تنتشر في محيط المدنِ الساحليّة التونسية المصبات العشوائية، وهي غير مهيأة ولا تخضع للرقابة، أغلبها قريبة من التجمعات السكنية والقرى وتنبعث منها روائح كريهة، كما ينتشر دخان الحرائق في محيطِها.
وكما يقول المثل التونسي "التراب غلب الحفرة" وفي هذه الحال فإن "النفايات المنزلية لم تسِعها الأماكن المخصصة لها"، فكيف الطريق إلى بيئة سليمة من أجل مستقبلٍ أفضل، في ظل استفحال أزمة التصرف في النفايات في تونس والتذبذب في إيجاد الحلول الكفيلة بإيقاف نزيفِ الكوارث البيئية التي تضُرّ من صحة الإنسان والحيوان على حدّ سواء وتقضي على سلامة التربة والهواء؟
تنتشر في محيط المدنِ الساحليّة التونسية المصبات العشوائية، وهي غير مهيأة ولا تخضع للرقابة، أغلبها قريبة من التجمعات السكنية والقرى وتنبعث منها روائح كريهة، كما ينتشر دخان الحرائق في محيطِها
- المصبات العشوائية وأضرارها
خلال جولة في محيط مدنٍ كبرى مثل مدينة المكنين التابعة لولاية المنستير، نُلاحظ استنزافًا للبيئة على مشارف السبخة التي تمّ استغلال جزء منها كمصبّ للنفايات المنزلية وبقايا أشغال البناء، إضافة إلى بعض فضلات الصناعات النسيجية ومواد بلاستيكية، كما ينتشر الدخان الأسود المنبعث من "القلالات"، وهي وحدات حرفية للصناعات الخزفية.
في محيط مدينتي جمال وزرمدين من ولاية المنستير، تكتسح كذلك الفضلات المنزلية المناطق الفلاحية وتستحوذُ بعض مقاطع الرمال المهجورة على نصيبٍ من أطنان النفايات التي تسكُبها البلديات بخلاف تلك التي يستغلها الخواص من صناعيين للتصرف في نفاياتهم دون ترشيدٍ وحوكمة مما شوّه المشهد البيئي في الجهة.
في محيط مدينتي جمال وزرمدين تكتسح الفضلات المنزلية المناطق الفلاحية وتستحوذُ بعض مقاطع الرمال المهجورة على نصيبٍ من أطنان النفايات التي تسكُبها البلديات
وعلى مشارف قرى مثل "وادي الجبس" و"سيدي بوعثمان"، انتشرت في بعض المقاطع القديمة، مادة الطّفَلَ المستعملة في صناعة الآجر كمصبٍ لمادة المرجين إثر كل موسم جني للزيتون، وقد تضررت المائدة المائية بشكل مباشر من هذا الاستنزاف المتوحش لمساحات واسعة ما أثار حفيظة السكان في أكثر من مناسبة، مما عرّضهم لتتبعات عدلية بعد سلسلة من الاحتجاجات.
كما انتشرت على مشارف مدينة الساحلين وخاصة في منطقة " الفرطاسة" و "المَسيد" بؤرٌ لمكب نفايات عشوائيّ أضرّ بمحيط المدينة، كما أن استغلال منطقة رطبة شاسعة مجتزأة من سبخة الساحلين على طريق القيروان الرابط بين مسجد عيسى والمنستير كمصب نفايات جهوي منذ سنة 2014 تحت إشراف وزارة البيئة كان له أثر سلبيّ على الجهة.
وجود مصبّ للنفايات على مشارف سبخة الساحلين هو استنزاف للبيئة (ماهر جعيدان/ الترا تونس)
- المنستير.. أزمة بيئية استفحلت منذ سنة 2014
استفحلت الأزمة البيئية في ولاية المنستير منذ سنة 2014، خصوصًا بعد غلق المصب الجهوي المُراقب بمنزل حرب، ليتمّ بعد ذلك التعاقد بين وكالة التصرف في النفايات وشركة خاصة في إطار لُزمة لاستصلاح مصبّ "القزاح" وقبول نفايات كافة بلديات الولاية. وأمام صعوبة إيجاد الحلول الجذرية لمعضلةِ النفايات المنزلية ظهرت المصبات العشوائية على غرار مصب الفضلات وادي السوق بلمطة والمصب الفوضوي بالطيايرة التابعة لمعتمدية جمال.
استفحلت الأزمة البيئية في ولاية المنستير منذ سنة 2014، خصوصًا بعد غلق المصب الجهوي المُراقب بمنزل حرب
وعلى الرغم من أن وزارة البيئة قامت بإعداد دراسة مشروع إحداث مصب لجمع الفضلات بولايتي المنستير والمهدية في منطقة المسلان الحدودية بين الولايتين بتكلفة جملية تُناهز 40 مليون دينار، فإن هذا المشروع لا يزال معطلاً لاعتراض الأهالي على إنشائه لما سينجر عنه من تلوث بالجهة.
وفي خضمّ استفحال أزمة النفايات بالجهة، لا يزال مصب "القزاح" بالساحلين محلّ نزاع قضائي بين شركة الملاحات التونسية المستغلة لسبخة الساحلين من جهة والشركة المستغلة للمصب ووكالة التصرف في النفايات (وزارة البيئة التونسية)، باعتبار أن الأرض التي استحدث فيها المصب من أملاك الدولة وداخل الملك العمومي البحري.
لا يزال مصب "القزاح" بالساحلين محلّ نزاع قضائي (ماهر جعيدان/ الترا تونس)
وذكر تقرير محكمة المحاسبات لسنة 2015، في ورقة تحت عنوان، "منظومة النظافة والعناية بالبيئة بولايتي سوسة والمنستير"، أن "حذف سلك مراقبي التراتيب البلدية وإدماج أعوانه بسلك الأمن الوطني ساهم في تعطيل تأمين جزء من المهام التي كانت موكولة إليهم سابقًا وذلك بسبب المسائل الأمنية الموكولة إليهم".
وبما أن الاستراتيجية الوطنية للتصرف في النفايات المنزلية وشبه المنزلية تقوم على توجيه النفايات إلى مصبات مراقبة جهوية مدعمة بمراكز تحويل، تم إحداث مصبين مُراقبين في كل من سوسة والمنستير سنة 2008 بكلفة بلغت على التوالي 8.25 مليون دينار و6.6 مليون دينار.
ولئن كان متوقعًا أن يتواصل استغلال مصب المنستير المراقب لمدة 15 سنة إلا أن احتجاجات سكان منطقة منزل حرب ضد مواصلة الاستغلال فضلًا عن إشكال عقاري مع مالك الأرض المقام عليها المصب فإنه تم غلقه في مارس/آذار 2014.
في المقابل، يُعتبر اللجوء إلى مصب ""القزاح" في المنستير مؤقتًا باعتباره تسبب في "إرباك حركة الطيران في مطار المنستير الدولي، وشكل مصدر إزعاج للمنطقة السياحية والمتساكنين، حسب عددٍ من المراسلات الموجهة من والي المنستير ومن المدير العام للديوان الوطني التونسي للسياحة إلى وكالة التصرف في النفايات" وفق نفس التقرير.
- سياسات بيئية فاشلة
يؤكد عضو المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، منير حسين، في حديثه مع "الترا تونس"، أن "ولاية المنستير تعيش على وقع مصبّ شبه مراقب وهو مصب "القزاح" الذي كان قد شمله قرار غلق في ديسمبر / كانون الثاني 2015، وهو موجود في منطقة رطبة ممنوع قانونًا استغلالها كمكبّ للنفايات باعتبارها منطقة مصنفة رامسار RAMSAR (اتفاقية بيئية دولية).
وبحسب منير حسين، "فقد توسع المصب على طول 1 كيلومتر وعرضه يتراوح بين 120 و150 مترًا، وتتم عملية الردم على مستوى طوابق عمودية وقد تبلغ حجم النفايات المسكوبة ما يناهز 1.5 مليون متر مكعبا وتشرف على الاستغلال شركة خاصة".
يُضيف منير حسين " لا حظنا تثبيت قنوات غاز على سطح المصب ضمن مشروع إطار التصرف المندمج في معالجة النفايات وتثمين غاز الميثان غير أننا لا نعتبرها ذات معنى لأن هذا المصب لا يحتوي على مائدة محاطة بعوازل لكي يجمع الغازات، ولا نرى أي فائدة من هذا التركيب للقنوات، ولا إجابة لحد الان عن هذه المسألة".
كما يقول عضو المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، "إن هذا المصب يُثبت مجددًا فشل سياسات وخيارات الدولة في التصرف في النفايات ومواصلتها في نفس الخيارات التي حوّلت الأزمة البيئية إلى أزمة اجتماعية ذات بعد سياسي وأدت إلى احتقان كبير في عدة مناطق من البلاد، وقد يؤدي هذا الأمر إلى نفس الاحتقان الاجتماعي."
كما أكد محدث "الترا تونس"، أن مصب "القزاح" بالمنستير له تأثيرات على المحيط البيئي المؤثر على إنتاج مادة الملح والفضاء السياحي والسكاني بالجهة، خاصة تأثيره السلبي على متساكني مدينة الساحلين والمدن المجاورة له، وأن حجم الآثار السلبية يرتفع خصوصًا في فصل الصيف".
عضو منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية منير حسين لـ "الترا تونس": مصب "القزاح" بالمنستير له تأثيرات على المحيط البيئي وهو ما يؤثر على إنتاج مادة الملح والفضاء السياحي والسكاني بالجهة
وفي ولاية المهدية أيضًا، رفض أهالي منطقة المسلان مشروع إحداث مصب جهوي مراقب بين ولايتين، وتم تعطيل المشروع نظرًا لوجود تضارب مصالح بين من يريد استغلال المصب فتوقفت أشغاله، أما مقترح نقل النفايات إلى مصب "وادي لاية" في سوسة فقد قوبل بالرفض نظرا لطول المسافة وارتفاع كلفة النقل"، يقول منير حسين.
يضيف "مسألة نقل النفايات وتجميعها تُعاني منه بلديات الجهة فليس لها القدرة في فضاءاتها الحضرية على تجميع كل النفايات نظرا لضعف التجهيزات، لذلك لاحظنا بقاء نسبة 20 بالمائة من النفايات في الفضاءات الحضرية، بينما تُلقى نسبة هامة منها في الأوساط الطبيعية وتسببت في تشكّل مصباتٍ عشوائية بدأت تزحف على المناطق العمرانية ملتفة حول الأودية والمسالك الفلاحية وحواشي الطرقات الفرعية دون رقابة أو ردع مما يساهم في الإهدار البيئي".
ويرى عضو المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أنه بات "من الضروري إعلان حالة الطوارئ البيئية على أساس أن الوضع صار لا يُحتمل في تونس".
كما اعتبر أن حان الوقت "للتخلي نهائيًا عن السياسات والخيارات الفاشلة في مجال التصرف في النفايات والتخلي عن المركزية في التصرف في النفايات والدعوة إلى تحمل البلديات مسؤوليَتها في الجمع والفرز والمعالجة والتثمين وتوفير الإمكانيات اللازمة وخلق مراكز الفرز والتخلي عن تقنيات الردم وادماج النفايات كثروة في الاقتصاد الدائري والاقتصاد الأخضر".
الاضطراب في السياسات البيئية كان له الأثر السلبي على المحيط في تونس وما كان للهياكل الرسمية للدولة أن تعجز عن إيجاد الحلول الكفيلة لو أقرت بإرساء هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة الذي ظلت حبيسة الرفوف، وهي الهيئة التي تعمل على دعم الديمقراطية التشاركية في اختصاصها.
كما تعمل على ضمان أهداف التنمية على المستويين الوطني والمحلي وذلك من خلال ضمان احترام التوازن بين المقتضيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمقتضيات البيئية، لإرساء العدالة والتضامن بين الأجيال وحقهم في بيئة سليمة تضمن استمرارية الحياة ونوعيتها وحقهم في حماية موروثهم الثقافي وهويتهم الوطنية وفي مناخ اقتصادي واجتماعي مستقر وعادل، كما تحرص الهيئة على حماية الطبيعة وتوازناتها قصد المساهمة في بلورة وتحيين وتقييم مكونات وشروط إرساء سياسة متكاملة للتنمية المستدامة، وبالتالي تعالج مسألة المصبات العشوائية ضمن خطة متكاملة تنقذ الواقع الراهن وترسم مخططًا استراتيجيًا.