27-سبتمبر-2023
الملح في تونس

طاولات إنتاج الملح في تونس أثناء موسم الحصاد الصيفي (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

ضُرب في الملح الأمثال اللطيفة والقصص الطريفة "فعندما كان العالم صغيرًا لم يكن يعرف سوى سبعة أشياء: الماء، والحياة والموت، والملح، والليل، والطيور، وطول الساعة " (كاثرين فالنتي)، ويقول فيثاغورس: "ولد الملح من أنقى أبوين: الشمس والبحر".

 

قوالب من الملحة لا تزال في الأحواض أثناء عملية الحصاد
قوالب من الملح لا تزال في الأحواض أثناء عملية الحصاد (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

  • الملح.. إحدى الثروات الوطنية التي تستأثر بها شركة فرنسية

أفتح نافذتي كلّ صباح على سبخة الساحلين الممتدّة أمامي حتى آفاق المتوسط، لمن يعرفني، أهوى الصورة.. فقد كانت عيني التي أرى بها الدنيا تتوه هناك في بياض الملح الناصع كالثلج كل صيف، وما إن تلتهب الشمس وتبعث بأشعتها، حتى تعكس وهج البياض وتنثر لهيبها في الأرجاء فتشعر بشيء من الرطوبة الممتزجة بالحرارة حتى تكاد تختنق، وبقدر تأثير الحرارة في الصيف القائظ، بقدر هبوب الرياح خريفًا وشتاءً فتشتد القسوة على ملح في المهاد، فهما العاملان الأساسيان في نشأة الطبقة الملحية من أديم الأرض.

في أواخر القرن الثامن عشر في تونس، أصبح الملح ذهب الأرض وصار حصاده مقيّدًا بنظام الملك والحكم والجباية وغدت حمايته تنفّذ بقوة البارود، وأصبحت تتم حراسته خشية السرقة

وحين أستنجد بذاكرة المدينة، أعلم أن هذه الأحواض المائية المتناسقة كانت فيما مضى (أوائل القرن الثامن عشر) مستنقعات طبيعية تفصل بين القرية والبحر، كان أجدادي يتنقلون على الحمير والعربات فجرًا ليلتحقوا بحقولهم على الشاطئ والتي تلقّب بـ"الدخيلة"، وكنت ترى على حواشي السبخة الجمال والمواشي ترعى في "الحماضة" وفق ما رواه لي جدي رحمه الله. وكانت السباخ في الساحل التونسي ممتدة لا حواجز فيها ولا طوابي، بل أراضٍ منبسطة طفلية يابسة حينًا ورخوة أحيانًا، ومثال ذلك "سبخة الكلبية" و"سبخة السلوم"، ونرى في ذلك أثرًا لأحد الرحالة أثناء ذهابه من مدينة سوسة إلى الحمامات، يقول: "وصلنا إلى أرض صبرة ملح على ما تمتد عينك والنظر، والملح أبيض من الثلج فبتنا تلك الليلة بجانبها وثاني يوم دخلنا فيها لأن ما لنا غير درب فصرنا نغطي وجوهنا بمناديل زرق أو ببواشي حتى لا تنجهر أعيننا من ذلك البياض" دياب حنا من باريس إلى حلب رحلة إلى بلاط لويس الرابع عشر.

 

عملية تخزين الملح بعد الغسل و الحصاد
عملية تخزين الملح بعد الغسل والحصاد (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

كان أهالي القرية يروون قصتهم مع الملح في ذاك المكان، كانوا يستخلصون شيئًا منه بطريقة تقليدية ويجففونه يدويًا ويحملون شيئًا منه على الحمير كما كان يفعل ذلك أهالي المدن المجاورة حتى أواخر القرن الثامن عشر لما صار الملح ذهب الأرض وصار حصاده مقيّدًا بنظام الملك والحكم والجباية وصار يُحمى بقوة البارود وانتصب حوله العسس خشية السرقة. وبحلول المستعمر الفرنسي، صارت ملاحة الساحلين الممتدة من خنيس والمنستير وصولًا إلى ضفاف وادي حمدون مصدرًا للثروة الطبيعية التي استأثر بها المحتلّ وأصبحت إحدى الثروات الوطنية التي تستأثر بها الشركة الفرنسية للملح وتصدّرها للبلدان الأوروبية الشحيحة من هذه المادة الغذائية والصناعية الأساسية.

الملح أصبح إحدى الثروات الوطنية التي تستأثر بها شركة فرنسية وتصدّرها للبلدان الأوروبية، لكنّ الحكومة التونسية أعلنت عزمها عدم تجديد العقد سنة 2029

مسألة استغلال الملح في تونس خضعت لعقود طويلة إلى التوظيف السياسي، وكانت الورقة الاقتصادية القوية التي تكون مثار جدل لدى النخبة والشعب باعتبار أن اتفاقية الملح بين تونس وفرنسا أبرمت سنة 1949 ولمدة خمسين سنة وتم التمديد فيها آليًا خلال سنة 1999 وسنة 2014. ومن بنود الاتفاقية أن "استغلال الشركة لسباخ تونس حدد بقيمة فرنك فرنسي عن الهكتار الواحد من الملح ولم يقع مراجعته منذ أكثر من سبعين سنة". ويذكر أنه في فيفري/ شباط 2019 أعلنت الحكومة التونسية عزمها على عدم تجديد العقد عند نهايته في آفاق سنة 2029، غير أن الجدل حول الاستغلال لا يزال قائما بشدة.

  • عملة الملح: تعلّق بالأرض وخبرة في عملية الحصاد

حدثنا لطفي كرير (67 سنة)، وهو عامل متقاعد أصيل مدينة خنيس، عن حقول الملح وعن تعلقه بهذه الأرض قائلًا: "كانت الحقول الأولى المنتجة للملح في هذه الملاحة في منطقة خنيس وكان أغلب العملة أصيلي تلك الجهة واستعملت في بداية الاستعمار الفرنسي لتونس الوسائل التقليدية في استخلاص مادة الملح، وكانت تستعمل الجمال والبغال في الحمل والنقل وكانت الكميات المنتجة تسوّق إلى أوروبا عبر ميناء سوسة حتى مطلع سنة 1949 حين تم تحويلها إلى مدينة الساحلين واستقر الإنتاج في هذه الجهة الممتدة، مستفيدين من انفتاح السبخة على منافذ من البحر".

 

العامل لطفي كرير أثناء العمل في الملاحة
العامل لطفي كرير أثناء العمل في الملّاحة (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

ويضيف كرير قائلًا:" لما كان هذا العمل مصدرًا لرزقي وعائلًا لأبنائي، تعلقت به شديد التعلق فكنا كجذع النخل ثابتين عند المحن والأنواء، نزرع هذه الأرض كما لو كنّا نزرعها شعيرًا ونحتفل بالحصاد الموسمي ونكسب قوتنا من طبقات الملح الوليدة في أرض رخوة معطاءة، تلفحنا الشمس وتعصف بنا الرياح ونتداول في (الصابة) صباحًا مساءً".

عامل متقاعد من حقول الملح (67 سنة): في بداية الاستعمار الفرنسي، استُعملت الوسائل التقليدية (الجمال والبغال) في استخلاص مادة الملح، وكانت الكميات المنتجة تسوّق إلى أوروبا عبر ميناء سوسة

توفيق سلامة (69 سنة) متقاعد يروي لنا قصته مع الملح محاولًا بسط معرفته التي هي سليلة عقود من العمل قائلًا: "تحتوي مياه البحر على نسبة 3% من كلوريد الصوديوم والمعروف باسم (الملح) ويتعيّن علينا العمل على حصر مياه البحر في أحواض كبيرة مفصولة بسدود طينية كتلك التي نراها محاذية لمطار المنستير الدولي والعمل على تبخّر كميات كبيرة من مياه البحر بفعل الشمس والرياح فقط، ويتم جلب الكميات الكبيرة من المياه عبر أحواض متلاصقة وتستمر عملية التركيز لأكثر من ستة أشهر قبل أن تستقر على أسطح أحواض تسمى (طاولات الملح) ويتم الحفظ لسنة كاملة حتى تنشأ طبقة سميكة متماسكة من الملح يتم حصادها سنويًا بين جويلية/ يوليو وأكتوبر/ تشرين الأول، ثم يتم الغسل والتجفيف والتخزين".

ويقول توفيق سلامة: "الأسطح المائية التي يتم حصاد الملح منها محددة بسواتر ترابية وتكون جدرانها الداخلية محمية بالألواح تجنبًا للتدهور الذي قد يتسبب في تلوث الملح ويتم الضغط التربة لتسويتها حتى تكون مسطحة قدر الإمكان لتسهيل قطع طبقة الملح أثناء الحصاد، وبقدر نقاء الملح من الشوائب غير القابلة للذوبان مثل الرمل والطين بقدر جودته، وبعد غسيل الملح يمكن أن نتحصل على نسبة جودة ودرجة نقاء تصل إلى 99.8% في الصوديوم".

عامل متقاعد من حقول الملح (69 سنة): تخضع عملية استخراج الملح لأكثر  من مرحلة، وهي تركيزه لأكثر من 6 أشهر، ثمّ حفظه لسنة كاملة قبل أن يقع حصاده بين جويلية وأكتوبر، ثم يقع الغسل والتجفيف والتخزين

  • سبخة الساحلين.. محضنة بيئية واقتصادية هامة

إنّ ما يشاهده المار العابر بين ولايتي سوسة والمنستير من رسوّ جبال بيضاء من مادة الملح في شكل دائري، ليس سوى المخزونات الخام بعد الحصاد والغسيل، وهي نتاج استغلال زهاء 15000 هكتار من الأراضي الرطبة. أما تلك الأحواض البيضاء والوردية فتلك التي تتم فيها تنشئة الطبقات الملحية وتنتج المادة الخام التي يتم حصادها سنويًا، أما تلك المملوءة من ماء البحر فهي بصدد التركيز العالي والتبخر الطبيعي.

 

مشهد علوي لأحواض انتاج الملح في الساحلين
مشهد علوي لأحواض إنتاج الملح في الساحلين (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

من جهة أخرى، تعتبر سبخة الساحلين من أهم المحاضن البيئية في الساحل التونسي بالإضافة إلى كونها محضنة اقتصادية ومصدر ثروة طبيعية هامة، ورغم أن عمليات استخراج الملح تحظى برقابة السلامة البيئية بجدية عالية، فإن التلوث البيئي في محيط السبخة قد يؤثر سلبًا على النظام البيئي المحلي في الجهة ومن ذلك تم التوجه نحو حماية النباتات المتنوعة في المنطقة والحيوانات والطيور النادرة التي تعشش فيها، إذ شهدت السبخة وفود 22 ألف طائر مهاجر سنة 2019 أودع بيضه في هذه المحضنة مُنشئًا 10200 فرخ جديد في توافد قياسي وغير مسبوق لفت انتباه الباحثين والمختصين في الجمعيات البيئية.

 

مشهد لجبال الملح بعد موعد الحصاد
مشهد لجبال الملح بعد موعد الحصاد (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

وفي تصريح لـ"الترا تونس"، اعتبر فتحي عياش الأستاذ في الجغرافيا وعلوم البيئة أن "السباخ هي من أهم المحاضن للطيور والنباتات وجب المحافظة عليها، وهي تتكون من أماكن شديدة الملوحة لا تنبت زرعًا وأماكن أخرى تعج فيها الحياة باعتبار أنها تحتضن أنواع نادرة من الطيور وتحتوي على منافذ مياه حيّة ولا بدّ من الحفاظ على التنوع البيئي بالمنطقة وذلك بتهيئة الاستدامة البيئية للكائنات الحية ودرء كل ما هو ملوث للمنطقة وحفظ مناطق التعشيش، ولا ضير في تواجد الطائر الوردي في الجهة باعتباره علامة بيئية مضيئة نظرًا لخصوصية هذا الطائر المهاجر الجميل".

أستاذ في الجغرافيا وعلوم البيئة لـ"الترا تونس": لا بدّ من الحفاظ على التنوع البيئي بالسباخ عبر تهيئة الاستدامة البيئية للكائنات الحية وإزالة  كل ما هو ملوث للمنطقة وحفظ مناطق التعشيش

ويذكر أن نزاعًا بيئيًا قد نشأ بين الشركة المستغلة لملاحات الساحلين والشركة المستغلّة لمصبّ "القزاح" في طريق القيروان خلف مطار المنستير الدولي المرخص لها من طرف وكالة التصرف في النفايات بعد أن توسعت هذه الأخيرة في سكب الفضلات نحو الملاحة والأراضي التابعة للزمة الملاحة ووضع الفضلات بصفة عمودية، قبل أن يتم إيقاف تسرب الفضلات نحو الجزء المائي فورًا ودراسة إزالة التلوث على مساحة 11 هكتار، وقد تم إيقاف هذا النزاع بموجب اتفاق في مقر ولاية المنستير وفق اتصالنا بها في أفريل/ نيسان 2022.

ملاحة الساحلين تبقى ثروة اقتصادية وطنية ذات طاقة إنتاج عالية وذات جودة من مادة الملح ما أهّلها لإنتاج ملايين الأطنان سنويًا ذات الاستغلال الغذائي والصناعي. وفي الآن نفسه تعتبر كمثيلاتها في تونس عنصرًا هامًا لخلق التوازن البيئي والمحافظة على الخصائص الجغرافية والتاريخية للجهة، غير أن الإرث التنموي عبر العقود لم يكن عادلًا باعتبار أن هذه الثروات التي توصف بالمنهوبة لم تكن ذات جدوى اجتماعية واقتصادية محلية مباشرة بل تضمنت كل معاني الاستغلال الاستعماري للثروات.

 

مراسل الترا تونس في جولة أمام جبال المالح بملاحة الساحلين
مراسل الترا تونس في جولة أمام جبال الملح بملّاحة الساحلين (ماهر جعيدان/ الترا تونس)