كان من المنتظر أن تنطلق النحّالة سهى الجمل، أصيلة ولاية أريانة (شمال شرقي)، في جني العسل خلال نهاية شهر سبتمبر/أيلول 2024، غير أنّها تفاجأت بتوقف خلايا النحل عن العمل وبدأت في أكل العسل الموجود داخل الخلية بعد تسجيل نزول كميات هامة من الأمطار في تلك الفترة، ما تسبب في تراجع إنتاجها من العسل.
النحالة سهى الجمل لـ"الترا تونس": التغيرات المناخية في تونس أثرت على مواعيد تهاطل الأمطار وإزهار النباتات العطرية التي تمثل المصدر الأول لغذاء النحل وإنتاج العسل
وتُرجع الجمل وهي مهندسة فلاحية ومختصة في تربية النحل، في حديثها مع "الترا تونس"، ما حدث إلى التغيرات المناخية التي شهدها المناخ في تونس بشكل لافت، أحدثت اضطرابات على مواعيد تهاطل الأمطار وإزهار النباتات العطرية التي تعد المصدر الأول للعسل ومراعٍ هامة لخلايا النحل.
-
تراجع إنتاج العسل في تونس
ومثلما أثرت التغيرات المناخية على الإنتاج الفلاحي في تونس بشكل سلبيّ، فإن الأرقام الرسمية تشير إلى أنّ قطاع تربية النحل يعاني بدوره من إشكاليات عديدة فاقمتها التغيرات المناخية، وبات يُحتضر في ظل غياب إرادة فعلية للحفاظ على هذا القطاع.
وأكد ديوان تربية الماشية وتوفير المرعى أنّ نحو 75% من مربي النحل في تونس، ممن أنهكتهم التغيرات المناخية، يعانون من تراجع إنتاج العسل خلال السنوات الأخيرة، وذلك وفق تصريح سابق أدلى به المهندس الأوّل بديوان تربية الماشية وتوفير المرعى، حسان بن سالم لوكالة الأنباء التونسية الرسمية.
ديوان تربية الماشية وتوفير المرعى: نحو 75% من مربي النحل في تونس، ممن أنهكتهم التغيرات المناخية، يعانون من تراجع إنتاج العسل خلال السنوات الأخيرة
وقال المهندس الأول بديوان تربية الماشية وتوفير المرعى، حسان بن سالم، إنّ "المتوسط الوطني من إنتاج العسل لم يتجاوز 4 كيلوغرامات للخلية الواحدة بسبب موجات الحر".
ووفق المصدر ذاته، فإنّ قطاع تربية النحل في تونس يضم حتى سنة 2023، نحو 13 ألف مربي نحل و305 آلاف خلية نحل (302 ألف حديثة و3 آلاف تقليدية).
وتقرّ سهى الجمل التي بدأت في تربية النحل منذ سنة 2021، بأن إنتاجها من العسل يتراجع سنة تلوى الأخرى، إذ يتراوح بين 3 إلى 4 كيلوغرام في الخلية الواحدة ويصل في بعض الأحيان إلى كيلوغرام فقط، وفقها.
وتؤكد محدثة "الترا تونس"، أنّ خلية النحل الواحدة كانت تنتج في ثمانينيات القرن الماضي قرابة 20 كيلوغرامًا من العسل، غير أنّ هذا الإنتاج الوفير تراجع بشكل لافت بسبب الانحباس الحراري وتغير المناخ، إضافة إلى تراجع المساحات الخضراء بسبب الحرائق والرعي الجائر وتغير فترات إزهار النباتات التي يتغذى عليها النحل.
وأوضحت سهى الجمل، أنّ معاناة مربي النحل تفاقمت بتفاقم آثار التغيرات المناخية التي تسببت في تغيير فترات إزهار عديد النباتات والغراسات مثل "الكلتوس" الذي يعدّ المصدر الأول للعسل في تونس، إلى جانب فقدان أنواع أخرى من النباتات العطرية بسبب تواتر سنوات الجفاف.
قطاع تربية النحل يوفّر آلاف مواطن الشغل ويساهم بـ1% من الناتج المحلي الإجمالي الزراعي في تونس لكنه بات يُحتضر جراء التغيرات المناخية
وأشارت إلى وجود نوعين من الكلتوس كمصدر أول لتغذية النحل، على أن يتمّ جني منتوج عسل الكلتوس (أحد أشهر أنواع العسل في تونس) خلال شهري سبتمبر/أيلول وأوت/أغسطس، غير أنّ تأخر تساقط الأمطار أدى إلى تغير مواسم الجني التي أصبحت في شهر جوان/ يونيو، وهو ما أثر سلبًا على إنتاج النحل.
وتتغذى خلايا النحل على رحيق النباتات الزهرية وحبوب اللقاح، ووفق منظمة الأمم المتحدة فإنّ النحل يحافظ على الحياة على كوكب الأرض وعلى التنوع البيولوجي والنظم الإيكولوجية، كما يساهم في الأمن الغذائي والتغذية من خلال حمل حبوب اللقاح من زهرة إلى أخرى.
وفي تونس يعدّ قطاع تربية النحل أحد أهم القطاعات، فإلى جانب توفيره لآلاف مواطن الشغل وحفاظه على التنوع البيولوجي والأمن الغذائي للبلاد، فإنه يساهم بنسبة 0.1% من الناتج المحلي الإجمالي الوطني و1% من الناتج المحلي الإجمالي الزراعي، وفق ما ورد في "الكتاب الأبيض: سلسلة القيمة في تربية النحل في تونس، بين الواقع والتحديات"، الذي اطلع "الترا تونس" على نسخة منه.
النحالة سهى الجمل لـ"الترا تونس": يجب حماية السلالة المحلية من الانقراض والكفّ عن توريد خلايا نحل من دول أجنبية إضافة إلى دعم صغار النحالة
ولهذا السبب تدعو سهى الجمل إلى ضرورة تكاتف الجهود للحفاظ على قطاع تربية النحل وحماية السلالة المحلية من الانقراض والكفّ عن توريد خلايا نحل من دول أجنبية، بالإضافة إلى ضرورة دعم صغار النحالة وتكوينهم على أسس علمية للتعامل مع خلايا النحل بالطريقة الصحيحة للتكيف مع آثار التغيرات المناخية المدمرة.
-
انتشار الأمراض.. آفة تهدد النحل
في ذات السياق، أكدت سهى الجمل أنّ النحل في تونس أصبح عرضة للطفيليات والأمراض المعدية مثل مرض "الفاروا" ويعرف محليًا باسم ""القراد"، والذي يعدّ أحد أكثر الأمراض انتشارًا في تونس وآفة حقيقية تهدد النحل.
ومن بين أسباب انتشار الأمراض هو توجه النحالة إلى وضع مناحلهم في مكان واحد جراء نقص المرعى والنباتات العطرية، ما خلّف في كثير من الأحيان انتشار الأمراض المعدية والطفيليات بين خلايا النحل.
النحالة سهى الجمل لـ"الترا تونس": النحل أصبح عرضة للطفيليات والأمراض المعدية في تونس وتحذيرات من مخاطر استخدام الأدوية الكيمائية للمداواة
ونبهت الجمل في المقابل، من مخاطر استخدام الأدوية الكيمائية لمداواة الأمراض المنتشر في النحل، مؤكدة أنه يهدد حياة النحل ويؤثر على جودة العسل الذي يصل إلى المستهلك وهو يحتوي على رواسب كيميائية.
وللحفاظ على جودة العسل وتنوعه، تحرص سهى مثلها مثل العديد من مربي النحل على نقل النحل من ولاية إلى أخرى ووضعه في المراعي الطبيعية، فهي تنقله في فصل الشتاء إلى ولاية زغوان للرعي في الزعتر ثم إلى برج السدرية أين تنمو أشجار الكلتوس بكثافة ثم تتولى نقله إلى عديد المناطق الأخرى المعروفة بكثافة النباتات العطرية وأزهار البرتقال.
ووفق ذات المصدر، فإن العسل التونسي يعتبر فريدًا من نوعه حيث يوجد أكثر من 12 نوعًا من العسل المتأتي من تنوع النباتات العطرية، لكنها لم تخفِ مخاوفها من إمكانية اختفاء بعض الأنواع بسبب تسجيل نقص في النباتات بعد سنوات طويلة من الجفاف.
-
صناديق خشبية مقاومة للتغيرات المناخية
وباعتبار أنّ التغيرات المناخية أصبحت حقيقة لا مفر منها، فإن سهى الجمل تقترح أنّ يتم غراسة نباتات عطرية جديدة تتحمل الجفاف، بالإضافة إلى ضرورة صناعة بيوت خشبية للنحل تتماشى مع تغير المناخ وتحافظ على برودة الخلية صيفًا وتدفئتها شتاءً.
مربي نحل وناشط بيئي لـ"الترا تونس": حان الوقت للتخلي عن صناعة صناديق "مغشوشة" لا توفر الحماية لخلايا النحل
ويدعمها في هذا المقترح زميلها فراس الغربي، الذي يؤكد أنّه حان الوقت للتخلي عن صناعة صناديق نحلٍ "مغشوشة" لا توفر الحماية لخلايا النحل الموجودة بداخلها، والتوجه نحو صناعة صناديق ذات جودة عالية ومقاومة لآثار التغيرات المناخية.
ووفق الغربي، وهو مربي نحل وناشط بيئي، فإنّه يجب استخدام الخشب الأحمر المعروف بمقاومته لدرجات الحرارة المرتفعة أو المنخفضة والذي يوفر الحماية للنحل ويساعده على العيش في بيئة معتدلة ومريحة له.
كما دعا محدث "الترا تونس"، مربي النحل إلى الحرص على وضع النحل في صناديق توفر له التهوئة المطلوبة وفقًا لأسس علمية صحيحة، وهي خطوات على الرغم من بساطتها فإنها تريح النحل وتجعله يعمل في ظروف جيدة لإنتاج عسل ذات جودة عالية.
ويرى محدث "الترا تونس"، أنّ استخدام الأدوية الكيميائية لمداواة النحل يؤثر بشكل كبير على خلايا النحل ويبقى راسبًا في شمع العسل لمدة تتراوح من 3 إلى 4 سنوات وهو ما قد يؤثر على جودة العسل، داعيًا مربي النحل إلى ضرورة استخدام أدوية بيولوجية للحفاظ على خلايا النحل من الموت.
مربي نحل وناشط بيئي لـ"الترا تونس": استخدام الأدوية الكيميائية لمداواة النحل يؤثر بشكل كبير على خلايا النحل ويبقى راسبًا في شمع العسل لمدة سنوات مما يؤثر على الجودة
وأوضح أنّ تغير المناخ وتواصل ارتفاع درجات الحرارة والجفاف المتواصل نتج عنه نقص في النباتات التي توفر الرحيق لتغذية النحل، مؤكدًا أنّ النحل إذا لم يجد الغداء والمرعى فإن مصيرة سيكون الموت.
-
توريد العسل "المغشوش"
كما نبه الغربي من ضرورة الابتعاد عن شراء العسل المستورد، مؤكدًا أنه عسل "مغشوش" وهو عبار عن خليط من الملونات والجلوكوز، مؤكدًا أنه يتم سنويًا توريد نحو 2000 طن من العسل وبيعها في الأسواق التونسية، وسط غياب الرقابة.
ويتم توريد هذا النوع من العسل من دول عديدة منها الصين وإسبانيا ومصر وبعض الدول الإفريقية الأخرى، مؤكدًا أنه لا يمكن التفريق بين العسل المغشوش والأصلي إلا بالتحاليل المخبرية وهي تحاليل مكلفة جدًا، وفقه.
مربي نحل وناشط بيئي لـ"الترا تونس": يتم سنويًا توريد نحو 2000 طن من العسل وبيعها في الأسواق التونسية إلا أن هذا العسل المستورد مغشوش
وبحسب رئيس الجمعية التونسية لمربي النحل رضوان الماطوسي، فإنّ قطاع تربية النحل في تونس بات يواجه صعوبات عديدة أثرت بشكل لافت على إنتاج العسل، وهي صعوبات تفاقمت بسبب التغيرات المناخية وتراجع الأمطار ونقص الغطاء النباتي في البلاد.
وقال الماطوسي في حديثه مع "الترا تونس"، إنّ دورة حياة النحل تأثرت بالتغيرات المناخية وتراجع المساحات الخضراء ونقص مناطق الرعي والنباتات الزهية، إضافة إلى توجه مربي النحل إلى استخدام الأدوية الكيميائية عوضًا عن الأدوية البيولوجية.
وأكد رئيس الجمعية التونسية لمربي النحل، أنّ المبيدات الحشرية غير الصديقة للبيئة، باتت تهدد فعليًا حياة النحل في تونس، داعيًا إلى ضرورة توعية الفلاحين بضرورة استخدام مبيدات بيولوجية تحافظ على حياة النحل.
وبخصوص ظاهرة توريد العسل من دول أجنبية، أكد الماطوسي أنّ الدولة مطالبة بفرض الرقابة والتصدي لهذه الظاهرة التي تسببت في أضرار لمربي النحل المحليين.
رئيس الجمعية التونسية لمربي النحل لـ"الترا تونس": قطاع تربية النحل بات يواجه صعوبات عديدة أثرت على الإنتاج والمبيدات غير الصديقة للبيئة باتت تهدد فعليًا حياة النحل في تونس
وأكد أن مربي النحل في تونس لا يمكنهم بيع الكيلوغرام الواحد من العسل بسعر أقل من 80 دينارًا، نظرًا لارتفاع تكلفة الإنتاج والمداواة ونقل خلايا النحل من ولاية إلى أخرى بحثًا عن المرعى.
كما حذر من خطورة خلطات العسل التي تباع في الأسواق والموجهة إلى مرضى السكري والسرطان وعديد الأمراض الأخرى، مؤكدًا أنّها تشكل خطرًا على صحة المستهلك ووجب مقاطعتها وعدم شرائها.
وبحسب محدث "الترا تونس"، فإن ولاية القيروان تتصدر الترتيب في إنتاج العسل وتربية النحل تليها ولاية سليانة ثم باجة وجندوبة وبنزرت وزغوان ونابل، وهي ولايات تمتاز بتنوع الغطاء النباتي واختلاف أنواع النباتات العطرية.