات ترويض عولمي تابع ذليل.
رحم الله لينا التي احترقت شمعة مضيئة (في عمر أبي القاسم الشابي شاعر إرادة الحياة وفرانز فانون نبي ثورات الشعوب المضطهدة وفيلسوفها) وارتقت روحها إلى جوار رب رحيم ووارى الآلاف جسدها في ثرى أرض رؤوم. ورحم الله زهير اليحياوي شهيد النضال الالكتروني ورائده. وفك الله أسر الغائبيْن فارس الصورة سفيان شورابي ورفيقه نذير القطاري.
وألف تحية للمناضلين الاجتماعيين الذين غيبتهم منابر التزييف الإيديولوجي الوقح مفسحة المجال لمرتزقة الاستبداد والتوحش السلطوي. والمجد لأم ثورات القرن الحادي والعشرين وملهمتها، الثورة التي كسرت تنظيرات استشراقية حول الاستثناء العربي الإسلامي واستحالة قدرة شعوبه على الثورات الديموقراطية.
اقرأ/ي أيضًا: