24-يونيو-2018

عبد المجيد بن سعد هو خبير دولي في صناعة وتحريك العرائس المسرحية

في شتاء سنة 1970 وتحديدًا في ضاحية المرسى، كان الطفل عبد المجيد بن سعد يبدو لطيفًا وهو يلهو على شاطئ فسيح يؤثثه موج مزهر. أبهرته حركة الموج الأبدية ومن فرط دهشته أمام عتو البحر خاتلته موجة فأبتلّ. ثم توجه عبد المجيد إلى نادي الأطفال القريب بحثًا عن دفء ما، فوجد نفسه أمام عتو أخر، إذ كان يقدم الأطفال مسرحية، وجد ركحًا وستارًا وأدوارًا وقصةً وأضواء.

شعر الطفل بدفء غريب يسري في داخله، لم تقوى مهجته الصغيرة على ذاك السحر، فانخرط في النادي وموج البحر يعاتبه ويناديه. وهنا يقول مجيد، كما يحلو للجميع مناداته: "ما فتنني في ذلك اليوم الغريب وأنا داخل نادي اطفال المرسى هو عملية تقمص الأدوار ومفارقة الأنت لتصبح آخرًا وأحيانًا آخرًا متعددًا. وقررت حينها ركوب هذه الموجة التي لم تتركني الى اليوم".

اقرأ/ي أيضًا: بن عمّو مؤلف "عام الفزوع": شوقي الماجري أراد تزييف تاريخ "بن غذاهم" (حوار)

تشكلت في هذا النادي قصة حب أزلية بين عبد المجيد بن سعد ومسرح الطفل حيث تعلّم الكتابة المسرحية ومسك "العروسة" لأول مرة في حياته وفهم بعض تقنيات "مسرح الماريونات". وتوّج ذلك بمشاركة خاصة في الإذاعة والتلفزة زمن إدارة الفنان حمادي الجزيري لبرامج الاطفال بها.

دقّ الأوتاد والمسك بحبال المسرح

كانت دار الثقافة ابن رشيق بالعاصمة، في سبعينيات القرن الماضي، الفضاء المشتهى لجميع المثقفين والفنانين، إذ كانت الحركة الثقافية والفكرية نشطة داخلها عبر نوادي مسرح وسينما وشعر وأدب. دخل عبد المجيد بن سعد سنة 1975 هذا المكان الذي يلخّص الحياة الثقافية التونسية، وتعرّف إلى الأمين النهدي وكمال التواتي وحاتم بالأكحل ومحسن الرايس.

إحدى العرائس المسرحية التي صمّمها عبد المجيد بن سعد

كان المسرح مخصّصًا على مدار الساعة لكتابة النصوص ومعالجتها والنقاش حولها، وللوقوف على الخشبة، وإدارة الكواليس، وصناعة الديكور، وفن الاضاءة وكذلك للماكياج. كان الفتى عبد المجيد مغمورًا بسعادة غريبة، ويشير في حديثه لـ"الترا تونس": قائلًا "كنا نتمرّن ليلًا وعند الفجر نغادر ابن رشيق وتهدهدنا نسائم الفجر العاصمي، كانت أيامًا خالدة أنتجت مسرحيات هامة مثل مسرحية "الكرّيطة" و"فر فر" وغيرها" مضيفًا "لم نكن نبحث عن شهرة أو أموال، لقد كنا نبحث عن لذة الفعل المسرحي لأنفسنا بالأساس فيما كان الجمهور تعلّة".

انكشاف مسرح العرائس

في سنة 1978 وخلال الأشهر الأولى لتأسيس المركز الوطني لفن العرائس بنهج زرقون بالعاصمة تحت إدارة الفنان القدير رشّاد المنّاعي، غادر الشاب عبد المجيد دار ابن رشيق محمولًا على تلك الموجة الأولى بنادي المرسى ليلتحق بمركز العرائس. كان في جيبه حلم وبعض قصائد الحب. واكتشف منذ الأيام الأولى أن هناك من يقاسمه حلمه، إذ كان معه كل من محيي الدين بن عبد الله، وحبيبة الجندوبي، وحسن المؤذن، وعبد الحق خمير، وهم الآن من رجالات يذكرهم بخير تاريخ مسرح العرائس بتونس.

وفي ذلك النهج الخلفي، نهج زرقون، التف هؤلاء الشباب على تأسيس أول فعل مسرحي عرائسي تونسي، فكانت التجارب الأولى لورشات صناعة العرائس والتمرس على مسكها، وكتابة النصوص المسرحية الموجهة للطفل. وبدأت ثمرات تلك التجارب في النضج، فقدموا مسرحيات عرائسية (ماريونات) لأول مرة في تونس، وكانت فنونًا جديدة لم تألفها العين. قدم المركز مسرحية "خلق العالم" و"نمرود" التي ساهم في صناعتها الفنان المسرحي الفاضل الجزيري وأخرجها رشاد المناعي الذي يُعتبر أحد عباقرة "الماريونات" في العالم وليس في تونس فقط.

عبد المجيد بن سعد: السياسة الثقافية في تونس في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات حالت وأحلامنا الصغيرة في مسرح الطفل

قويت بذلك تجربة عبد المجيد بن سعد بمركز فن العرائس، وبدأت عناقيد الاحتراف تطل خاصة عندما التحقت مواهب أخرى مع بداية الثمانينيات على غرار المنصف بالحاج يحى، والطاهر البكوش، والراقص توفيق الورتاني. وتم إحداث قسم "مسرح العرائس الضاحك " الذي انخرط فيه بكل جوارحه، وأنتج هذا القسم المحدث أعمالًا تاريخية أهمها "لمياء والسلام" و"الماسك" (القناع).

ولكن فجأة وفي أوج ربيع المركز الوطني لفن العرائس، انقطع حبل الودّ وشابت علاقة عبد المجيد سعد بمركز العرائس بعض الخدوش وبدأت الاحلام في الانقشاع. يحدّثنا عبد المجيد في هذا الإطار "لقد شرعنا في أعمال هامة ستغرس لدى الطفل التونسي جماليات وأفكار جديدة لم يكن متعود عليها خاصة بعد قيامنا بتربصات هامة بأوروبا الشرقية، ولكن السياسة الثقافية في تونس في تلك الفترة حالت وأحلامنا الصغيرة".

التيه الأول في أمريكا والتشبث بحبال المسرح     

بعد الرقابة السياسية التي باتت مسلطة على الحياة الثقافية وتشبثًا بحبه لحبال المسرح، حزم عبد المجيد بن سعد سنة 1982 حقيبة سفره وشق الأطلسي بطريقة تشبه ما أتاه كريستوف كولمبس متجهًا نحو عالم جديد، نحو الولايات المتحدة الأمريكية وتحديدا إلى ولاية فيرمونت على الحدود الكندية.

توجد في هذه الولاية الأمريكية الصغيرة نحو مدينة أكسيجينها هو مسرح الطفل وعالم الماريونات الشاسع، إنها مدينة بينقتون التي احتفت بالفنان القادم من تونس وفسحت له مجالًا بلا ضفاف، فدرس وشارك في أهم الورشات العلمية الخاصة بصناعة الماريونات سواء فيما يتعلق بالمادة أو الشكل أو الحركات. وهي ورشات أشرف على تنظيمها بالخصوص الفنان العالمي المختص في مسرح العرائس "سيدريك فلاور"، وتألق فناننا التونسي وكتبت عنه بإطناب الصحافة الامريكية.

إحدى عروض عبد المجيد بن سعد في الولايات المتحدة الأمريكية

قرر عبد المجيد بن سعد، بعد سنة ونصف، أن يحمل موجته من جديد لكن هذه المرة على الطريقة الأمريكية فتوجه غربًا إلى ولاية كاليفورنيا ليقيم في مدينة سان فرانسيسكو. التقى في هذه المدينة قامات مسرح الجيب ومسرح الطفل الضاحك وكذلك مسرح الشارع، فاشتغل مع "كارلوس سانتانا" و"بوب ديلن" اللذين يعرفهما العالم بأسره وشارك معهما في أعمال مسرحية محترفة داخل سان فرانسيسكو وخارجها.

يعلّق عبد المجيد عن تجربته قائلًا: "التجربة الامريكية وخاصة الرجال الذين التقيتهم كانت بناءً حقيقيًا لذاتي المسرحية وقدراتي ومهاراتي، لقد أكسبتني مواهب أخرى تتعلق بالتواصل المسرحي وتقنيات صناعة المادة التي بها ننجز بها العرائس، كما تمكنت من قدرات مسرح الجيب والرسم".

اقرأ/ي أيضًا: علي بن عياد.. أسطورة المسرح التونسي

كونية التجربة المسرحية والعودة للمنابت الأولى           

بعد أكثر من عقدين من الزمن الأمريكي ومراكمة التجربة الفنية المسرحية وإثر قصة حب مع فتاة ألمانية، قرر عبد المجيد بن سعد، سنة 2010، والذي بات خبيرًا دوليًا في صناعة وتحريك العرائس الاستقرار بأوروبا وتحديدًا بألمانيا التي تلقفت هذا العصفور النادر وجعلته يحلق في سماء فنها بكل حرية. يحدّث عبد المجيد الترا تونس قائلًا حول تجربته الجديدة: "لقد تعاقدت معي وزارة التربية الألمانية التي فسحت لي المجال في فضاءاتها التربوية مدرّسًا ومكوّنًا ومؤطّرًا لمعلمي المسرح في مجالات فنون مسرح الطفل المتعددة".

عبد المجيد بن سعد تعاقد سنة 2010  كخبير دولي في صناعة وتحريك العرائس مع وزارة التربية الألمانية لتكوين معلمي المسرح في مجالات فنون مسرح الطفل المتعددة

واكتشف مجيد خلال التجربة الألمانية أن مسرح الطفل عريق في هذا البلد، وبأنه من أساسيات التربية وصناعة الذوق. فنذر نفسه من جديد للاستفادة والإفادة، وقدم أعمالًا للأطفال باللغة الألمانية التي سرعان ما تعلمها. كما شارك في كرنفالات عريقة في العديد من المدن الألمانية، وجاب أوروبا وآسيا وإفريقيا متذوقًا من تجاربها ومعززًا لرصيده الفني، حيث يُحتفى بعبد المجيد كأيقونة في مسارح العالم وبالخصوص في تظاهرات مسرح العرائس.

تونس دائمًا

بعد أكثر من ثلاثين سنة من التيه في عوالم المسرح لم ينقطع الحبل السري بين مجيد وتونس وتحديدًا أخبار الثقافة والمسرح وفن العرائس، فهو في تواصل مع الفنانين القدامى، والأصدقاء المؤسسين لمسرح العرائس اللذين استضافوه ذات صيف بمهرجان قربة لمسرح الهواة اعترافًا وتكريمًا له. يتواصل مجيد مع أصدقائه افتراضيًا، كما يزورهم لمامًا كلما وطأت قدماه أرض تونس.

يأمل عبد المجيد في هذا الزمن التونسي الجديد المفعم بالحرية في ثقافة تونسية حرة "لأنه بالثقافة والفنون تتمايز الشعوب" كما يقول

عبد المجيد بن سعد عندما يلتقيك يغمرك تواضعه وتشدك إليه لغته التونسية المنطوقة بالطريقة الأنقليزية الأمريكية، لا يكف عن الحلم بأمجاد مسرحية تونسية كأنه ذلك الطفل الذي مازال منخطفًا انخطافته الأولى أمام مسرحية للأطفال بنادي أطفال المرسى بداية سبعينيات القرن العشرين.

يأمل عبد المجيد في هذا الزمن التونسي الجديد المفعم بالحرية في ثقافة تونسية حرة "لأنه بالثقافة والفنون تتمايز الشعوب" كما يقول، فهكذا علمته التجربة وعلّمه التّرحال.

عبد المجيد بن سعد يحرّك عروس مسرحية في عرض في الولايات المتحدة الأمريكية

 

اقرأ/ي أيضًا: 

"الرسم على الماء" أو "الإيبرو".. الإقصاء القسري لفنّ عظيم

تدشين مدينة الثقافة، أما بعد؟