في كتابه[1] حول التطوَر الإنساني "بكتيريا، مسدسات وحديد"، تناول عالم الجغرافيا والبيولوجيا الأميركي جراد ديموند (Jared Diamond) الثورة الزارعية الأولى (The Neolithic Revolution)، 11000 سنة قبل الميلاد ونهاية العصر الجليدي، أين أبرز الكاتب دور تدجين بعض النباتات والحيوانات في تكوَن المجتمعات الأولى وظهور النوى الأولى للتنظيمات السياسية للدول. أيضًا، يتطرق جراد ديموند، على غرار عالم الأنثروبولجيا جايمس سكوت (James C Scott)، إلى دور الفلاحة البارز في التشكل الفيزيولوجي للإنسان المعاصر، نمط عيش المجتمعات وعاداتها، شكل الأرض الحالي والتغيرات المناخية التي صارت أمرًا واقعًا.
يرى عديد المختصين ضرورة اعتماد أنماط فلاحية مختلفة تراعي التغيرات المناخية والخصوصية البيئية التونسية، خاصة مع انتشار عديد الأوبئة المهددة للمحاصيل الزراعية على غرار الحشرة القرمزية مؤخرًا
يرى علماء الأنثروبولوجيا أن العوامل الطبيعية كانت محددة في التحولات الكبرى التي عرفها الإنسان: الجفاف والترحال وراء الماء، الوفرة والاستقرار على ضفاف الأنهار.. في هذا السياق، ومع انتشار عديد الأوبئة التي تهدد المحاصيل الزراعية على غرار الحشرة القرمزية مؤخرًا، يرى العديد من المختصين ضرورة اعتماد أنماط فلاحية مختلفة تراعي التغيرات المناخية والخصوصية البيئية التونسية، ويتم الخلط بين الإنتاج الفلاحي الطبيعي الكلاسيكي الذي يحن له التونسيون قبل الانفتاح في السبعينات والتوجه نحو الاقتصاد التصديري، والإنتاج الفلاحي البيولوجي الذي لايزال صاعدًا كـ"ترند" مثير في عالم الاستهلاك. في الأثناء، يذكر أن عائدات المنتجات البيولوجية سجلت مؤخرًا 617 مليون دينار في الفترة الممتدة بين ديسمبر/كانون الأول 2023 وفيفري/شباط 2024، متمثلة أساسًا في زيت الزيتون والتمور (البيولوجية).
الخلط الدائم بين ما هو بيولوجي وطبيعي
"المنتجات البيولوجوية هي بكل بساطة المنتجات التي تم إنتاجها باستعمال مواد طبيعية، أي أسمدة طبيعية (الغبار[2]) وأدوية بيولوجية هي الأخرى". هكذا يعرَف الخبير في السياسات العمومية الفلاحية فوزي الزياني الفلاحة البيولوجية في تصريح لـ"الترا تونس". يضيف "يجب طبعًا التمييز بين المواد البيولوجية أي الحاملة لعلامة "بيولوجي أو BIO"، وغيرها من المواد والمنتجات التي يدعي أصحابها أنها طبيعية".
فوزي الزياني (خبير في السياسات العمومية الفلاحية) لـ"الترا تونس": المنتجات البيولوجوية هي المنتجات التي تم إنتاجها باستعمال مواد طبيعية، أي أسمدة طبيعية وأدوية بيولوجية هي الأخرى
تجدر الإشارة طبعًا إلى أن هناك نصًا منظمًا لعمليات إسناد علامات الجودة الخصوصية وفق جملة من المعايير والاختبارات المجراة سلفًا، حسب ما جاء في منشور وكالة النهوض بالاستثمارات الفلاحية APIA. الشروط في الحقيقة لا تمنع تمامًا استعمال مواد كيميائية لكنها تحددها بقائمة للأدوية والأسمدة". هكذا كانت إجابة الباحثة ليلى الرياحي، ممثلة شبكة سيادة. لتضيف: "المشكل في إسناد العلامة الخضراء هي أنها أولًا تخضع لشروط وقع بلورتها في الفضاء الأوروبي وتبنّتها تونس في إطار تطوير الصادرات، وبالتالي ليس بالضرورة أنها ملائمة للفلاحة أو البيئة التونسية".
تقول لـ"الترا تونس": "هذه العلامة خلقت سوقًا تفترض الحصول على تأشيرة مسبقة "certification" حسب مواصفات السوق الأوروبية. علينا أيضًا أن نعلم أن المنتجات غير الحاملة لعلامة بيولوجي، لا يعني بالضرورة أنها غير طبيعية. في تونس، هناك الكثير من المنتجات الطبيعية، على سبيل الذكر أغلبية الزياتين التونسية هي غراسات بعلية بالأساس. هناك الكثير من صغار ومتوسطي الفلاحين الذين لا يزالون يعوّلون على "الغبار" للتسميد، وهناك مربي المواشي الذين لا يزالون يعوّلون على الرعي والترحال، وبالتالي حليب ولحوم مواشيها تعتبر منتجات طبيعية، ما يعني أن حرمان هذه المنتجات من العلامة المميزة "بيو" يجعل سعرها زهيدًا مقارنة بمنتجات أخرى حاصلة على العلامة".
ليلى الرياحي (باحثة) لـ"الترا تونس": المشكل في إسناد العلامة الخضراء هي أنها أولًا تخضع لشروط وقع بلورتها في الفضاء الأوروبي وتبنّتها تونس في إطار تطوير الصادرات، وبالتالي ليس بالضرورة أنها ملائمة للفلاحة أو البيئة التونسية
وبالمحصلة، ينتفع أصحاب المنتجات الحاملة للعلامة المميزة "Bio" بالنفاذ إلى السوق الأوروبية وبأريحية في التسعير داخليًا وخارجيًا، فيما يعاني أصحاب المنتجات الطبيعية (سواء اختيارًا عن وعي أو لقصر ذات اليد عن اقتناء الكيمياويات) من منافسة شديدة داخليًا مع المنتجات الأخرى التي ألوانها أكثر نضارة وهندستها أكثر استقامة بفضل المعالجة الجينية والمقويات والمكملات الكيميائية. ما يعني دفعهم نحو أحد النموذجين: إما الاقتراض واعتماد المكملات الغذائية والأدوية، أو محاولة الحصول على تأشيرة لمنتجاتهم نحو الأسواق الأوروبية، وهو ما ليس يسيرًا كما سنرى فيما يلي.
حتى التأشيرة البيولوجية.. صعبة المنال للتونسيين
"لا يتركون لك حلًا آخر، حاولت إنتاج عسل طبيعي جبلي لكن الإنتاج كان ضعيفًا نظرًا للجفاف وتقلص الغطاء النباتي، وبالتالي المردودية المالية لا تغطي التكاليف فاضطررت للتوجه نحو مؤسسة تمويل صغرى للحصول على قرض، بضمان من راتب أبي المتقاعد، لاقتناء مكملات حتى يتحسَن الإنتاج". هكذا أجابت مروى القاسمي (31 سنة) أصيلة منطقة سوق الأربعاء من ولاية جندوبة، صاحبة مشروع لتربية النحل، "الترا تونس".
فلاح شاب من جهة الكريب من ولاية سليانة يؤكد تحوّل علامة "البيو" إلى امتياز، باعتبار أنّ ذلك ليس في متناول صغار الفلاحين
للحصول على العلامة المميزة لمنتجات الفلاحة البيولوجية، يجب أن يكون المنتج مصادقًا عليه من قبل هيكل مراقبة وتصديق. ترى الباحثة ليلى الرياحي أن هذا ليس في متناول صغار الفلاحين: "ليس فقط على الفلاح الراغب في التحصل على العلامة أن لا يستعمل المواد والأدوية الكيميائية، لكن أيضًا محيطه، ضمن شعاع 30 كم من حقله، يجب أن يكون خاليًا من هذه المواد، ما يعني إقصاءً آليًا لصغار الفلاحين، فضلًا عن أن إجراءات الحصول على العلامة أو التأشيرة الخضراء طويلة ومكلفة".
ما يعني تحول علامة "البيو" إلى امتياز، وهو ما يؤكده بلال التريكي (34 سنة)، فلاح شاب من جهة الكريب من ولاية سليانة، صاحب إجازة في تقنيات الإنتاج الفلاحي من المدرسة العليا للفلاحة بالكاف، حيث يقول: "لدينا بعض الهكتارات مجهزة ببئر، هي ميراث عائلي، حاولت عند تخرّجي تحويلها إلى ضيعة بيولوجية، استئناسًا بما رأيته في المعارض التي شاركت بها والإغراء الذي تحمله الفلاحة البيولوجية الواعدة. انطلقت في الإجراءات وعند قدوم الخبير، الذي دفعت بنفسي أتعاب زيارته والتي كانت باهظة نسبيًا، قام بمعاينة أرضي والأراضي المحيطة وأخذ عينات من التراب والماء، ليخرج بتقرير سلبي بعد أيام يفيد بأن المائدة المائية لكل المنطقة تحتوي على نسب عالية من ترسبات الأدوية التي سبق استعمالها، كما أن الأرض تفتقر لمعدلات الأملاح المطلوبة، وعليه طلب عدم استغلال الأرض لسنتين على الأقل، وهو ما لا نستطيعه، إذ هي مورد رزقنا الوحيد".
الانتقال الفلاحي أو الإيكولوجي
تدخل كمتسوَق أحد المغازات أو مراكز التسَوق الكبرى لتجد أجنحة مخصصة للـ "BIO" أو "البيولوجي"، مع ارتفاع ملحوظ في أسعار هذه المنتجات، وسط تقبّل واضح من المستهلكين، أي أنه صار هناك نوع من "مشروعية الغلاء" للمنتجات الحاملة لهذه العلامة، على أساس أنّ هذه المنتجات خالية من المواد الحافظة، أو أنَه لم يتمَ الاعتماد على الأسمدة أو المواد الكيميائية لإنتاجها. لكنَ المعلوم أنّ أسعار البضائع والمنتجات تحدد بتكلفة إنتاجها، فلماذا ترتفع أسعار المنتجات الـ"بيو/Bio" إذا كانت تكلفة إنتاجها أقل؟ باعتبار أنه تم الاستغناء عن المواد الحافظة والأسمدة الكيميائية في إنتاجها، عكس المواد الأخرى المتداولة من نفس النوع؟
صار هناك نوع من "مشروعية الغلاء" للمنتجات الحاملة لعلامة "البيولوجي"، وسط تقبّل واضح من المستهلكين، لكن لماذا ترتفع أسعارها إذا كانت تكلفة إنتاجها أقل؟
يجيب فوزي الزياني عن سؤال لـ"الترا تونس": "هذا من الطبيعي لأن الإنتاج البيولوجي عادة ما يكون أقل من الإنتاج الذي يعتمد الكيمياويات، فضلًا عن أن الأسمدة الطبيعية أغلى من الأسمدة الكيميائية". هنا ربما يأتي دور الدولة التعديلي المحمود، ربما كإعفاء الأسمدة الطبيعية ومنتجيها من بعض الأداءات أو ربما بعض منح الإنتاج. يضيف محدثنا: "في الماضي القريب، أي منذ حوالي 10 – 15 سنة كان هناك ما يناهز عن 900 مرشد فلاحي، أما الآن، فلا يتجاوز عدد المرشدين الفلاحيين الـ 300 مرشد فلاحي".
ينادي الزياني بضرورة تكثيف دورات التكوين والإرشاد الفلاحيين، علاوة على تعصير وتطوير تكوين المرشدين أنفسهم، نظرًا لتطوَر العلوم المرتبطة بالفلاحة كالجينات والبذور والأدوية ووسائل الريّ. من المعلوم أن البذور الأصلية لها قدرة على التأقلم مع البيئة الحاضنة لها، وذلك لقدرتها على البقاء على مرّ السنين ومواجهة شتى التقلبات المناخية والبيئية، ما يجعلها مثلًا أقل استهلاكًا للمياه والأملاح الموجودة في التربة مقارنة مع البذور المعدلة جينيًا. بالتالي، لا تتطلب هذه البذور الكثير من الأدوية، فتكون أكثر محافظة على التربة وأقل استهلاكًا للمياه، كما يمكن إعادة استخراج بذور أخرى من محصولها لإعادة زرعها من جديد في الموسم الموالي.. "هي مسألة سياسة عامة وخيارات استراتيجية للدولة وليست مجرد اختيارات فردية من الفلاحين"، وفقه.
ليلى الرياحي (باحثة) لـ"الترا تونس": مدى بيولوجية المنتج ليس أولوية الآن بالمقارنة بالتحديات الأخرى المطروحة التي تواجهها الفلاحة التونسية، مثل إنتاج مواد غذائية متأقلمة مع مناخ البلاد
في المقابل، ترى ليلى الرياحي أن مدى بيولوجية المنتج ليس أولوية الآن بالمقارنة بالتحديات الأخرى المطروحة التي تواجهها الفلاحة التونسية: "الأولوية الآن هي إنتاج مواد غذائية متأقلمة مع مناخ البلاد، صحية للمواطنين، وليس مهما لون العلامة بقدر ما ستوفره هذه العلامة، مثلًا، لمَ لا توجد علامة منتج فلاحي في طور الاستدامة مثلًا؟ أنا كمواطنة أريد شراء منتجات تراعي مقدرتي الشرائية، لكن أيضًا أريد أن أشتري من فلاح لديه وعي أيكولوجي وهو في طور التحول الإيكولوجي".
في السياق ذاته، يتبنى الزياني أيضًا وجهة النظر المناخية: "أدى استعمال المبيدات الكيميائية إلى اختلال النظام والسلسلة الغذائية الطبيعية، والنتيجة هي ما نراه من ظهور أنواع جديدة من الأمراض كالحشرة القرمزية مؤخرًا". يذكر أن مساحة الأراضي المعدة للإنتاج البيولوجي في تونس تقارب 400 ألف هكتار، تنتج أساسًا زيت الزيتون، التمور، التين الشوكي، وبعض الغلال والخضر.. المعدة أساسًا للتصدير. ما يعني، وفق ما جاء على لسان ليلى الرياحي، "أن قصة (البيو) في تونس ليست إلا عملية شحذ لمكينة التصدير والنفاذ للسوق الأوروبي قصد توفير العملة الصعبة لتوريد حاجيات غذائية أخرى أقل جودة".
المصادر
[1] Germs, Guns and Steel
[2] هي بالأساس مجموع بقايا فضلات المواشي مع ما تبقى من علفها، بعد التحلل في التربة.