عن تحرير الفضاء العامّ والخاصّ مرورًا بتحرير الجسد، تتحدّث رئيسة الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات يسرا فراوس لـ"الترا تونس" في هذا الحوار.
من عضوة في الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات إلى رئيسة لها في أفريل/ نيسان الماضي، تهوي المحامية المتخصّصة في الدفاع عن ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان بفأسها على جذوع الطمأنينة السّاذجة والقناعات المتوارثة الجاهزة. هو حوار عن الوضع الرّاهن للحريات العامّة والفردية وخاصّة حقوق المرأة والأقليّات بتونس يحضر فيه الحجاب والجسد والأقليات والتشريعات والإرادة السياسية ضمن تساؤلات مشفوعة ببراهين قوامها كلّ قوامها إنسانية الإنسان.
يسرا فراوس لـ"الترا تونس": في كل المجتمعات عندما يضيق الحال اقتصاديًا يزداد التخلّف
اقرأ/ي أيضًا: المساواة في الإرث: إصلاح للفكر الدّيني لا حرب عليه
بوصفك الرئيسة المنتخبة حديثًا للجمعية التونسية للنّساء الدّيمقراطيات، كيف توصّفين الوضع الرّاهن لحقوق المرأة التونسية ما بعد دستور 2014 وجملة التشريعات القانونية الجديدة؟
برأيي، أنّه في علاقة بحقوق النساء تحديدًا، يمكننا أن نتوقّف عند مستويين اثنين لراهن حقوق المرأة التونسية. المستوى الأوّل يتمثل في الإطار العامّ للحقوق والحريات، حيث أنّنا قطعنا كدولة منذ 2011 أشواطًا كبيرة في هذا الاتّجاه، خاصة فيما يتعلّق بتحرير الفضاء العامّ وتكريس الحريات العامة على غرار تكوين الأحزاب والجمعيات وحرية التعبير في حدود معيّنة طبعًا، لأن الانتهاكات موجودة. لكن يمكن القول إنّ المناخ عمومًا مناخ حريات عامة، وفي هذا الصّدد، تتمتّع النساء كسائر المواطنين بهذه الحريات. في المقابل، تمرّ البلاد بأزمة اقتصادية خانقة تلقي بظلالها خاصّة على الفئات الأكثر هشاشة أي النساء والشباب والأطفال والمعوزين وكبار السنّ وذوي الميولات والانتماءات الجنسية المختلفة. وفي السّياق ذاته، تؤكّد كل المؤشرات استفحال تأنيث الفقر في تونس حيث تكون الحقوق الاقتصادية أضعف الحقوق التي تتمتّع بها المرأة. فلو قارنا اليوم مثلًا نسبة النساء المتمتعات بالتغطية الاجتماعية بنسبة نظرائهنّ الرجال سنجد أنّ النساء التونسيات غير آمنات اجتماعيًا.
أمّا المستوى الثاني، فيتميّز بوجود سرعتين مختلفتين للتحرّك. يمثلّ تغيّر وجه الإطار التشريعي العام بعد دستور 2014 السرعة الأولى، كونه سمح بتوالي جملة من المكتسبات الجديدة على غرار قانون منع الاتجار بالأشخاص، وإرساء التناصف الأفقي والعمودي في القائمات الانتخابية الحزبية، وإصدار القانون الشامل المتعلق بمناهضة العنف، وتأسيس لجنة الحريات الفردية والمساواة في الإرث من قبل رئاسة الجمهورية. أي أنّنا شهدنا تعزيزًا مهمًّا للمكتسبات باعتبار القانون محرّكًا أساسيًّا للتغيير داخل المجتمعات.
وترتبط السرعة الثانية بتواصل غياب نصوص متعلّقة بالحريات الفردية للنساء أو وجود تهديد للمكتسبات المتوفّرة فعلًا، وعلى رأسها الحقوق والحريات الجنسية والإنجابية. فعندما نرى اليوم توجّهًا نحو المسّ من الحقوق الإنجابية نفهم أن هناك استهدافًا للنساء في أجسادهنّ. وعندما نشهد تراجع العقليات بانتشار فكرة "جسد المرأة عورة" وانتشار الحجاب ليصبح منظومة اجتماعية كاملة بسبب المدارس القرآنية والمدارس الدينية لا خيارًا حقيقيًا للنساء، نشعر أن هناك ضغطًا مجتمعيًا في اتّجاه أن تكون كل النساء بشكل منمّط واحد. وعندما نضيف إلى كلّ ما سبق انقطاع وسائل منع الحمل وغياب البنية التحتية الخاصّة بتقديم الخدمات الصحية الجسدية للنساء وتراجع الوعي لدى النساء بحقوقهن، وضعف وصول النساء إلى العدالة، نفهم أنه مقابل سرعة المشرّع السّائر في اتجاه محترم جدًا لتطبيق الدستور توجد سرعة أخرى تجذب المجتمع إلى الخلف.
لو تشرحين أكثر أسباب هذه المفارقة بين التطوّر على المستوى التشريعي والتراجع في الوعي المجتمعي كما وصفته؟
في كل المجتمعات عندما يضيق الحال اقتصاديًا يزداد التخلّف. فواقع التهميش يضيّق مساحة التفكير والنقد لدى الناس. وهكذا نجد أنّه بدل أن يفكر المرء في علاقته بجسده ورفاهه الاجتماعي والجنسي يصبح كلّ همّه التفكير في كسب قوت يومه، ومن هنا يتسرّب التخلّف.
في هذا الصّدد، أودّ معرفة رأيك في استخدام حجّة التوقيت للتصدّي لكل الأصوات المنادية بالحريات الفردية. وخاصة فيما يتعلّق بالمساواة في الإرث مؤخّرًا شهدنا استعمال المناوئين للمطلب حجّة "موش وقتو" لرفضه. فكيف تتعامل الجمعية مع النساء الرافضات للمساواة في الإرث مثلًا؟
للّتنسيب فقط، أغلبية من يستخدمون حجّة "موش وقتو" ليسوا من النساء. فالمرأة الرافضة للمساواة في الإرث تتعلّل في أقصى الحالات بالخوف من "مخالفة شرع الله" لكنّها لا تقول إنّها ترفض المساواة لذاتها. بالنسبة لنا كجمعية، لا تمثّل حجّة التوقيت أمرًا مستجدًّا. ففي عام 2000 كنّا اقترحنا بالخصوص عريضة للتوقيع من قبل هياكل المؤسسات الوطنية لا عموم المواطنين، فووجهنا برفض الأحزاب وبرلمانيين وبرلمانيات للأمر بتعلّة أن الظرف السياسي هو ظرف قمع واستبداد وبالتالي يجب أوّلًا محاربة القمع حتى انتفاء الاستبداد وحينها نتحدث عن المساواة فقي الإرث. لكن نفس هذه الأطراف تواجهنا اليوم بعد انتفاء الاستبداد بالرفض بتعلّة أولوية الاهتمام بالوضع الاقتصادي والاجتماعي. لكنّ مسارنا داخل الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، كان دائمًا مسار العقل ونقد الواقع. حيث قمنا في 2004، بنشر 15 برهانًا على المساواة في الإرث مستندة طبعًا على مرجعيتنا أي كونية حقوق الإنسان بدرجة أولى وعلى الوضع الاقتصادي الاجتماعي لتونس. كما أنجزنا عام 2005 دراسة مع جمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية والتي أثبتت أنّ المجتمع التونسي قد تجاوز بالفعل الأحزاب السياسية والمشرّع، بفضل التعليم وخروج النساء للعمل وتطور الوعي بالآليات التشريعية الموجودة. حيث سجّلنا في حالات عديدة قيام الأب نفسه بتطبيق المساواة عبر القيام بهبة متساوية بين أبنائه وبناته. وبناء على ذلك، قام المشرّع في ذلك الوقت بإصلاح تشريعي جزئي للتشجيع على هذا الاتجاه الاجتماعي بإلغاء الرسوم الجبائية على الهبة.
يسرا فراوس لـ"الترا تونس": لو كان هناك ملفّ يجب أن يفتح اليوم فهو النويات الأخرى التي تشكّل المجتمع التونسي غير مؤسسة الزواج وهو ملفّ يتعلّق بحرية الجسد أي تحرير الأجساد
وماذا عن اليوم؟ كيف تنوون مواجهة المناوئين لمطلب المساواة في الإرث بعد قيامكم بالتحركات الميدانية؟
اليوم وفي 2018، يقال لنا "موش وقتو" مجدّدًا بل وما هو أخطر من ذلك. حيث يتعلّل الرافضون بأنّ "عقيدتنا لا تسمح" و"هذا مسّ بحدود الله". ونحن في المقابل نواجههم ببراهين جديدة حيث قمنا بتحيين الـ15 برهانًا ونحن بصدد إعداد دراسة جديدة حول الواقع الاقتصادي والاجتماعي للنساء بدءًا من العائلة أي مساهمة النساء في إنتاج الثورة. إذ أنّنا نعتبر أنه ليس من المعقول أن تشارك النساء فعلًا في إنتاج الثروة ولا يتقاسمنها بنفس القدر مع الرجال، فنحن هنا أمام تمييز إذن عبر التوزيع غير المتساوي للثروة. كما أنّ الجمعية اشتغلت على مشروع قانون ستتوجه به إلى لجنة الحريات الفردية يتعلق بالمساواة في الإرث بين النساء والرجال وبين المختلفين دينيًا لأنه لدينا في تونس مشكل إقصاء المختلفين دينيًا من الإرث والذي مازالت المحاكم التونسية تطبقه. كما يتواصل التمييز بين الابن الطبيعي والابن المولود داخل مؤسسة الزواج على مستوى الإرث وهو تمييز غير مقبول بمقتضى مجلة حقوق الطفل واستنادًا على مبدإ المساواة للنساء والرجال وللجميع. فما يهمّنا ونلتقي فيه مع مطالب واستحقاقات النشطاء جميعهم هو ألاّ يتجزّأ مبدأ المساواة. وقد أنجزت الجمعية مشروع القانون بمعية أستاذي القانون علي المزغني ومحمود يعقوب إضافة إلى لجنة الجمعية التي تضم فيمن تضمّ الأستاذتين سناء بن عاشور وحفيظة شقير.
ما دمت قد ذكرت الأقليات الدينية، فما رأيك في بعض الأقليات التي تقدّم أعذارًا دينية هي بدورها لرفض المساواة في الإرث كما جاء على لسان بعض المنتمين إلى الأقلية اليهودية؟
بالنسبة لنا، اليهود في تونس وغيرهم تطبّق عليهم جميعا أحكام مجلة الأحوال الشخصية. فتونس ليست دولة طائفية وإنّما دولة مدنية منذ 1956 ومنذ توحيد المحاكم والتشريع. وهما خطوتان نقلتانا إلى مجتمع مدني بأتمّ معنى الكلمة ودولة حديثة غير قائمة لا على أطياف ولا قبائل وعروش. فاليوم لا يمكننا الردّة والرجوع إلى الخلف. من يرفض القانون له ألاّ يطبّقه بشكل فرديّ و"يمارس حقّه في مخالفة القانون". لكنّ القانون في ذاته يكون مبنيًّا على أن كلّ المواطنين والمواطنات متساوون في الحقوق وهذا المنطق الذي ندفع باتجاهه.
اقرأ/ي أيضًا: بشرى بلحاج حميدة: نحو المساواة بين المرأة والرجل في النفقة والحضانة
إلى أيّ حدّ يتمّ اليوم تطبيق أحكام دستور 2014 على مستوى الحريات الفردية وحقوق المرأة خاصّة؟ علمًا وأنّ العديد من الخبراء والنشطاء يقولون إنّ كثيرًا من فصول الدستور تحمل تناقضات وقابلة للتأويل؟
من يقولون إنّ الدستور حمّال أوجه هم مخطئون برأيي. أوّلًا، لأن الدستور لا يقرأ كنصّ معزول بل كوحدة منسجمة. ثانيًا، يقرأ الدستور أيضا استنادًا على النقاش الذي دار حوله خلال 3 سنوات وهي نقاشات مسجلة وتوثّق لسياق كتابة كلّ فصل. ثالثًا، كل مفردة قانونية في الدستور أو غيره تفسر أيضًا بالاعتماد إمّا على شرح القانون أو على النصوص الدولية والآليات الدولية لحقوق الإنسان. مثلًا، في مسألة حرية الضمير، يقول الدستور إنّ "الدولة راعية للدين" كما يقول إنّها "كافلة لحرية الضمير". ولكي نفهم ذلك يجب أن نعرف أنّ حرية الضمير منصوص عليها في المادة الرابعة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والتّي وإن سمحت بالاستثناءات فجعلتها وفق ضوابط معينة كأن تكون الدولة الديمقراطية وألا يمسّ التقييد من جوهر الحقّ. وهذا يعني أنّه حتى في حالة الحرب لا يمكن أن نقول للإنسان تديّن أو لا تتدين بالقوة، مارس شعائر دينية أو لا تمارسه... فنحن نتحدث عن حرية غير قابلة للتقييد (intangible) لا يمكن المسّ بها حتّى في حالة الحرب.
المشكل الفعلي الذي يطرحه الدستور هو مشكل إنفاذه عن طريق تشريعات تتناسب مع روح الدستور. أيّ إنفاذه عبر إصدار قوانين تسدّ مواطن الفراغ والضعف التشريعيّين. مثلا الفصل 46 من الدستور تم تفعليه بإصدار القانون الأساسي عدد 58 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة. لكن حرية الضمير لا يوجد قانون تونسي يكفلها، بل على العكس هناك نصوص قانونية يمكن أن تستعمل ضدّها وهي بصدد الاستعمال فعلًا. وحرية التصرّف في الجسد هناك فراغ وسكوت تشريعيّان عنها، وكذلك حرية الفكر والمعتقد، حرية الإبداع، وحرية البحث الأكاديمي. وهذا الفراغ يهمّ الحريات الفردية كما يهم الحقوق الأخرى كالحق في الصحّة الّذي لا توجد مجلة وطنية تعنى به. لقد سعدنا بإنجاز الدستور لأنه كان علامة لانتقال تونس نحو جمهورية ثانية قائمة على أسس واضحة أهمّها المساواة وكونية حقوق الإنسان السامية، وفق تعبير الدستور نفسه، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والحريات العامة والفردية والتي ينصّ عليها دستور 2014 لأوّل مرّة بوضوح في الفصل 21. لكنّ الرهان اليوم هو كيف ستترجم هذه الأحكام إلى نصوص قانونية تؤطر الحريات، وكيف يمكن للسلطات السياسية أن تقرأ الدستور وتنفّذه دون أن تحاول تأويله. فالمطلوب منها قراءته حرفيًا لأننا رأينا وزير الداخلية وقد اقتصّ من الدستور أجزاء وصبغ عليه قراءته في أجزاء أخرى لمجرّد أنه اعتاد في وزارة الداخلية أن يتعامل مع دستور الجمهورية التونسية بهذا الشكل ويواصل في نفس منهج التفكير و"العقيدة" القمعية لا الأمنية.
رئيسة جمعية النساء الديمقراطيات لـ"الترا تونس": صحيح أنّ الزواج حقّ من حقوق الإنسان لكن أستغرب المطالبة به
لو تشرحين أكثر ماذا تقصدين بمواصلة اعتماد العقيدة القمعية؟
أقول "القمعية" لأننا نتذكر ما عشناه في تونس سابقًا عندما كان كل المعارضين السياسيين يتعرّضون للتشويه وأحيانًا للسجن وتنتهك حرّياتهم الفردية في السجن نفسه لأنّ وزارة الداخلية تملك عنهم معطيات تخصّ حياتهم الخاصّة. وكان انتهاك الحريات الفردية منفذًا دائمًا إما لتصفية المعارضين والناشطين الحقوقيين أو لابتزاز الناس. لأن الدولة عندما تفتح الباب أمام انتهاج هذا الأسلوب فإن الأمني البسيط يستغل الفرصة للحصول على رشوة بابتزاز الناس عن طريق حرياتهم الفردية.
فهنا إذن مكامن الضعف تتجاوز الدستور برأيي إلى الإرادة السياسية التي يجب أن يشترك فيها كل الأطراف السياسية. فبينما تسير رئاسة الجمهورية نحو توجّهات معاصرة ومزيد تكريس تحديث المجتمع إلى آخره، نجد حكومة وسياسة جزائية كاملة مخالفة لهذا التوجه العام للدستور ورئاسة الجمهورية. وهنا تظهر أهمية وحدة الدولة، كما في القوانين، على مستوى الممارسة السياسية والتي تتعلق خاصة بملف الحريات الفردية. ولا ننسى أن الجمعية كان قد أصدرت بيانًا بخصوص ما بات يعرف بـ"حادثة القبلة" بعنوان "ارفعوا أياديكم عن أجساد النساء". فلن نقبل اليوم مواصلة التحكّم في الحياة الخاصة للنساء والرجال والانفلاتات التي نراها. مثلًا عندما تنشر السلطات الأمنية والسياسية فيديوهات مفبركة أو غير مفبركة للنساء في حالة سكر وغيرها، هذا يدفع بالمجتمع إلى الرجعية ومزيد اعتناق الأفكار المتخلفة التي تعتبر أن من حق المجموعة فرض اختياراتها على الفرد. والأصل أن المجموعة تتكون من أفراد مختلفين وتمثل خلاصة التناغم بينهم.
تحدثت عن الجسد وحرية التصرّف فيه، ولا يمكننا الخوض في هذا الموضوع دون تنزيله في سياق السجال العالمي بين تيارين مختلفين، حتى داخل المنظومة الحقوقية نفسها، بين من يعتبر الدّعارة انتهاكًا لكرامة النساء ومن يراها حرية في التصرف في الجسد ويسمّيها "عمل جنس". فأين الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات من هذا النقاش وهل تنتظر أن يكون له صدى داخل لجنة الحريات الفردية؟
نحن فعلًا في قلب النقاش ونطرح الموضوع بهذا الشكل بين كونه استغلالًا لأجساد النساء من جهة وبين أنه يمكن أن يكون حرية فردية أحيانًا. لكن ما نتصدى له كجمعية بكل وضوح هو غلق "محلاّت ممارسة الجنس بمقابل" عنوة من قبل السلطات أو من قبل أطراف خارجة عن القانون. لأن من شأن هذا التصرّف أن يفتح الباب أمام الممارسة غير المنظمة للجنس بمقابل وقد رأينا فعلًا ما بات يعرف بالسوق السوداء التي تباع فيها أجساد وتستغلّ بشكل أعنف ممّا يعرّض حياتهن للخطر. نحن إذن مع تنظيم القطاع وبقائه تحت إشراف الدولة ورعايتها.
لهذا النقاش وجاهة كبرى لكن أعتقد أنه غير مطروح للأسف على لجنة الحريات لفردية لان أغلب النقاشات داخلها تدور ضمن منطق مؤسسة العائلة. فمجلة الأحوال الشخصية لا تعترف بأي علاقة خارجة عن الزواج وبالتالي كل العلاقات الأخرى بمقابل أو دونه والتي لا تقوم على عقد الصداق ينكرها التشريع تمامًا. وكنا نتمنى أن يكون للجنة موقف قانوني من وضعية الأمهات العازبات والمساكنة (Concubinage). لو كان هناك ملفّ يجب أن يفتح اليوم فهو النويات (جمع نواة) الأخرى التي تشكّل المجتمع التونسي غير مؤسسة الزواج. وهو ملفّ يتعلّق بحرية الجسد أي تحرير أجساد النساء والرجال على قيد المساواة. يجب أن يفهم الجميع اليوم أن سن الزواج تأخر وأنه من حق النساء والرجال ممارسة حياة جنسية حرة من غير زواج خاصة في الوضع الاقتصادي الذي جعل الزواج صعبًا. وهذا أمر يجب أن تطرحه الدولة من خلال سياساتها العامة وإلا كيف سيتمّ تشجيع المواطنة والفردانية إذا كان الرجل والمرأة يعيشان وسط عائلاتها الموسعة أين لا يمكنهما أن يمتلكا حبيبًا أو حبيبة ويضطرّان للعيش خلسة وامتلاك حياة ثانية والغرق في دوّامة النفاق الاجتماعي. فلنا أن نتساءل من الناحية السوسيولوجية والاجتماعية والفلسفية حتى: إلى أين نريد أن نمضي بالجسد البشري في تونس؟ هل نريده جسدًا يمارس العنف أو يكون ضحيته فقط؟ أم نريده جسدًا متهالكًا بالمخدرات؟ أم نريده جسدًا حرًا طليقًا يمارس حاجياته البيولوجية ولذاته البشرية؟ أم نريده جسدًا مقموعًا؟ وأعتقد أنّ التوجّه العامّ الذي نراه في تونس هو تكريس الجسد المقموع.
يسرا فراوس لـ"الترا تونس": المهر فيه استنقاص للنساء ودونية بشكل كبير عبر القول إن البناء الذي هو لذة جنسية بين حبيبين يباع ويشترى بثمن
عندما نتحدّث عن حرية التصرف في الجسد لا يسعنا أن نغفل نوعًا آخر من العلاقات غير الثنائية وهي التعدّد. وإن كنّا غالبًا ما نتحدّث عن تعدّد الزوجات من منطلق ديني يسمح للرجل بالتعدّد ولا يسمح للمرأة بذلك. وقد عاد الحديث مجدّدًا عن تعدّد الزوجات في الفترة الأخيرة. فكيف يمكن للجمعية أن تتعامل مع مواطن تونسي يؤمن بالتعدد ويمارسه خلافًا للقانون مستخدمًا الحجة الدينية أو الحقوقية بقوله "بدني وأنا حرّ فيه"؟
أوّلًا هل هذه الحرية مسؤولة؟ فمن المعلوم أنّ ضوابط الحريات عندما تعطى للسفهاء تصبح مطية لضرب الحريات نفسها. وهذا النقاش مشابه تقريبًا للنقاش حول الحجاب. إذ أنّ هذا الأخير باعتباره إلزامًا دينيًا لا يمكن أن يكون ممارسة للحرية لأن الإلزام والحرية يتعارضان. ربّما تكون الحرية داخل المنظومة الدينية عندما تختار المرأة أن تتحجّب أو لا، لكن عندما تنظر لها من خارج المنظومة الدينية لا يمكن مطلقًا أن يكون الحجاب حرية. وقياسًا على ذلك، كيف يمكن القول إنّه في إطار حرية التصرف في الجسد من حقي أن يكون لدي زوجتان أو أكثر؟ هذا الشخص نفسه لو سألناه هل يحق للمرأة الزواج برجلين أو أربعة فسيجيب بالرّفض والإنكار قطعًا. فالبرهان نفسه يسقط عند عكس المثال. ثانيًا، ضابط الحرية هو المسؤولية، وللرجل مسؤولية تجاه تلك المرأة والتي حتى وإن رغبت هي في الزواج على غير الصيغ القانونية ستكون غير محمية قانونيًا بل ويعتبرها القانون في حالات معينة مذنبة. ثالثًا، أليس في هذه الحرية المزعومة اعتداء على كرامة الزوجة الأولى؟ فتعويم المشاكل والحالات الاجتماعية المنفلتة والمعزولة إذن وتبريرها بمنطق حقوقي لا يستقيم لأن هؤلاء الأشخاص أصلًا لا يؤمنون بالحقوق لكل البشر.
شهدنا في تونس كسرًا لـ"تابوه" الأقليات الجنسيّة وتحقيقًا لبعض المكتسبات لها، فهل ترين أنه يمكن في السنوات القادمة أن نعيش ثورة في المجال كأن نشهد مثلًا تكريسًا لحقوق الأقليات الجنسية كاملة ومنها الزواج؟
هذا إن كانت الأقليات الجنسية ترغب في المطالبة بالزواج (تضحك). أنا أتعجّب فعلًا من كل المجتمعات التي يكون فيها الزواج مطلبًا سواء من قبل المثليّين أو العابرين أو المتحولين. صحيح أنّ الزواج حقّ من حقوق الإنسان، لكن أستغرب المطالبة به. حيث أعتقد أن التزاوج حقّ أما الزّواج وفق صيغ قانونية وحسب الفصل 23 من مجلة الأحوال الشخصية بما فيه من هرمية ومن توزيع غير عادل للأدوار بين الزوجين يصبح مصيبة وعقوبة حقيقية. غير أنّني متفائلة كثيرًا بطرح الملفّ في حدّ ذاته فالأقليات الجنسية تضحّي بأجسادها من أجل حقوقها. وكنّا شهدنا العام الماضي تزايد المحاكمات ضدّها، كما تعرّض 3 أشخاص للقتل بسبب رهاب المثلية وفق ما سجلته منظمات المجتمع المدني. وبرأيي، أن المجتمع التونسي لطالما كان متعايشًا مع الاختلاف لكنه يتعرّض إلى صدمة عندما يسمع عن المطالبة بتقنين الاختلاف ومأسسته. وفي هذه الحالة، التونسيون عاشوا الصدمة وقاموا بردّات الفعل العنيفة وبالتالي فإنّ جيل الحطب قد مرّ والقادم هو جيل الذهب حسب تعبير ابن خلدون.. وهذا أمر نلاحظه في كثير من دول العالم أين لم يحل صعود اليمين المحافظ إلى الحكم دون مزيد تحقيق مكتسبات على صعيد الحريات الفردية ومن ذلك المثال التركي لأن الدولة فصلت منذ الثلاثينات في مسألة الدين والدولة. وهذا التحدي الحقيقي برأيي أي أن نفصل كليًا في تونس بين الدين ومؤسسات الدولة وقوانينها.
في إطار الحديث عن التحدّيات، وفي علاقة بالمرأة دائمًا ماهي التحديّات التي على التونسية أن ترفعها اليوم؟
أهمّ التحديّات هو ملفّ الأمهات العازبات وكذلك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية رهان كبير. لقد أصبح تفقير النساء اليوم نزيفًا حقيقيًا يعاني منه المجتمع كلّه نساء ورجالًا. وبالتالي فإنّ أحد أهمّ الرهانات اليوم هو أن نرى مراعاة ميزانيات الدولة لمقاربة النوع الاجتماعي وتصدّيًا للفقر المسلّط على النساء وفرضًا للمساواة في الأجور وتكريسًا لقانون مناهضة العنف الذي يعاقب التمييز في الأجور والترقية المهنية والمسار المهني. من بين التحديات أيضًا وضع آليات لتفعيل قانون العنف وكل القوانين المتعلقة بالحقوق الإنسانية للنساء، وأهمّها إرساء البنية التحتية الخاصة بحقوق النساء، فقد كلّف القانون المتعلّق بمناهضة العنف كل وزارات الدولة تقريبًا بالاشتغال على أشكال العنف ضد المرأة كأن تقوم مناهج وزارة التربية على أساس المساواة ونبذ العنف لكننا لا نرى بوادر فتح هذا الملف. وكذلك الأمن مطالب باعتماد سياسة القرب أكثر من الضحايا، بينما لا تسمح البنية التحية لمراكز الشرطة فعلا للشرطي بتأمين نقل المرأة المعرضة للعنف، إضافة إلى غياب مأوى جاهز وآمن للاستماع والتوجيه ومرافقة النساء. ومن أجل توفير كلّ هذا يجب أن تظهر السياسات بوضوح في الميزانيات. أي على قانون الميزانية القادم أن يبنى على فكرة التصدي لظاهرة تأنيث الفقر وعلى مقاربة نوع الاجتماعي للتصدي للعنف بأن نرى اعتمادات مالية مخصصة للبنية التحتية للقانون الخاص بالعنف.
هناك أيضا تحدّي الإصلاحات التشريعية، فالدستور يكفل الحقوق والحريات لكنّ المحاكم تطبّق إلى اليوم قوانين متخلفة عن الدستور ومنها مجلة الأحوال الشخصية. حيث مازالت رئاسة العائلة غير متساوية بين الزوجين، إضافة إلى مسألة المهر التي فيها استنقاص للنساء ودونية بشكل كبير عبر القول بأن البناء الذي هو لذة جنسية بين حبيبين تباع وتشترى بثمن. ولا ننسى قانون الجنسية أيضًا والذي يحرم التونسية المتزوجة بأجنبي من نفس الصلاحيات لمنح زوجها الجنسية التونسية. ولكي أحوصل، أقول إنّ الجانب التشريعي والمؤسساتي والسياسات العامة والميزانيات أربع عناصر يجب أن تتكامل كي يتغيّر وضع النساء في تونس نحو الأفضل.
في سياق الحديث عن إلغاء المهر والمساواة في الإرث وكلاهما مرتبطان بأحكام الشريعة الإسلامية، هناك دعوات لإعادة قراءة الأحكام الشرعية، باعتبارها اجتهادات ذكورية في معظمها، قراءة نسوية بنيّة إحداث مصالحة بين الأحكام الشرعية والقوانين الحديثة. فأين "النساء الديمقراطيات" من هذا؟
بالنسبة لنا كنسويّات، ميثاق الجمعية يوضّح أن مرجعيتنا هي مرجعية حقوق الإنسان وأننا نطالب بالمساواة التامة دون أي شكل من أشكال الاستنقاص أو التمييز. وهنا يمكن أن نلتقي مع بعض النسويات، لا الحركات النسوية الإسلامية، اللواتي يحاولن جرّ النص الديني إلى فضاء المساواة التامة والفعلية وهي تجارب مهمّة وملفتة للنظر وجريئة في نفس الوقت. وأحيانا أتعاطف مع هؤلاء النساء لأنّهن لا يجدن أنفسهن داخل المجموعة التي تدافع عن المنظومة الدينية ولا داخل دوائر النسويات المتمسكات بالمرجعية الكونية لحقوق الإنسان، فيصبحن بالتالي ممزّقات بين الطرفين. بالنسبة لنا، نحن منفتحات على هذا الجزء من الحركات النسوية لكن مع التمسّك دائمًا بكون براهيننا مبنية على فكرة أن الإنسان مهما كان دينه او لونه او جنسه من حقه التمتع بنفس الحقوق. أمّا النقاش من داخل المنظومة الدينية نفسها فهو يخصّ الأشخاص الذين يستندون إلى الحجة الدينية. جمعيتنا تشجّع كل شخص يحاول نقل هذه المنظومة وتحريرها من عقلية القرن الأول للهجرة. لكن مقاربتنا واضحة وغير قابلة للالتباس لأن النقاشات في الموروث العربي الإسلامي ليست جديدة. فالتاريخ يشهد أنّ كل هذه القضايا بما فيها حقوق المثليين جنسيًا في الميراث والزواج كانت من بين المواضيع المطروحة قديمًا. وكذلك الأحكام المتعلقة بالنساء أيضا كالميراث ناقشت النساء فيها الرسول نفسه ولكن صدّت الأبواب أمامهن فيما بعد والاجتهادات التي وضعها رجال لم تترك أي منفذ للمجادلة. وهناك أيضًا مسألة الاختلاف بين المؤسسات الدينية والمذاهب المختلفة على غرار اختلاف موقف الأزهر ومجموعة من الزيتونيين من قضية زواج المسلمة بغير المسلم في تونس. فلو نحن وقعنا في هذه الترهات التي يعتبر فيها كل طرف نفسه المستحكم على قواعد الدين والأضلع في فهمه فلن نخرج مطلقًا من دائرة اللبس وضياع الحقوق. لذلك نحن نقول ونؤكّد أنّ الأسلم براغماتيًا لتطوير الشعوب وتحريرها هو الاستناد على فكرة إنسانية الإنسان وكونية حقوقه.
اقرأ/ي أيضًا:
النساء في الانتخابات البلدية.. "ما هي إلا امرأة"؟
إلغاء المهر، حرية اختيار اللقب والمساواة في الميراث في تونس.. جدل يتصاعد