على شمال النص التاريخي الصّلب حيث كلّ إمكانات السّيولة وكلّ إمكانات الخيال، قد تغويك المدن التونسية الملتحفة بقدامتها ورسوخها في الأرض لترسم انكسارات ظلالها في المساءات البعيدة، أو تصوّر تلك الأعشاش الكثيرة التي استوطنت حيطانها المهجورة أو تشرع في التقاط أهازيجها المنسيّة من تحت الصخور العتيقة وتعلّقها تيمة في أعناق المغنّين.
"بلاريجيا" هي حاضرة من حواضر مملكة "نوميديا" القديمة ومنبت الأحلام الأولى للأجداد البربر
مدن تكتب شعرًا طازجًا يحاول وصف بروق لمعت منذ قرون وكسرها عتوّ الزّمن فحوّلها إلى بحار من ذاكرة تسكنها مغويّات وديمونات وسيرانات ساحرة لا تكف عن فتنة المدهوشين وأسرهم فيركبون معها الموج ولا يخرجون، فتصبح تلك الأطلال وبقايا المدن والعمارة وجهتهم ومشتهى أعينهم فينشئون إليها دروبًا من بلاغة الكلام ومعاريج من أصداف جوراسية في ظلال للعابرين، فيستبطنون جمالها وقصصها ليرووه من جديد.
حاضرة من حواضر مملكة "نوميديا" (سيمونا غراناتي/جيتي)
هناك في مدارات التاريخ القديم للشمال الغربي التونسي حيث تنام النجمة القطبية زاهية بجمالها ومتوّجة بضيائها على ذرى جبال خمير السّامقات الشاهقات، وحيث السهول اللامتناهية لنهر مجردة العظيم تتبدّى أطلال كثيرة كاللؤلؤ المنثور، قد يلزمك الكثير من الدهشة أمام بوّابة النسيان حتى تعثر عليها. لكن هناك لؤلؤة فريدة قاومت رماد النسيان وظلّت باقية كالوشم على خدّ الزّمن، إنّها "بلّاريجيا" حاضرة من حواضر مملكة "نوميديا" القديمة ومنبت الأحلام الأولى للأجداد البربر.
اقرأ/ي أيضًا: دواميس سوسة.. أسرار سراديب الموتى ورحلة البحث عن "الراعي الطيب"
مدينة "ماسينيسا" العصيّة
وأنت تقف على رباها أسفل "جبل ربيعة" كشاعر ضاقت به تشابيه اللغة وترى تناثر معالمها الفسيحة وعلوّ أعمدتها تدرك للتوّ أنّ حربها ضدّ النسيان قديمة ومتواصلة، ومن فرط الصمت المتدلّي من سمائها فيما يشبه قناديل من كلام القدامى، يخيّل إليك سماع صوت القائد النوميدي الكبير"ماسينيسا" وهو يخطب في أهله البلاريجيين سنة 150 قبل الميلاد ويحثهم على الذّود عن حصون مدينتهم من زحف الرومان الذين عسكروا على مرمى عين في أعالي "هيبون" (عنّابة الجزائرية حاليًا) وقرّروا افتكاكها بالقوّة.
هناك على التخوم خسر "ماسينيسا" هذه الحرب لكنه لم يخسر المعركة، إذ سرعان ما تحالف الخصمان من أجل هزم قرطاج الفينيقية المتربّعة على هضبة بيرصة وهي تغازل حينًا موج المتوسّط وأحيانًا أمجاد التاريخ وتروّض فيلة إفريقية من أجل احتلال روما.
لوحة فسفسائية اُكتشفت في بلّاريجيا (سيمونا غراناتي/جيتي)
كان القائد القرطاجني "حنّبعل" العائد لتوّه مهزومًا من مواجهة مع الرّومان جدّت بشبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا حاليًا) على سفوح جبال "البيريني" وجد نفسه في مواجهة جديدة على أرض قرطاج. لقد نبت حلم النوميديين بتأسيس مملكتهم وأصبح عاليًا وممكنًا بعد أن توحّدت القبائل البربرية، فكانت تلك الواقعة الشهيرة "زامة" (سليانة حاليًا) سنة 202 قبل الميلاد والتي شارك فيها "ماسينيسا" بجيش كبير عاضد به القائد الروماني "سيكسبيو الإفريقي".
فدوّت الهزيمة من جديد وانتهى "حنّبعل" غارسًا للزيتون على أرض قرطاج مازال زيته ينضح إلى اليوم. فيما تُوّج ماسينيسا "أكليدًا" (أي ملكًا بلغة التيفيناغ البربرية الأمازيغية) على نوميديا الجديدة وعاصمتها "سيرتا" (قسنطينة الجزائرية حاليًا). وأصبحت "بلاريجيا" فناءً خلفيًا لأحلام البربر وراوية لأمجاد قبيلة "ماسيلي" وانشغلت بترتيب الأبجدية التي يتحدثها إلى اليوم أمازيغ شمال افريقيا.
لكنّ السؤال الذي دوّخ الباحثين والمؤرخين وبقيت الإجابة عليه يشوبها بعض الغموض هو: هل استغلّت روما "ماسنيسا" للقضاء على قرطاج أم استغل القائد النوميدي روما لتأسيس مملكة نوميديا الكبرى وتوحيد شمال افريقيا؟
المدينة الشامخة
تلتحم روحك فجأة بالمكان الأثري الساحر فتتعمّق في جغرافيته لتقودك قدماك عبر أزقة بلاّريجيا القديمة المبلّطة بأحجار صوّانية إلى "الفوروم" حيث كان وجهاء وحكماء بلاّريجيا يناقشون قضاياهم ويحلمون بأمجاد مملكة أوصى بإنشائها الأجداد النوميديين القدامى.
"الفوروم" اُتخذت فيه قرارات فلاحية وجمالية وحربية، وكتبت فيه المراسلات وعقدت فيه التحالفات مازال التاريخ يذكرها إلى اليوم. أمّا المسرح والحمّامات فهي شاهد على أبهّة المدينة ورخائها إبان التحالف مع روما الذي ضمن لها المحافظة على تقاليدها ونظامها السياسي وخاصة في إنشاء "مقاطعة أفريكا" سنة 146 قبل الميلاد.
"فوروم" مدينة بلاريجيا الأثرية (نيكولا فوكو/جيتي)
اقرأ/ي أيضًا: أقدم القرى المأهولة في تونس.. "اللّاس" زهرة لا تبصر جمالها
الأسقف الشهير "أغوسطينوس" مرّ بالمدينة سنة 399 ميلادي وخطب خطبة عصماء انتقد فيها سكّان المدينة الذين وجدهم منغمسين في الفنون ومدمنين على الذهاب إلى المسرح واعتبر ذلك السلوك معطّل للمسيحية.
هذا التاريخ العظيم لبربر شمال إفريقيا الذي ترويه إلى اليوم السهول الفسيحة لمجردة مازال جزء كبير منه تحت رماد النسيان وتحت طمي ضفاف الوادي، ولكن السؤال الذي حيّر الباحثين في تاريخ البربر والأمازيغ بشمال إفريقيا هو متى تنطلق الحفريات وتزاح الأتربة ويرفع تراث البلد وتشعّ عليه أشعة الشمس من جديد؟
حفريات ومتحف.. ولكن لا يكفي
هذا الموقع الرّفيع بمختلف مكوّناته والذي يمسح بين 70 و80 هكتارًا انطلقت به الحفريات في بدايات القرن التاسع عشر مع مستكشفين فرنسيين ثم مع الاستقلال مع باحثين تونسيين. لم تكن هذه الحفريات مسترسلة وآخذ بعضها برقاب بعض وذلك ضمن استراتيجيات بحث تعدّها وزارة الشؤون الثقافية ويسهر على تنفيذها المعهد الوطني للتراث أو وحدات بحث جامعية أو جمعيات مختصّة. وقد حان الوقت ليعود بعض الألق لتاريخ البربر وحان الوقت ليبدأ الحفر الأركيولوجي بالشمال الغربي بعيدًا عن التعويل على التحفّز الذاتي للباحثين المهتمّين.
سنة 1982 وبعد أن أزيحت الأتربة عن جمال الموقع أسفل جبل ربيعة ووضحت أطلال المعالم مجددًا تحت النّور: ساحة عامّة، وكابتول، ومعابد، ومنازل بطوابق علوية وأخرى سفليّة، وقوس نصر، ومواجل للمياه ومقابر. أنشئ متحف "بلاريجيا"، وهو صغير الحجم، بسيط الهندسة به قاعتان تحتويان على منقولات ولقي أثريّة وجدت بالموقع مثل الأواني الفخارية والسواري والتماثيل وفسيفساء وشواهد قبور وأدوات دفاعية وأخرى ذات استعمال فلاحي. وخصصّت القاعة الأولى للفترة البونية والثانية للفترة الرومانية.
يمسح موقع بلاّريجيا بمختلف مكوّناته بين 70 و80 هكتارًا
ونُقلت أهم الآثار وأجملها للمتحف الوطني بباردو مثل اللوحات الفسيفسائية البديعة التي تصور الحياة اليومية ببلاريجيا وأمجادها وانتصاراتها وتماثيلها الرخامية وخاصة تمثال "أبولون" وكنزها الذي يحتوي على 260 قطعة فضيّة ويعود الى إلى القرن 21 ميلادي.
لكن متحف بلاّريجيا لم يقع تثمينه بالشكل المطلوب سواء في مستوى تعصيره أو إدراجه في المسالك السياحة الثقافية وحثّ وكالات الأسفار على إدراجه ضمن أدلّتهم ومطوياتهم الإشهارية. إذ لا يكفي بعث المتاحف بل لا بدّ من ضرورة الاشتغال على محيطها وتحسين طرق الوصول اليها وتأمينها وإبرازها وحسن استغلالها وهو ما لم يحدث مع متحف بلاريجيا وعدّة متاحف أخرى.
تمثال الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس المُكتشف في بلاريجيا والموجود في متحف باردو (جيتي)
بلاّريجيا التي كتب حولها الباحث التونسي المرموق والوزير السابق عزّ الدين باش شاوش كتابًا عنوانه "أطلال بلاّريجيا" وطبع سنة 1977 عن منشورات المدرسة الفرنسية بروما، كانت فرصة لتصبح قطبًا متحفيًا وعلميًا مختصًا في تاريخ بربر شمال إفريقيا وممرًا سياحيًا جاذبًا ومعطاءً، لكن وكما يقول الشاعر: "لقد أسمعت إذ ناديت حيًا.. ولكن لا حياة لمن تنادي.. ولو نار نفخت بها أضاءت.. ولكن أنت تنفخ في الرّماد". فيما ستبقى بلاريجيا، دائمًا، وردًا طازجًا لأمجاد نوميديا القديمة التي سفحت على مذبح النسيان لكن شذاه وسحر لونه يتسلل إلينا كلّما مررنا بالمكان.
اقرأ/ي أيضًا: