28-فبراير-2024
الثأر من الثورة والمقاومة زهير إسماعيل

موجع أن يتواصل دفع المشهد قُدُمًا إلى مثل هذه المآلات القاسية (صورة توضيحية/ حسن مراد/ getty)

مقال رأي 

 

احتلّت قيمة الحرية المركز في أدبيّات حركة التحرّر الوطني الفلسطيني، وارتبطت بتحرير الأرض والمقدّسات المغتصبة. ومن حين لآخر، كانت تطلّ فكرة تحرير "الإنسان الفلسطيني" أو هو "الإنسان العربي" في الأدبيّات الوحدويّة. ولا تتجاوز عبارة "تحرير الإنسان" في هذه الأدبيات مدلولها الذي شاع في خطاب نظام الاستبداد العربي إلى الإنسان في فرديّته واستقلال كيانه وإرادته.

ولم يمنع مناخ الاستبداد والفكر الجماعي الذي لا يمنح الفرد "مساحة حرامًا" هي مجاله الحميمي وعالمه الخاصّ من ظهور وعي بأنّ تحرير الأرض لن يكون إلاّ بإنسان حرّ. وتطوّر الوعي بالفكرة مع خيبات نظام الاستبداد العربي وانكساره أمام دولة الكيان الوظيفيّة في هزائم عسكريّة كبرى مذلّة. فصارت فكرة تحرير الإنسان من خطاب الحركة السياسيّة والحقوقية المطالبة بالديمقراطيّة.

المشترك بين الدول التي شهدت ثورة بعد تونس، أنّها عرفت تحوّلًا مهمًّا في الحياة السياسيّة فيها من الفرز على قاعدة الإيديولوجيا إلى الفرز على قاعدة الحريّة

مع الربيع وثورته، اكتملت الفكرة لتتطوّر إلى الوعي بضرورة تلازم المقاومة والمواطنة. وكان هذا بمثابة النهج الثالث المجاوز لنهجي المساومة والممانعة في نظام الاستبداد العربي. فكان الجمع في شوارع الثورة وميادينها بعد 2011 بين مهمّة "إسقاط النظام" ومهمّة "تحرير فلسطين".

فحين نتحدّث عن معاقبة الثورة والمقاومة، فإنّنا نعني ثورة الحريّة والكرامة والمقاومة في غزة وفلسطين.

  • وأد الثورة

انتشرت الثورة التي انطلقت من تونس في المجال العربي، غير أنّها خصّت دولًا بعينها هي مصر وليبيا وسورية واليمن. والمشترك بين هذه الدول أنّها عرفت تحوّلًا مهمًّا في الحياة السياسيّة فيها من الفرز على قاعدة الإيديولوجيا إلى الفرز على قاعدة الحريّة. فعرفت سوريا ربيع دمشق 2000 ومصر حركة كفاية 2004 وتونس حركة 18 أكتوبر/تشرين الأول 2005 واليمن الحراك الجنوبي 2007.

وشهدت ليبيا بداية عمليّة إصلاح عبر مشروع "ليبيا الغد" الذي كان ثمرة لقاء سيف الإسلام نجل العقيد القذّافي والشيخ محمد علي الصلاّبي.

حين قامت الثورة لم تكن المقاومة في وضع يسمح لها بالتفاعل مع الهزّة التي أحدثتها الثورة، وكان أقصى ما يمكن أن تأمل هو أن تساعدها الثورة على رفع الحصار على غزّة أو التخفيف منه على الأقل

ومن جهة أخرى فإنّ هذه الأقطار عرفت عمليّة تحديث مهمّة قادتها دولة الاستقلال وكان لها أثرها المهمّ على نسبة النمو ودخل الفرد ونسبة التمدرس وعلى الديمغرافيا عمومًا. وقادت هذه التعبيرات السياسيّة والحقوقيّة زعامات سياسيّة قيادات فكرية وأكاديميّة معارضة مثل محمد المنصف المرزوقي بتونس وعبد الوهاب المسيري بمصر وميشيل كيلو بسورية.

وكان مصير هذه الثورات الإجهاض، فتم تحويل الثورة في اليمن وسوريا إلى حرب أهلية بعد النجاح في تطييفها وتسليحها وكان لمكون، حرب أكلت الأخضر واليابس. ولئن عرف اليمن حربًا طاحنة بين مكونات المشهد السياسي والقبلي والمناطقي فإنّ الانتقام الذي لحق بالشعب السوري غير مسبوق، فقد كان ضحايا الحرب الأهليّة حوالي النصف مليون وتمّ تشريد ملايين السوريين في أصقاع العالم. ولعب الإرهاب والتدخّل الإقليمي (إيران، تركيا) والدولي (الولايات المتحدة، روسيا) دورًا حاسمًا في وأد الثورة وكان للكيان الصهيوني دورًا مخابراتيًّا، وتكفّل الصهاينة العرب بالدعم المالي والإعلامي. والمحصّلة أنّ سورية اليوم محتلة من خمس دول إقليميّة ودوليّة. وكان هذا من أبشع أنواع العقاب التي طالت الربيع وقواه المؤسسة.  

أمكن مع نجاح الإخوان المسلمين في انتخابات مصر.. التخفيف من وطأة الحصار، وتمكّنت غزّة من أن تدخل كلّ ما تحتاجه، وبعد الانقلاب على الديمقراطية في مصر، عرفت غزة عودة قويّة للحصار

وعرفت ليبيا انتقالًا ديمقراطيًّا لم يعمّر أكثر من سنتين رغم التوصّل إلى انتخاب المؤتمر الوطني العام (مجلس تأسيسي) والشروع في كتابة دستور جديد لليبيا. وفي مصر، تمّ الانقلاب على نتائج الانتخابات بواسطة عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع في السنة الثالثة من الثورة. وكان ميدان الاعتصام برابعة مسرحًا لمجزرة بشعة في حقّ متظاهرين سلميين. وفي تونس، انتهت عشريّة الانتقال بانقلاب على الدستور والديمقراطيّة قاده الرئيس قيس سعيّد الذي كان مرشّح قوى الثورة وتيّار بناء الديمقراطيّة. وقد مضى على انقلابه ثلاث سنوات أمكن له بدعم من الأجهزة طيّ صفحة الانتقال الديمقراطي والزج بقيادات الحركة الديمقراطيّة في السجون.

  • الانتقام من المقاومة

حين قامت الثورة لم تكن المقاومة في وضع يسمح لها بالتفاعل مع الهزّة التي أحدثتها الثورة. وكان أقصى ما يمكن أن تأمل هو أن تساعدها الثورة على رفع الحصار على غزّة أو التخفيف منه على الأقل. وقد أمكن، مع نجاح الإخوان المسلمين في انتخابات مصر البرلمانيّة، وفوزهم بمنصب رئاسة الجمهوريّة، التخفيف من وطأة الحصار، وتمكّنت غزّة من أن تدخل كلّ ما تحتاجه. وكانت المقاومة استفادت على مدى سنتين من الوضع الجديد في مصر مع ثورة 25 جانفي/يناير، ويبدو أنّها تمكّنت من إدخال جانب ممّا تحتاجه من أسلحة ومن مواد صنعها وحاجتها من مواد بناء التحصينات (الأنفاق).

الإصرار على كسر ظهر المقاومة وقهر حاضنتها وفرض معادلة تحول دون هزيمة جيش الاحتلال، وتمنع المقاومة من تصريف صمودها في فرض شروطها على طاولة المفاوضات.. قد يضطرها إلى التسليم باتفاقات مؤلمة جدًّا

وبعد الانقلاب على الديمقراطية في مصر، عرفت غزة عودة قويّة للحصار، وكان التخابر مع حماس من بين التهم التي وُجهت إلى الرئيس مرسي الذي قضى في قفص الاتهام وهو يمثل أمام القاضي. ويتواصل اليوم حصار غزة مع حرب الإبادة التي يشنها الكيان عليها ردًّا علة عملية طوفان الأقصى (7 أكتوبر/تشرين الأول 2023).

بعد خمسة أشهر من الحرب، تمكّنت المقاومة من الصمود في وجه جيش الاحتلال في حربه على غزّة، ونجحت في تهشيم أهم ألويته. ومثّل هذا صدمة لقيادة أركان جيش الاحتلال وللإدارة الأمريكيّة شريكه الكامل في عدوانه على غزّة.

تقاتل المقاومة في غزة المحاصرة لوحدها العالم. وتنجح في كسر جيش الاحتلال وتأكيد عجزه عن تحقيق أهدافه في تحرير أسراه وتدمير بنية المقاومة العسكرية. ولكن حجم الدعم العالمي السياسي والعسكري المتواصل للعدوان، وإطباق الحصار على غزة، وصمت المنظمات الدولية وخذلان ذوي القربى وخيانة المطبّعين منهم، أطلق يد جيش الكيان في استباحة المدينة للشهر الخامس على التوالي بالقتل والترويع والتجويع.

 

والمحصلة إصرارٌ على كسر ظهر المقاومة وقهر حاضنتها وفرض معادلة تحول دون هزيمة جيش الاحتلال (تعطيل وقف إطلاق النار) وتمنع المقاومة من تصريف صمودها في فرض شروطها على طاولة المفاوضات (إيقاف العدوان، انسحاب جيش الاحتلال، أفق للحل السياسي العادل)، وقد تضطرها إلى التسليم باتفاقات مؤلمة جدًّا.

 موجع أن يتواصل دفع المشهد قُدُمًا إلى مثل هذه المآلات القاسية.

  • أكثر من إستراتيجية 

تسلَّطت أضواء قويّة على المجال العربي منذ اندلاع الربيع. وزاد التركيز عليه مع عمليّة طوفان الأقصى التي أعادت قضيّة فلسطين إلى صدارة اهتمامات العالم، بعد أن تمّ تهميشها والاستعداد لدفنها على يدي اليمين الصهيوني المتطرّف. ومكنت غزّة لأوّل مرة من أن تُسمِع الدنيا صوتها وأن تشدّ انتباهها كي يُنصت إلى قصتها من خارج السرديّة الصهيونيّة.

الثورة والمقاومة تجمعان في مهمّتهما بين الاستبداد والاحتلال وتعدّهما وجهين لحقيقة واحدة

الثورة والمقاومة تجمعان في مهمّتهما بين الاستبداد والاحتلال وتعدّهما وجهين لحقيقة واحدة. ومع ذلك لم يتزامن التصدّي لهما باعتبارهما عاملين أساسيين في عجز المجال العربي عن بناء كيانه السياسي الجامع على غرار المجالين الجارين التركي والإيراني. بل إنّ هذين المجالين الجارين لم يساعدا المجال العربي على القيام الكياني وأراداه منطقة فراغ لتوسيع النفوذ في صراع المصالح مع إستراتيجيات الهيمنة الدوليّة، فاختارت إيران في المواجهة بين الثورة ونظام الاستبداد العربي بداية من 2011 الوقوف إلى جانب نظام الاستبداد في سوريا باسم حماية ظهر المقاومة، واختارت تركيا الإبقاء على علاقتها السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة مع دولة الاحتلال.

وفي ذلك صدام إستراتيجي مع المهمة المزدوجة (إسقاط النظام، تحرير فلسطين) التي طرحتها الثورة بصيغة "الشعب يريد". ويظهر ذلك في إبقاء تركيا أردوغان (خليفة المسلمين عند البعض) على علاقتها بكيان الاحتلال ودعم التبادل الاقتصادي والعسكري معه وهو يحاصر غزّة ويجوّعها يقتل كل أسباب الحياة فيها. ويظهر أيضًا في التزام إيران من خلال أذرعها في المجال العربي المسمّاة محور مقاومة بقواعد اشتباكها مع الولايات المتّحدة والكيان المتّفق عليها قبل الطوفان وربما بعده. فهذا محكوم بنتائج هذه المنازلة الكبرى بين المقاومة الفلسطينيّة ودولة الكيان المحتلّ.

القضية الفلسطينية على مفترق طرق حقيقي، والمصير منفتح على أكثر من مآل. وينطبق هذا على مستقبل بناء الديمقراطيّة

ومن المهمّ التشديد على أنّ إيران في صراع نفوذ فعلي مع الولايات المتحدة وإسرائيل ضمن صراع أشمل مع فاعليه في الضفة الأخرى (روسيا والصين). ولا يقاس موقف إيران وأذرعها من طوفان الأقصى والحق الفلسطيني إلى موقف العرب الصهاينة، وإنما يقاس إلى عنوان المقاومة الذي ترفعه. ولا شكّ في أنّ حزب الله الذي حرّر الجنوب سنة 2000 وكسر شوكة جيش الاحتلال في حرب تموز 2006 خاض حربًا دامية كانت ضريبتها الدم ولكنها حرب ضمن الإستراتيجية الإيرانيّة.

  • على مفترق طرق

وإذا كان طريق القدس يمرّ عبر يبرود والقصير وحلب، فإنّ فلسطين اليوم على مرمى حجر، وقد تمّ "تأمين ظهر المقاومة من الجماعات التكفيريّة في سوريا". ثمّ ما فائدة ترسانة صواريخ الحزب الدقيقة والذكيّة القادرة على الوصول إلى كل فلسطين المحتلّة وضرب أهمّ قطاعات العدو الاستراتيجيّة، والتي يقال إنّها من أجل فلسطين، إذا أبقيت في مخازنها والمقاومة في غزّة والضفّة تذبح وقد تُصفّى الأبد؟!!

هناك ثأر من الثورة والمقاومة معًا، وانتقام على درجة عالية من التشفّي والمشاعر العنصريّة والنازيّة، ولكنّ كل ذلك قد يفضي إلى تزامن الثورة والمقاومة هذه المرّة

نحن أقرب إلى التقدير الذي يرى وجود إستراتيجيّتين: إستراتيجيّة المقاومة والإستراتيجيّة الإيرانيّة، وتحاول كلّ منهما استيعاب الأخرى ضمن مسارها. وهذا ما تدركه المقاومة في غزّة وتعيه إستراتيجيًّا وتعمل ضمنه، فتضع دعم حزب الله والحوثيين بدرجة أولى ضمن إستراتيجيّتها كي ينفتح "اليوم التالي" على سؤال "غزّة ما بعد الكيان؟" وليس سؤال "غزة ما بعد حماس؟". وفي نهاية الأمر لا شيء يمنع من أن تعبّر إيران عن "الأمة" نيابة عمّن يرى في نفسه الأجدر بالتعبير عنها. وإن كان الأصل أن يكون لكلّ مكوّن مكوناتها نصيب ودور في التعبير عنها حتّى لا يتوهّم أحدها بأن يكون باسمها بديلًا عن الجميع.

القضية الفلسطينية على مفترق طرق حقيقي، والمصير منفتح على أكثر من مآل. وينطبق هذا على مستقبل بناء الديمقراطيّة. هناك انتصرت المقاومة في المواجهة الميدانيّة وكسرت جيش الاحتلال ولم يبق منه سوى آلة قتل تستهدف حاضنة المقاومة من المدنيين العزّل وتغطّي على هزيمتها، وهنا سقط الاستبداد رغم أنّه لم يرحل وأكّد أنّه غير قادر على إعادة إنتاج نفسه ولم يبق منه غير آلة عبث بما بقي من مقدّرات البلاد واستباحة من بقي من المدافعين عن استعادة الديمقراطيّة ومسارها.

الولايات المتّحدة راعية مهمّة الانتقام من الثورة والمقاومة، تمارس خطابًا آخر من التشفّي، من أقسى ضروبه وأحطّها وقوفها بقرار الفيتو في أكثر من مناسبة في وجه الأغلبيّة في مجلس الأمن الداعية إلى وقف إطلاق النار في غزّة

هو ثأر من الثورة والمقاومة معًا، وانتقام على درجة عالية من التشفّي والمشاعر العنصريّة والنازيّة، ولكنّ كل ذلك قد يفضي إلى تزامن الثورة والمقاومة هذه المرّة. وإن كانت استقالة "الشارع العربي" المخزية وصمْته عما يجري في غزّة لا توحي بذلك. وإلى جانب فعل الإبادة الجماعيّة الذي يمارس على المقاومة وحاضنتها في الضفة وغزّة والداخل اليوم، والقمع النسقي الذي مورس على قوى الثورة في مصر وسوريا واليمن وفي كلّ مدن الربيع وساحاته أمس واليوم، فإنّ خطابًا آخر من التشفّي مارسته الولايات المتّحدة راعية مهمّة الانتقام من الثورة والمقاومة. فخطاب الراعي السياسي والإعلامي عن الانقلابات التي كان وراءها أو زكاها لا يختلف في شيء عن خطابه عن الحرب على غزّة وهو الشريك الحصري للكيان فيها.

كان يؤكّد، بعد كل انقلاب على مسار الثورة، على ضرورة احترام القائمين عليه الحريّات والمؤسسات والديمقراطيّة دون أن يسمّي الانقلاب انقلابًا ودون أن يدقق في طبيعة المؤسسات هل هي المؤسسات الديمقراطيّة والدستوريّة المنقلب عليها أم المنصبة من الانقلاب. مثلما كان يشدّد بعد اندلاع الحرب على غزّة على دقة الخطط العسكريّة في قصف المدينة المكتظة رأفة بالمدنيين، ويعطي للمحتل المعتدي حق الدفاع عن النفس دون أن ينطق بعبارة "وقف إطلاق النار" أمام جرائم الإبادة التي تنقل على المباشر، ومن أقسى ضروب التشفّي وأحطّه وقوف الراعي الأمريكي بقرار الفيتو في أكثر من مناسبة في وجه الأغلبيّة في مجلس الأمن الداعية إلى وقف إطلاق النار في غزّة.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"