إبرة، أو شيء ما يشبهها، تخترق جلد أنفك حتّى تلامس داخله، وتستدر قطرات من الدم والدمع، وجع يلازم مكان الثقب ويزداد حينما تسحب الإبرة لتعوّضها بقرط، وجع يتهاوى حينما يكتمل "البيرسنغ"، وتزيّن نقطة من الضوء أنفك.
ما سبق وصف لتجربة شخصية عايشتها حينما قرّرتُ أن أزيّن أنفي بحلق متوهّج بحثًا عن التغيير، هي عملية لا تخلو من ألم فالتعبير عن الذات ليس بالأمر الهين في الغالب، سواء تعلّق الأمر بقول أو فعل.
يلجأ البعض إلى الـ"بيرسينغ" ليتمايزوا عن غيرهم ويعبروا عن ذواتهم المتمرّدة وهو تعبير عن الذات وعن تمثّلات الفرد لجسده ولمحيطه
والـ"بيرسنغ" كما الوشم تعبير عن الذات وعن تمثّلات الفرد لجسده ولمحيطه، فأن تختار مكان الثقب وشكل الحلق ولونه ليس بالأمر الاعتباطي فهو وليد قراءات ذاتية وموضوعية في بعض الأحيان.
وروايات الذات، عبر ثقب أجزاء من الجسم، تختلف من شخص إلى آخر، ومن ثقب الأنف إلى ثقب الحاجبين أو الوجنتين أو أسفل البطن أو اللسان أو غضروف الأذن أو جفن العينين تتعدّد القراءات.
اقرأ/ي أيضًا: الوشم في تونس.. من سردية القبلية إلى روايات الذات
تمرّد..
وبعيدًا عن الزينة، يلجأ البعض إلى الـ"بيرسينغ" ليتمايزوا عن غيرهم ويعبروا عن ذواتهم المتمرّدة على غرار وصال وهي شابة تونسية تبلغ من العمر أربعة وعشرين سنة وتزيّن جسدها بأربعة ثقوب.
وعن قصّتها مع هذه الزينة تقول "وإن كان الثقوب لا تخلو من جانب جمالي فإنني لا أحصرها في الزينة فقط بل هي بالنسبة لي تعبير عن الرفض وجزء من شخصيتي المتمرّدة، إذ لم يكن من السهل أن أجعل عائلتي تتعايش مع مظهري الذي يبدو غريبًا لسكّان حيّنا".
تقول وصال إن "البيرسينغ" يعبّر عن شخصيتها المتمردة (صورة تقريبية/Getty)
وتضيف في حديثها لـ"ألترا تونس": "ليس من الهيّن أن تألف تجاهل التعليقات التي تقدح في أخلاقك وشرفك وأن تسكت على اتهامك بأنّك من الملحدين وعبدة الشياطين ولكن هوسي بالـ"برسينغ" جعلني أغض الطرف عن هذه الأمور وأتعامل معها بسطحية".
وصال (24 سنة): ليس من الهيّن أن تتجاهل التعليقات التي تقدح في أخلاقك وشرفك وأن تسكت على اتهامك بأنّك من الملحدين وعبدة الشياطين
وتتابع بالقول " الأمر ليس مجرّد زينة بل هو فن في نظري فاختيار مكان الثقب ولون الحلق وشكله وطريقة وضعه فن، فالعملية ليست اعتباطية ولا تخلو من بحث ومن أجل ذلك أتحمّل غرز الإبر في جلدي فمع كل ألم أتجاوز نظرة المجتمع لي".
ثقب في الأنف، وثقب عند الحاجب الأيمن، وثقب عند الشفة السفلى وثقب في سرّتها وثقب في غضروف الأذن، ثقوب تشير محدّثتنا إلى أنّها مرتبطة بنقلات نوعية في حياتها إما محاولة لتجاوز خيبة أو الاحتفاء بنجاح.
اختلاف..
وإلى جانب التمرّد على كل ما هو نمطي وسائد والخروج عن الأطر الذي سطّرها المجتمع، يرى ربيع في الـ"بيرسينغ" علامة للتمايز والاختلاف عن الآخرين. ويقول الشاب الذي يبلغ من العمر سبعة وعشرين سنة، إن قصّته مع "البرسينغ" وليدة ولعه بعالم الروك والميتال اللذين تأثرا بهما على مستوى الشكل والأزياء وكان يتابع تفاصيلهما بشغف، على حدّ قوله.
ربيع (27 سنة): حينما ثقبتُ أذني أول مرة تعرّضتُ إلى نعوت بشعة ووصل الأمر حدّ تعنيفي من والدي ولكنّي تمسّكت بالحلق
ويشير إلى أنّ هيئته وزينته لا تعجب والديه ولا جيرانه وتجعله عرضة للسخرية والتهكم وأحيانًا التهجم من قبل بعض المتزمتين الذي لا يؤمنون بالاختلاف، ولكنّ ذلك لم يزعزع اقتناعه بما يفعله قيد أنملة، وفق تعبيره.
يرى ربيع في الـ"بيرسينغ" علامة للتمايز والاختلاف عن الآخرين (صورة تقريبية/Getty)
ويضيف "رغم ما أتعرّض إليها من انتقادات وضغط من عائلتي إلا أنّني لم أرضخ ولن أفعل وأنا متشبث بكل "بيرسينغ" في جسدي، وسأضيف ثقوبًا أخرى".
ويتابع بالقول "حينما ثقبتُ أذني أول مرة تعرّضتُ إلى نعوت بشعة ووصل الأمر حدّ تعنيفي من قبل والدي، ولكنّي تمسّكت بالحلق، بل وأضفتُ ثقوبًا أخرى عند الحاجبين وفي فتحة الأنف وفي اللسان وكلّما احتدّت الانتقادات كلما زدت يقينًا أنني مختلف عن الآخرين".
اقرأ/ي أيضًا: لماذا تتخفّى بعض الفتيات وراء "هيئة الذكور"؟
عن عملية الـ"بيرستغ"..
وللحديث عن الـ"بيرسينغ" وتفاصيل العملية، تواصل "ألترا تونس" مع محمد علي بن عمار وهو مختصّ فيها يمارسها منذ ما يزيد عن الخمس سنوات، ويرى أنّها نابعة من ثقافة "الروك" و"الميتال" وتعبيرة عن التمرّد.
وكانت أوّل مصافحة له مع البرسينغ في سن الثامنة عشر، حينما قام بثق فمّه وأمّه ترقبه وتتساءل عمّا يفعله ليحقق لرغبته رغم الألم والدم، ليبلغ عمر ولعه بهذه الزينة 12 سنة، الخمس الأخيرة منها مارس فيها الـ"بيرسينغ" مهنة، وفق قوله.
المواد المُستعملة في "البيرسينغ" (صفحة محمد علي بن عمار على فيسبوك)
ويضيف أنّه يمارس هذه المهنة لأنه مولع بها من ناحية ولأنه يريد كسب مزيد من المال من ناحية أخرى، مشيرًا إلى انّه تلقّى تكوينًا ذاتيًا في المجال عبر الانترنت.
وعن مشاكل التعقيم والنظافة، يقول أنا مهووس بالنظافة وأحرص على كل التفاصيل لتجنّب أية مشاكل فأنا لا أثقب في الشارع وألتزم بارتداء القفازات وأستعمل مطهرًا قبل الثقب وسائلًا بعد العملية".
ويتابع بالقول "في مرحلة ما استعملت البنج الموضعي لكن لم يكن له أي تأثير على اعتبار لا يخترق الأدمة وفي الحالتين سيشعر الحريف بالألم أثناء الثقب"، مشيرًا إلى أنّه يستعمل معادن جراحية غير قابلة للأكسدة ولا تسبب أية مضاعفات.
محمد علي بن عمار (مختص في "البيرسينغ"): أغلب عمليات الثقب تكون في الأنف والأذن وأحيانًا السرة،والبقية في الحاجبين وفتحة الأنف والوجنتين والرقبة واللسان، وكل جسم يتفاعل بطريقته مع عملية الثقب
وعن اختيار أماكن الثقب دون التسبب في أضرار ، يلفت إلى أنّه من الضروري أن يكون المختص في عملية الثقب على دراية بتفاصيل جسد الإنسان، وان لا يكون مكان الـ"بيرسينغ" حيويًا أو يحتوي على كثير من العروق، على حد قوله.
ينتشر وضع "البيرسينغ" في السرّة لدى الفتيات (صفحة محمد علي بن عمار على فيسبوك)
وعن الفئة العمرية التي تقبل على عملية الثقب، يقول محدّثنا إنّها الفئة الشبابية وأن الأعمار تتراوح في الغالب بين 15 و35 سنة لدى الجنسين، موضّحًا أن لكل شخص رؤيته لهذه العملية فهناك من يعتبرها مجرّد زينة ومن يعتبرها أسلوب حياة وهناك من يتأثر بفنان ومن يقلدّ صديقًا وهكذا.
ويضيف أن "أغلب عمليات الثقب تكون في الأنف والأذن وأحيانًا السرة، البقية في الحاجبين وفتحة الأنف والوجنتين والرقبة واللسان، مع العلم أن كل جسم يتفاعل بطريقته مع الحلقة بعد عملية الثقب"، مشيرًا إلى أنّ المختص في الثقب يجب أن يتحلّى بسعة البال لأن الأمر يتطلّب أحيانًا تهدئة الحريف وطمأنته، وفق قوله.
اقرأ/ي أيضًا:
اللادينيون في تونس.. بين السرّية والخطى نحو الاعتراف
المواليد خارج إطار الزواج.."إذا وصفونا بأبناء الحرام.. سنقول نحن آدميون"