31-مارس-2018

قصص جدّتي كانت في معظمها عن الجنّ (صورة تقريبية/Getty)

كم ألهبت حكايات جدّتي "زهرة" خيال أحفادها زمن الطفولة، ولا تزال إلى اليوم تداعب ذاكرتي المثقلة بالأرقام والحروف ومشاغل الحياة.

اليوم وقد طفا الجدل من جديد بشأن وجود الجنّ وتضارب الآراء بين رجال العلم ورجال الدين تتبادر إلى ذهني ذكريات الطفولة الحبلى بغرائب الجن

قصص جدّتي كانت في معظمها عن الجنّ، وهي قصص يكثر تداولها في قريتي الصغيرة، التي نشأت فيها حتى السادسة من عمري ثم صرت أزورها في العطل المدرسية كي أتسلى مع أبناء وبنات أعمامي بالجنّ ورواياته التي تبرع جدّتي في سردها. في ذلك الزمن، الذي يبدو بعيدًا جدًّا، لم تكن هناك إنترنت نبحر في غياهبها ولم نكن مولعين بمشاهدة التلفاز الذي كان عنصرًا دخيلًا على أسر اعتادت السمر حول "كانون" (موقد تقليدي) يتربّع على جمراته إبريق شاي مهما اختلفت الفصول.

اليوم وقد طفا الجدل من جديد في تونس بشأن وجود الجنّ وإمكانية عشقه للإنس وتضارب الآراء بين رجال العلم ورجال الدين، تتبادر إلى ذهني ذكريات الطفولة الحبلى بغرائب الجن وحكايات طرده من بعض الأجساد المسكونة وعبثه بالمنازل المهجورة في قرية يجمع كبارها على أنّ "ترابها سخون" أي أن الجن يتحرّك في كل شبر منها، هكذا يقولون.

تقفز ذكريات الطفولة التي تعدّ جزءًا من ذاكرتي ومن هويّتي ومن ماض أتشارك فيه مع أقاربي وبعض أبناء جيلي من تلك القرية، كانت حدقات أعيننا تتّسع ونحن نراقب انهمار الكلمات من شفاه جدّتي "زهرة". كبرنا وطعنت جدّتي في السن ولا نزال نقبل على حكاياتها التي لم تعد ترويها بنفس الحماسة ولكن لا نزال نمتصّها بنفس الرغبة لأنها حكايات بطعم الحب والحنين.

في البهو المطلّ على البطحاء التي ينتصب فيها السوق الأسبوعي لقريتنا الصغيرة كل سبت، تتوسّط جدّتي الجلسة ونحيط بها خاشعين كطلبة العلم. ولتضفي جدّتي مسحة من المصداقية على قصصها تنسب صفة القرابة إلى أبطالها ربّما حتى لا يساورنا الشكّ في مصداقيتها، وتخلّل الحكاية بمفردة "والله أعلم" وكأنها تقول هذه الرواية لا تلزمني، ولم نكن حينها ننتبه إلى هذه التفاصيل وغيرها في حكايات جدتي.

اقرأ/ي أيضًا: "تشليط"، كي وممارسات أخرى.. رعب أطفال تونس

في عملية طرد الجن الأولى نسي الشيخ القيام بطقس قسم الجن على عدم العودة إلى جسد مريم، فكانت عودته في المرّة الثانية أشرس من الأولى

"يا سادة يا مادة يدلنا ويدلكم على الشهادة واللي عاشق النبي يصلي عليه" تنطق جدّتي بهذه الكلمات وتردفها برشفة شاي فيما يصلي من بالجلسة على النبي، وتهيّئنا لسماع القصّة بقولها "الليلة بش نحكيلكم على قريبتي اللي لبسها جن على خاطر عفست على الدم ما بين المغارب وما سمتش بسم الله" أي الليلة سأحدّثكم عن قصّة قريبتي التي تملّكها جنّ لأنها داست على الدم ساعة الغروب ولم تبسمل.

يخيم علينا الوجوم ويغزو الصمت المكان ونحن نتبادل النظرات ونترقب تفاصيل الحكاية التي لن تتأخّر جدّتي في سردها.

"مريم " قريبة أمي كانت تعيش حياة عادية إلى حين احتفال أهلها بزواج شقيقها، فلما كانت تساعد أهلها على تنظيف المكان الذي ذبح فيه العجل المخصص لإعداد وليمة العرس، سقطت مغشيًا عليها وصار جسدها يهتز وتهذي بكلمات غير مفهومة فأجزمت عجائز العائلة على أنّ جنًا قد مسّها، وبعثوا td طلب أحد الشيوخ المختصين في هذه المسائل، وتسكت جدّتي عن الكلام وتحرّك جمرات الكانون ونحن فاغرون أفواهنا.

وتواصل جدّتي حديثها عن مريمK التي عاشت أسبوعًا أسودًا ولم تستمتع بزواج شقيقها، وتلقت مئات الصفعات على وجهها بغية طرد الجن من جسدها، وأحرقت دوائر أنفها بعيدان العنبر، ولكن الجنّ كان عتيًا ومن ديانة أخرى.

تحدّثنا جدّتي عن المنزل المهجور الذي يقع عند سفح الجبل وأنه مسكون بالجن

وفي عملية طرد الجن الأولى نسي الشيخ القيام بطقس قسم الجن على عدم العودة إلى جسد مريم، فكانت عودته في المرّة الثانية أشرس من الأولى، إذ جعلها تمشي حافية شعثاء الشعر في قلب القرية، ودفعها إلى اقتحام جزار والتهام اللحم نيئًا في حادثة لا يزال يتناقلها سكان القرية، والله أعلم، تسكت جدّتي مجدّدًا لتعدّل خمارها الذي جعلته لفحات النسيم يتراجع إلى الخلف.

ومن ثم تواصل سردها لفعل الجن في مريم إذ دفعها إلى كسر الأقفال الحديدية لباب ضريح الولي الصالح "سيدي حمد بن خليفة"، حيث أقيمت الطقوس الأخيرة لاستخراج الجن الذي نطق بأنه تلبّسها لأنها لم تبسمل وهي تدوس دم العجل، وبعد صولات من العراك مع الجن الذي تشبث بجسد مريم وأبى أن يخرج تحرّرت مريم وصارت تبسمل حيثما حلّت، تقول جدّتي وهي تسكب الماء في الكانون لينطفئ الجمر إيذانًا بوقت النوم.

وفي نفس المكان وبنفس الطقوس تروي لنا جدّتي قصصًا مختلفة أبطالها من الجن، وكنا نتسلى بسماعها وهي تسرد لنا قصة قريبها الذي لازمه جن وصار يأمره بأكل الزجاج والشوك وابتلاع الجمر دون أن تسيل منه نقطة دم واحدة، ولا تنسى جدّتي أن تخلل كلامها بالله أعلم.

وتحدّثنا جدّتي عن المنزل المهجور، الذي يقع عند سفح الجبل وأنه مسكون بالجن إذ انّ أهالي القرية يسمعون بعد منتصف الليل صوت صراخ امرأة متأت منه، وتخبرنا أن عائلة مكونة من زوجين و3 بنات كانت تقطن ذلك المنزل إلى أن هام جن بإحدى البنات الثلاث إثر مشاهدتها عارية ولم يتمكّن الشيوخ من طرده من جسد الفتاة إلى أن صحت القرية فجر أحد الأيام على احتراق المنزل بمن فيه.

كان الاستماع إلى حكايات جدّتي متعة لا تضاهيها متعة أخرى وكنا ننتظر العطل لسماع هذه القصص التي امتزج فيها الاجتماعي والديني والثقافي وتماهت فيها الأحداث الحقيقة مع مسحة من الأساطير والخرافات التي برعت جدّاتنا في حبكها.

ومرّت السنوات وانتقلنا من فترة الطفولة إلى المراهقة ولم يخبُ شغفنا بقصص الجن التي ترويها "ماما زهرة" وتدسّ فيها بعض مواعظ الجدّة النصوح فحكايات الجن التي ترويها لم تكن فقط لتسليتنا بل أيضًا لنتعلّم منها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تصفيح الفتيات في تونس.. العلاقة بين الحائط والخيط

عائشة.. تونسيّة تقاوم مرارة الواقع بـ"حلاوة" إزالة الشعر