مقال رأي
تقدّم مجتمعاتنا نفسها في ثوب الواعظ الديني والمرشد الأخلاقي، وتتفنن في قتل رغبات الفرد باسم العادات والتقاليد والدين والأخلاق، فينشأ الفرد فينا على طريقة التدجين الإلزامي، ويلتزم بقيم تقتل رغباته في التحرّر وفي التمرّد، ويحاول طيلة حياته أن يكون فردًا ناجحًا في مجتمع يمنح صكوك الأهلية الأخلاقية والحياة، ويلفظ من يزدريه وينفيه.
محاكمة رائف بدوي لم تحرك ساكنًا لدى السعوديين، كذلك حكم إعدام الكاتب الموريتاني محمد ولد الشيخ لم يأسف له الموريتانيون
معاناة الأمّ العزباء لا تقلّ عن معاناة المثليّ أو الملحد أو المتحررة أو غيرها من النماذج التي حاصرها المجتمع وأخفاها عن الأنظار، لتعيش في اللامرئي واللامسموع حتى لا تفسد القيم الجماعية في التعايش بين الأفراد في المجتمعات المحافظة.
يعتبر الدين رافدًا مهمًا من روافد التدجين الإلزامي، لما يحظى به من تقديس وحضور كبير في حياة الأفراد، بل وفي حياة السلطة الحاكمة التي تستلهم من الدين أسباب قمعها ومحافظتها، وتبرّر رجعيتها أحيانًا بنصوص دينية تحظى بالإجماع بين الحاكم والفرد، فمحاكمة رائف بدوي لم تحرك ساكنًا لدى السعوديين، أو حكم الإعدام الصادر ضدّ الكاتب الموريتاني محمد ولد الشيخ الذي لم يأسف له الموريتانيون، وغيرهما من سجناء الرأي الذين حوكموا بتهم الردّة التي نشطت في السنوات الأخيرة، حيث ولدّت محاكم التفتيش الجماعية والفردية في ضمائر الناس، ويظهر هذا الاتفاق الجمعي في محاصرة المذنب ومباركة عقابه في حادثة رجم المرأة السورية من طرف تنظيم داعش في ريف إدلب، الذي برّره الأفراد في مجتمعات تعيش هامشًا من الحرية والعلمانية أنّ تلك المرأة تستحق ذلك فهو عقاب الله، ورجمها أمر طبيعي لأنّها خرجت عن الدين.
يتفق الكثير داخل مجتمعاتنا بشكل ضمني أنّ الدين أمر لا يمكن تجاوزه أو تبرير المسيء له، سواء كان العصاة أو الزناة، أو الكتابّ، أو أي نقاد بطريقة مغايرة للنسق العام في قراءة التراث الإسلامي، فداخل كلّ فرد يسكن مجتمع ما بقيمه وثقافته الرسمية ينصهر معه وفيه، ولا يتخلى كليهما عن الآخر فوجودهما متلازم بالإعتراف بالقيم الجمعية.
ومع الثورات العربية شهدت منصات التواصل الاجتماعي خاصة الفيسبوك ثورة أخرى مصاحبة للثورات العربية على النظم العامة، وعلى الوعي الجمعي، بمحاصرة المختلف ونفيه من الأطر الرسمية، فأعلنت النماذج المغضوب عليها وجودها في صفحات وبروفيلات شخصية وأخرى مستعارة لتقول على طريقة ديكارت: أنا أفكّر إذن.. أنا موجود. وتعلن كينونتها المسحوقة خارج هذا الفضاء، فأعلن الملحد إلحاده والمتحررة شبقها وتوقها إلى الحرية المسلوبة منها لكونها إمرأة في مجتمع محافظ يحاصرها ويضبط حدود وجودها خارج البيت والمدرسة. كما أعلن المثلي مثليته، وطالبت جميع هذه النماذج المرفوضة اجتماعيا حكوماتهم بضمان حقوقهم بسنّ فصول في الدستور تضمن لهم العيش الكريم داخل هذه المجتمعات المغلقة ، من حرية الضمير إلى إلغاء قوانين المجرمة للمثلية وأخرى ضامنة للحريات الفردية.
كشف العالم الافتراضي عن ازدواجية عالمنا الواقعي الذي حاول أن يقصي الآخر المختلف عن الأخلاق العامة
لم يكن الفيسبوك، وغيره من الشبكات الاجتماعية، سوى ورقة التوت التي أسقطت مثالية مجتمعاتنا وأخلاقيتها في التعاطي مع من يخرج عنها، وكان أيضًا بطاقة هوية للأقليات وللنماذج المستبعدة من الإعلام الرسمي ومن الحديث في الأوساط الأسرية والتعليمية، فالملحد تحرّر من خوفه وتحرّر من سجنه لينطق في هذا الفضاء، فلم يعد الإخفاء فعلًا للمقاومة من أجل حياته بل أصبح الإظهار والتصريح بمواقفه هو فعل مقاومة من أجل تبليغ أفكاره. وأصبح المثلي الذي يتحرّج من الحديث عن حياته الشخصية سابقًا ومن إعلان هويته الجنسية، يناضل من داخل الافتراضي من أجل ضمان حقوقه ليترجمها لاحقًا في جمعيات ووقفات احتجاجية على أرض الواقع مهدّ لها على صفحات المواقع الاجتماعية.
كشف العالم الافتراضي عن ازدواجية عالمنا الواقعي الذي حاول أن يقصي الآخر المختلف عن الأخلاق العامة، فمجتمعاتنا نسخة مشوهة من السلطة هناك التي لا تسعى إلى التغيير بل تهدف أساسا إلى رتق الهوّة التي تفصل بين السويّ واللاسوّي، لتنفي هذا الأخير خارجها ولتلعب دائما دور الأب المسيطر والمهيمن على الأبناء، كما برهنت شبكات التواصل الاجتماعي أنّها بمثابة بطاقة هوية اجتماعية لا تقل أهمية عن الهوية الشخصية القانونية للفرد، تحقق كينونته وتضمن حرية تنقل أفكاره،كما يتنقل هو بين الشوارع والأزقة في تلك المجتمعات.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"