04-ديسمبر-2023
المستفيدون من العدوان على غزة

قائمة المستفيدين من العدوان على غزة فيها البسيط والعميق وفيها العَرضيّ والجوهريّ (حسن مراد/ Defodi Images)

مقال رأي 

 

بلغ العدوان على غزة درجة من الدمويّة ستظلّ عالقة في القلوب والأذهان سائرة على الألسن، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تمحوها هدنة ظرفيّة أو مجرّد مشروع سلام دائم.

إنّ تِعداد الضحايا وإحصاء الخسائر الماديّة والعمرانيّة كفيل بجعلنا ننتهي إلى نتائج أوليّة حول مسار الحرب يعزّ إنكارها، فلا أحد ينفي أنّ الكيان الصهيوني، مدعومًا استخباراتيًا وعسكريًّا بجلّ الدول الغربيّة، قد تمكّن من إزهاق آلاف الأرواح وتدمير البنية التحتيّة في غزة تدميرًا يكاد يكون كليًّا.

هذه الوضعيّة المأساويّة أورثت في نفوس الشعوب العربيّة والإسلاميّة وغيرها من بقاع العالم شعورًا بالغضب والسخط وأثمرت في أذهان البشريّة جمعاء تصوّرات جديدة ومراجعات جادّة ومواقف فيها ما فيها من تمرّد على الكثير من الأطروحات والمواقف النمطيّة التي هيمنت في الفكر والسلوك والذوق والخطاب والتشريعات الدوليّة وغيرها ممّا يندرج ضمن مخاطر العولمة والإمبرياليّة.

أورثت الوضعيّة المأساويّة التي خلفها العدوان على غزة في نفوس الشعوب شعورًا بالسخط وأثمرت في أذهان البشرية جمعاء تصورات جديدة ومراجعات جادة ومواقف فيها ما فيها من تمرّد على الكثير من الأطروحات والمواقف النمطيّة

المراجعات المذكورة تحثّنا على قراءة نتائج الحرب على غزة وفق زوايا أخرى أبعد ما تكون عن المقاربة الآنيّة الماديّة التي لا تحتاج إلى بيان وتِبيان.

الزوايا التي نبغي الاستئناس بها تنزع نزعة فكريّة وتنحو منحى سياسيًّا ولا تخلو من عمق روحيّ ووجوديّ. هذه الزوايا تحثّنا على البحث عن أجوبة أدقّ لسؤال بديهيّ تفرضه نهاية كلّ مواجهة: مَن المستفيدُ من المشهد الحربي الذي فاضت دماؤه من غزة فسُكبت آثارها صورًا ولافتاتٍ في كلّ الشاشات والقنوات وأُهرقت ألوانها شعارات وصيحات في الملاعب والمدارس والساحات؟


صورة

 

  • حماس من " شبهة الإرهاب" إلى شهامة المقاومة

لا تكتسي الأشياء قيمتها ودلالاتها وانتظامها من ذاتها وإنّما تكتسي كلّ ذلك من سياقها والناظر إليها ومستعملها وقارئها ومؤوّلها، ولمّا كانت هذه العناصر متغيّرة متقلّبة فمن لوازم المنطق أن تتغّير معاني تلك الأشياء تغيّرًا قد يكون أحيانًا جذريًّا من القبح إلى الجمال، ومن الباطل إلى الحقّ، ومن الشرّ إلى الخير، قِس على ذلك حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وجناحها العسكري كتائب القسّام، هذا التنظيم مصنّفٌ رسميًّا جماعةً إرهابيّة عند جلّ الدول الغربية وبعض الأنظمة العربية وهو عند غالبيّة المثقفين والمتحزّبين العلمانيين موسوم بشبهة التشدّد الديني مُصاب بلوثة الفكر التكفيري.

اتّضح للجميع أنّ الخيارات الحربيّة الإسرائيليّة لم تكن مجرّد ردود أفعال شرعيّة اقتضتها أعمال إجراميّة من هذا "الفصيل الجهادي" أو ذاك إنّما هي عقيدة ثابتة قوامها الترحيل والإبادة

بعد طوفان الأقصى تكشّفت صورة الكيان الصهيوني ذات الملمح الاستعماري النازي للغافل والسطحي والمتهافت والمتعجّل والمتعسّف في الرأي، واتّضح للجميع أنّ الخيارات الحربيّة الإسرائيليّة لم تكن مجرّد ردود أفعال شرعيّة اقتضتها أعمال إجراميّة من هذا "الفصيل الجهادي" أو ذاك إنّما هي عقيدة ثابتة قوامها الترحيل والإبادة.

افتضاحُ صورة الكيان الصهيوني واتّضاحها للجميع اقتضى تلازميًّا مراجعة تقييم خَصمها "حماس" تنسيبًا أو تعديلًا أو تثمينًا إن لزم الأمر عند الكثيرين، تلك أحكام المنطق، فبأضدادها تُعرف الأشياء وتبرز وتتحدّد أحكامها ومنزلتها وماهيتها، فنالت "الحركةُ" بمقتضى هذه المعادلة لقب المقاومة باستحقاق شعبي عالمي، فليس ثمّة آدميّ يمكن أن يشجب أو يستنكر خيار الدفاع المسلّح عن العرض والأرض وأرواح الأبرياء، يساريًّا كان أو متديّنًا أو ليبراليًّا، دعك من هواجس المرجعيّة التي تستند إليها كتائب القسّام، المسألة هنا كونيّة إنسانيّة لا يختلف فيها مسلم سنّي مع أيّ عاقل بصير من أي عقيدة أو نحلة أو مذهب أو قائل بحريّة الضمير.

 

 

  • المقاومة تقصف خنادق المناورة والمقاولة 

المسالمة والمناورة والأخذ والردّ والمصالحة مواقف تبيحها مقامات الصراعات السلميّة عامّة كالتدافع الفكري والتنافس الحزبي، أمّا إذا تعلّق الأمر بالوقوع تحت طائلة الاعتداء الدمويّ المنهجيّ الاستئصالي فإنّ الحدّ الأدنى يقتضي التسلّح بما تبيحه لك الشرائع الدوليّة والإنسانيّة والطبيعيّة من التمسّك بالمقاومة والدفاع عن النفس.

أهلُ غزّة الذين اختاروا المقاومة أبعد ما يكونون عن النزعة الانتحاريّة أو الرؤية السوداويّة هم في الأصل متمسّكون بالحياة لكنهم يحبون حياةً ذات معنى، أيقنوا أنّ الرفاهية الجوفاء وعوالم السخافة والسطحيّة خالية من القيمة والعمق فأعرضوا عنها

ما حصل في غزّة بُعيد طوفان الأقصى لم يساهم في تلميع المقاومة بما هي تنظيم عسكري فقط وإنّما ساهم كذلك في نصرة "المقاومة" بما هي قيمة على أضدادها من المعاني، فارتفعت منزلة الشجاعة على مرتبة الجبن الموسوم مغالطة وبهتانًا في العديد من المواقف الخطيرة الحارقة بالمُسالمة والحِلم وضبط النفس، وتعاظمت أسهم الصبر والاستبسال والصمود وانحدرت أكذوبات التعقّل الذي يُخفي عجزًا والتريّث المسكون رِعشة وتخاذلًا والحكمة المزيفة الملتوية المخاتلة التي يستنجد بها كهنة الرفاهية في مقامات الحماسة لإحباط العزائم، فنادى مُنادٍ من أقصى شمال غزّة: 

"السيف أصدق أنباء من الكتب في حدّه الحدّ بين الجدّ واللعب" (أبو تمّام)

وتردّد صداه في أرجاء الكون كلّه في شعر حِكميّ تأمّلي على لسان أبي الطيّب المتنبّي:

أرى كُلَّنا يبغي الحياةَ لنفسه ** حريصًا عليها مُستهامًا بحبّها صَبًّا.

فحُبُّ الجبان النفسَ أورده التّقى (=دَفعه إلى اتّقاء المواجهة الحربيّة) ** وحبّ الشجاع النفس أورده الحرب (= أوقَد فيه الرغبة في القتال)

أهلُ غزّة الذين اختاروا المقاومة أبعد ما يكونون عن النزعة الانتحاريّة أو الرؤية السوداويّة هم في الأصل متمسّكون بالحياة شغوفون بها "مستهامون بحبّها" هُيام المتيّم الصبّ بمعشوقته شأنهم شأن البشريّة جمعاء، لكنهم يحبون حياةً ذات معنى، أيقنوا أنّ الرفاهية الجوفاء وعوالم السخافة والسطحيّة خالية من الروح والقيمة والعمق فأعرضوا عنها، فلم يبق لهم غير خيارين، حياة العِزة أو ميتة الكرماء، ذاك شعارهم في الحياة وذاك ما ينبغي أن يتمسّك به كلّ إنسان رام أن ينحت له كيانًا في هذا الوجود.  

عِشْ عزيزًا أو مُتْ وأنت كريمٌ ** بين طعن القنا وخفق البنود    

من التفاهة والاغتراب إلى ملامح جيل الوعي والغضب

الغضب غريزة مكروهة، فهو مطيّة إلى اتخاذ مواقف وردود أفعال متسرّعة أو عشوائيّة أو ظالمة، لكن انسجامًا مع الفكرة الناظمة لهذا المقال لا بدّ من التذكير مرّة أخرى بأنّ الأشياء لا تكتسي وجاهتها أو وضاعتها من ذاتها، وبناءً على ذلك قد يتحوّل الغضب إلى حالة انفعاليّة صائبة متى أفضى إلى مواقف عادلة جريئة، فمُقاومة المحتلّ فضيلة تآلفت فيها الأضداد، هو سليل حِنقٍ وحكمة وجماع غيظ وعظة معًا، على هذا النحو كان الغضب وما خالطه من رصانة وحسن تدبير أمرًا محمودًا لا لكونه قد ألهم شباب فلسطين خيار العنف الحق والرشقِ الحقّ والرمي الحقّ، ولكن لأنه قد أخرجهم من فوضى التيه وتداعيات العبثيّة وثقافة الاستهلاك الغبيّ إلى أنوار الهمّة والنُّبل وجلاء الرؤية ودقّة الأولويات.

الغضب المستنير في غزة كفيل بإنقاذ جيل سحرته متاهات التقنيات الحديثة في استعمالات تافهة سخيفة وشغله العالم الافتراضي فلم يجن منه غير الفراغ الواقعي

الغضب المستنير في غزة كفيل بإنقاذ جيل سحرته متاهات التقنيات الحديثة في استعمالات تافهة سخيفة وشغله العالم الافتراضي فلم يجن منه غير الفراغ الواقعيّ، فراغ في النفوس والأذهان والألسن والسواعد، يعادل فراغ الأصابع وفروجها وقد استرخت بعد الآلاف من نقرات "الزابينغ" على شاشة الهاتف المحمول.


صورة

تمسّك أهل غزة بأرضهم وتجذرهم في التربة التي منها استمدوا ماهيتهم وشروع بعضهم في إعادة البناء وهم تحت القصف و"موج المنايا متلاطمٌ" تدعمه صواعق الجوع والعطش والبرد والخصاصة، كلّ هذه المشاهد الخارقة يُشاهدها الشابّ في تونس والجزائر ومصر وغيرها من البلدان العربيّة فيلعن اليوم الذي ظنّ فيه أنّ الحياة مجرّد ترف ولهو واستهلاك ومتعة، ويعلم علم اليقين أنّ الهجرة التي اختارها أترابه إلى العواصم الغربيّة وضواحيها إن كانت لحرية يطلبونها أو قيمة إنسانيّة أو علميّة ينشدونها فهي محمودة، أمّا إن كان دافعها مادّيًا فيا جهالة المسعى وخيبته.

قائمة المستفيدين من العدوان على غزة فيها البسيط والعميق وفيها العَرضيّ والجوهريّ، من بائع العَلم الفلسطيني والكوفية متكسّبًا من الموجة الذوقيّة العابرة، إلى الباحث الأكاديميّ فاتحًا من جديد ملفّ الاستشراق وما انطوى عليه من نزعة استعماريّة

محنة رضّع غزّة وأبنائها ونسائها وشيوخها يمكن أن تتحوّل إلى منحة بالنسبة إلى الشباب العربيّ، في فلسطين، نَحت أترابكم الصخر وجاهدوا وكابدوا تحت القصف فهلّا جاهدتم أنتم أيها الشباب العربيّ في بلدانكم علمًا وعملًا وتمدّنًا ونضالًا من أجل العدل والحرية والكرامة والتنمية والحكم الرشيد والبيئة السليمة والعقل المستنير، فالتكلفة في كلّ الأحوال أدنى بكثير ممّا يتجرّعه المرابطون هناك.

أغنيةٌ أو لوحة أو قصيدة أو صفعة أو صفحة من كتاب علميّ أو حادثة عابرة على قارعة الطريق كفيلة أحيانًا بتغيير منهج حياة بالنسبة إلى الكثيرين فهلّا التقطنا الفرصة من فاجعة غزة العُظمى لنختار العفة والرفعة ونتعالى عن كبائر الفساد وصغائره؟

قائمة المستفيدين من فاجعة غزة 2023 أوسع من العناصر والأطراف المذكورة في هذا الحيّز، فيها البسيط والعميق وفيها العَرضيّ والجوهريّ، من بائع العَلم الفلسطيني والكوفية والزنار متكسّبًا من الموجة الذوقيّة العابرة في غير وعي أو التزام، إلى الباحث الأكاديميّ فاتحًا من جديد ملفّ الاستشراق وما انطوى عليه من نزعة استعماريّة في جانب منه، وملف "الاستغراب" الذي يندرج ضمن مشروع فلسفيّ ثوريّ يراهن على نقد العقل الغربي، خاصّة بعد تحوّل الولايات المتحدة والأنظمة الأوروبية من المساندة الكتومة إلى المعاضدة المعلومة للآلة الحربيّة الصهيونية.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"