مقال رأي
زفت تونس في الوقت الذي تحتفي فيه بالذكرى السادسة لاندلاع الثورة عريسًا من أجل فلسطين وهو الشهيد الطيار محمد الزواري، وكأنها لحظة عناق وشدّ وثاق بين معركة حرية الإنسان العربي ضد الحاكم المستبد، ومعركة تحرير الأرض العربية من الغاصب المحتلّ.
فلم تكن بوصلة 17 ديسمبر/كانون الأوّل 2010 إلا متوجهة نحو القدس في أفق المجال العربي، فشعارات تأكيد غائية تحرير فلسطين ورفع علمها في المظاهرات تعكس حينها عمق حفر الجماهير للثورة العربية المجيدة حين خروجهم وتمرّدهم على سلطة القمع والعمالة.
حينما اُغتيل الزواري برصاصات وهو الاغتيال الثالث في تونس بهذه الطريقة بعد الشهيدين بلعيد والبراهمي، وحينما جمع بين صفته كمهندس مخترع وصفته كناشط سياسي إسلامي، لم تكن الصورة في البداية إلا ضبابية حول طبيعة الحادثة.
رغم بيان القسام حول حادثة محمد الزواري، لا تتحدث السلطات التونسية عن شهيد، ولا يزال تعاملها مع العملية مقتصر على المستوى الجنائي
فالمستهدف هو مهندس، ولا يُعرف عنه ارتباط بأي جهة، غير أنه بالتزامن مع المواكبة الدقيقة للعملية في الداخل الإسرائيلي منذ حدوثها، وإعلام الداخلية التونسية بتورط عناصر أجنبية، ثم لاحقًا تأكيد كتائب القسام لانتساب الزواري إليها وعمله من أجل تطوير طائرات الأبابيل، تبيّنت الصورة. هو اغتيال لأحد رجال المقاومة الفلسطينية ببصمات صهيونية.
تولّت الداخلية منذ البداية مع عدم تبيّن الطبيعة السياسية للعملية مهمة إعلام الرأي العام بخصوص تطوراتها. أصدرت بيانًا في اليوم الأول حول "العثور على جثة مواطن"، ثم أصدرت بيانًا في اليوم الموالي حول القبض على 5 متورطين وكاتم صوت وحجزت سيارات تم استعمالها في "جريمة القتل"، ثم بيانًا آخر حول القبض على مواطنة تونسية يشتبه بتورطها في "جريمة القتل".
لا حديث عن اغتيال بعد يومين من العملية من السلطات التونسية التي اهتمت بالجانب الجنائي الصرف دون البعد السياسي للعملية.
بعد ضغط شعبي في الشارع وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، أصدرت رئاسة الحكومة بعد أكثر من 48 ساعة على العملية بيانًا حول التزامها بتتبّع الجناة المتورطين في "اغتيال المرحوم محمد الزواري".
ورغم كل المؤشرات الدامغة طيلة يومين آخرها بيان كتائب القسام حول طبيعة الحادثة، لا تتحدث بعد السلطات التونسية عن شهيد، ولا يزال تعاملها مع العملية مقتصر على المستوى الجنائي.
الملاحظ أن التلفزيون الوطني قام بتغطية واسعة بعد يومين للعملية وأورد لفظ "شهيد" في تغطيته وهو ما يكشف عن تفاوت في التعامل مع العملية من قبل الجهات "الرسمية" في الدولة.
رغم أن رئيس الجمهورية هو قائد الدبلوماسية والدفاع والأمن القومي، وعملية الاغتيال تجمع بين هذه العناصر بما هي اختراق للأمن القومي التونسي وللدفاع، وتستلزم تحركًا دبلوماسيًا ضد الكيان الصهيوني، لم تتفاعل إلى حد الآن مع العملية. هذا منتظر وليس مستغربًا بالنهاية.
فالباجي قائد السبسي هو أحد عرابي دبلوماسية تونسية جافة وباهتة، ولم يعرف عنه التزامًا جديًا بالقضية الفلسطينية. وإن كان الشهيد هو إسلامي، فلعلّه الدافع أكبر لعدم تحرك رئاسة الجمهورية. وإن كان أقلّه ببلاغ لإدانة لعملية اغتيال الشهيد. وهو بلاغ قد يأتي لاحقًا لرفع حرج يبدو أنه لم يحرج بعد ساكن قرطاج.
وزيرة السياحة التونسية والقيادية بالحزب الحاكم سلمى اللومي لها ماضٍ من التطبيع الاقتصادي، وقد قامت بزيارة إسرائيل قبل الثورة
العار الأكبر، في هذا السياق، أن وزير الخارجية الحالي خميس جهيناوي، وهو المستشار المقرب للسبسي منذ 2011، كان مدير مكتب تونس في تل أبيب أواسط التسعينيات، وهو مكتب فتحه نظام بن علي في فترة "الانفتاح" بين السلطة والكيان بعد أوسلو. ولم يكن الجهيناوي إلا المدير الوحيد لهذا المكتب قبل إغلاقه لاحقًا في المهمة التي أوكلها له بن علي.
أن تتولى هكذا شخصية وزارة الخارجية بعد ثورة رُفعت فيها الهتافات من أجل فلسطين، فتلك الصورة المختزلة عن برود السلطة الحالية في تناول القضية الفلسطينية وفي التعامل مع قضية الشهيد الزواري.
لا تقف الصورة عند الجهيناوي فوزيرة السياحة والقيادية في الحزب الحاكم سلمى اللومي لها ماضٍ من التطبيع الاقتصادي وقد قامت بزيارة الكيان الصهيوني قبل الثورة ضمن أنشطتها كامرأة أعمال.
ويمثل تصوير مراسل القناة الإسرائيلية العاشرة لتقرير تلفزيوني من أمام منزل الشهيد الزواري في صفاقس مثالا على مدى الاستفزاز الصهيوني ومدى الاختراق داخل تونس أمام سلطة عاجزة إن لم تكن متواطئة بصفة غير مباشرة.
لم يكن نظام بن علي، الذي تمثل قيادة السلطة الحالية امتدادًا عضويًا له، إلا نظامًا متورّطًا ليس فقط في التطبيع الاقتصادي والسياحي وقبله السياسي مع الكيان الصهيوني، بل في التآمر على الفلسطينيين والتورط في دمهم. وتمثل قضية اغتيال الشهيد أبو جهاد سنة 1988 شاهدًا، حيث تم اغتياله من فرقة كومندوس إسرائيلية قدمت من البحر لمنطقة إقامة الشهيد التي لا تبعد إلا مئات الأمتار عن مقر إقامة رئيس الجمهورية.
ولم يتفاعل بن علي الذي كان استولى على السلطة من بورقيبة حينها مع الاغتيال بالشكل الصارم والجدّي دبلوماسيًا. وقد أكد عبد الرؤوف العيادي، وهو محامٍ وحقوقي، أن أجهزة بن علي قامت بإتلاف أرشيف العلاقات مع الموساد بعد الثورة.
للآن ما زالت تخشى السلطات التونسية الاعتراف بأن المغدور هو شهيد، وما زالت تغض البصر عن ارتباطه بالمقاومة الفلسطينية وجميع مؤشرات تورط الموساد الإسرائيلي في اغتياله. لعلّها السلطات في موقف محرج وهي التي لم تعبر يومًا إلا على مساندة باردة للقضية الفلسطينية حتى باتت عنوانًا بروتوكوليًا قميئًا للدبلوماسية التونسية.
ما زالت تخشى السلطة التونسية الاعتراف بأن الزواري شهيد، فغضت البصر عن ارتباطه بالمقاومة، وجميع مؤشرات تورط الموساد في اغتياله
بل لعلّ كذلك أن يكون الشهيد إسلاميًا وملاحقًا أمنيًا من نظام بن علي سابقًا، عنصرًا مضافًا يجعل من الاحتفاء بشهادته هو من الحاجز النفسي والسياسي لهذا النظام الذي عاد ليقود الدبلوماسية بعد "فلتة" رئاسة المرزوقي خلال ثلاث سنوات بعد الثورة استقبل فيها الرئيس السابق رموز المقاومة الفلسطينية في قصره، وأرسل خلالها فريقًا من مستشاريه لقطاع غزة إبان حرب 2013، وهو الذي وصف كذلك الكيان بـ"دولة إرهاب" في اختراق لدبلوماسية تونسية جافة وباهتة لعقود.
لا يُنتظر من السبسي وحكومته ردة فعل حازمة وجدية لاغتيال الشهيد الذي ما زالت السلطة ذاتها لا تصفه بالشهيد. لا ننتظر خطابًا رسميًا يتبنى المقاومة الفلسطينية ويعتبر الشهيد هو مفخرة تونس التي زفته من أجل فلسطين، ولا ننتظر تأبينًا رسميًا من السلطة، ولا ننتظر منها كذلك تحركًا دبلوماسيًا صارمًا ضد الكيان الصهيوني.
يُرجى فقط ألا تصف الشهيد بأنه تعامل مع جهات أجنبية أو ربما مع منظمة إرهابية، فالكثير من مريدي هذه السلطة ونخبتها لم يترددوا في الإجهار بذلك.
بالنهاية، المجد للشهيد الطيار الزواري، هدية تونس ومفخرتها من أجل فلسطين الأبيّة والخزي لسلطة العار الدائم.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"