15-فبراير-2024
تلاميذ

الإشكالية الحقيقية التي يجب أن تثار هي غياب التكافؤ والإنصاف والمساواة في الخدمة التعليمية المقدمة بين الجهات (صورة أرشيفية/ فتحي بلعيد/ أ.ف.ب)

 

شهدت نسبة الالتحاق الصافية بالمدارس الابتدائية انخفاضًا خلال العشر سنوات الماضية إذ بلغت 92,2% سنة 2023 مقابل %96,9 سنة 2018 و98% سنة 2012، وفق بيانات المعهد الوطني للإحصاء في المسح الوطني العنقودي متعدد المؤشرات لسنة 2023. ويحيل انخفاض نسبة التمدرس إلى إشكاليات حقيقية في دولة راهنت منذ استقلالها على التعليم.

إن كانت أغلب الإشكاليات التي يسلط عليها الضوء مرارًا تتعلق بالبنية التحتية للمدارس والمرافق الصحية وغيرها، فإن الإشكالية الحقيقية التي يجب أن تثار هي غياب التكافؤ والإنصاف والمساواة في الخدمة التعليمية المقدمة

وإن كانت أغلب الإشكاليات التي تثار ويسلط عليها الضوء مرارًا تتعلق بالبنية التحتية للمدارس والمرافق الصحية وغيرها، وعلى أهميتها فإن الإشكالية الحقيقية التي يجب أن تثار هي غياب التكافؤ والإنصاف والمساواة في الخدمة التعليمية المقدمة والتي تختلف من جهة إلى أخرى  ومن المركز إلى الجهات ومن الوسط إلى الأرياف.

 

صورة
(المسح الوطني العنقودي متعدد المؤشرات لسنة 2023/ المعهد الوطني للإحصاء)

 

عدم التكافؤ بين الجهات في الخدمة التعليمية المقدمة يفند الشعارات المرفوعة التي تؤكد أنّ التعليم حق للجميع، فالتعليم لا يعني مجرد التسجيل ودخول المدرسة بل يقوم على ما تقدمه المدرسة للتلميذ

التفاوت يفند الشعارات التي ترفع وتؤكد أنّ التعليم حق لكل التونسيين وفي كل شبر من البلاد، فالتعلم لا يعني مجرد التسجيل ودخول المدرسة بل يقوم على ما تقدمه المدرسة للتلميذ

وقد دعا مجلس حقوق الإنسان التابع لمنظمة الأمم المتحدة في تقريره الصادر سنة 2013 تونس إلى"إيجاد الحلول كي يتسنّى الاعتراف بالحق في التعليم وممارسة الجميع له دون أي تمييز أو إقصاء أو تقييد على أساس الجنس أو الثروة أو الأصل أو الإعاقة أو الوضع الاجتماعي أو أي اعتبار آخر".

واعتبر التقرير أن "نظام التعليم التونسي يعاني من فوارق خطيرة وانعدام المساواة بين مختلف الولايات".

سبق أن دعا مجلس حقوق الإنسان تونس إلى"إيجاد الحلول كي يتسنّى الاعتراف بالحق في التعليم للجميع دون تمييز أو إقصاء" معتبرًا أنّ  "نظام التعليم التونسي يعاني من فوارق خطيرة وانعدام المساواة بين الولايات"

وتعتبر السنة التحضيرية أبرز مثال على غياب الإنصاف والتكافؤ بين كل الجهات فقد تم إقرارها من دون تحديد المعارف التعليمية المقدمة والتي تختلف من روضة إلى أخرى ومن كتاب إلى آخر ومن مدرسة خاصة إلى أخرى، في وقت تغيب فيه في عدد من الجهات والأرياف ويحرم الأطفال من مزاولتها رغم أن أرقام وزارة التربية تؤكد أن التلاميذ الذين تابعوا التعليم في السنة التحضيرية لهم حظوظ تفوق بقية التلاميذ بـ 30 بالمائة تقريبًا في إنهاء المرحلة الابتدائية بنجاح. 

هذا التفاوت بين التلاميذ في الحظوظ يمس مباشرة من مبدأ الإنصاف وتكافؤ الفرص، وهو ما يؤكد ضرورة مواصلة تعميم السنة التحضيرية لجميع التلاميذ في المرحلة العمرية 6-5.

أما في التعليم الإعدادي والثانوي فإن الفرص في اختيار المواد الاختيارية في السنوات النهائية محدودة جدًا بل مفروضة  في وقت يتمتع فيه تلاميذ المدن الكبرى بدراسة اللغات كالإيطالية والألمانية، وغيرها، بينما تغيب هذه المواد عن بقية المعاهد في الجهات الداخلية.

رئيس جمعية جودة التعليم لـ"الترا تونس": إضافة إلى التفاوت بين المؤسّسات التربوية على مستوى البنية التحتية والموارد البشرية، فإنّ المعاهد التونسية تشهد تفاوتًا إضافيًّا فيما يتعلّق بالشُّعَب والمواد الاختياريّة

وفي هذا السياق، يؤكد رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم سليم قاسم في تصريح لـ"الترا تونس" أنّ عدم توفّر الإمكانية لدراسة لغة أجنبيّة ثالثة على غرار الصّينيّة والإسبانيّة والإيطاليّة والألمانيّة في عدد من المعاهد الثانوية يطرح مسألة اختلاف العرض التربويّ من مؤسّسة تربويّة إلى أخرى، وهو ما يطرح بدوره، برأيه، مسألة الإنصاف بين المتعلّمين في نظامنا التّعليميّ.

وأوضح في هذا الصدد أنه "بالإضافة إلى التّفاوت القائم بين المؤسّسات التّربويّة على مستوى البنية التّحتيّة والموارد البشريّة والبيئة المحيطة، فإنّ المعاهد التونسية تشهد تفاوتًا إضافيًّا فيما يتعلّق بالشُّعَب والمواد الاختياريّة التي تقترحها على التلاميذ.

ويضيف: وكم من متعلّم وجد نفسه "مخيّرًا" بين مواصلة الدّراسة في شُعبة لا يرغب فيها وبين الانتقال إلى معهد آخر، لأنّ الشّعبة التي طلبها غير متوفّرة في معهده الأصلي. والأمر نفسه ينطبق على المواد الاختياريّة، حيث يجد المتعلمون أنفسهم في كثير من الأحيان مجبرين على التسجيل في مادّة بعينها وصرف النّظر عن مادة أخرى بسبب عدم تدريس المادة المطلوبة في معاهدهم. 

رئيس جمعية جودة التعليم لـ"الترا تونس": كم من متعلّم وجد نفسه "مخيّرًا" بين مواصلة الدّراسة في شُعبة لا يرغب فيها وبين الانتقال إلى معهد آخر، لأنّ الشّعبة التي طلبها غير متوفّرة في معهده الأصلي

وأكد أن "تزداد هذه الظّاهرة حدّة في عدد من المعاهد الكائنة بالمناطق الداخلية، لا بسبب نزعة إلى تهميش هذه المناطق وعدم إعطائها الأولويّة، وإنّما لأنّ الحوكمة الحالية للمنظومة التعليمية لا يمكن أن تفضي إلّا إلى هذه النّتيجة".

ويرى محدث "الترا تونس" أنّ الحرص على تدريس أكبر عدد من اللّغات الأجنبيّة في معاهدنا هو حرص محمود بلا شكّ، باعتباره يمنح المتعلّمين فرصًا إضافيّة للانفتاح على ثقافات أجنبيّة متنوّعة، غير أنّ قلّة عدد التّلاميذ في السّنتين النّهائيّتين من التّعليم الثّانوي في العديد من المعاهد يجعل من المستحيل عمليًّا تكوين فرق لدراسة جميع اللّغات، فضلًا عن أنّنا نسجّل ميلًا لدى معظم التّلاميذ إلى لغات بعينها، في علاقة بما يعتبرونه سهولة في تعلّمها، وهو ما يعني نتائج جيّدة يمكن تحصيلها في امتحان البكالوريا، معتبرًا أنّ "كلّ ذلك لا يسمح بوجود عدد أدنى من ساعات التّدريس يمكن أن يبرّر انتداب مدرّس لهذه اللّغة أو تلك". 

واستطرد قائلًا: "لئن أمكن تجاوز هذا الإشكال في التجمّعات السّكنيّة الكبرى التي تضمّ عديد المعاهد، وذلك بوجود "المدرّس الجوّال" الذي يتوزّع جدول أوقاته على مؤسّستين تعليميّتين أو أكثر، فإنّ هذا الحلّ غير قابل للتّنفيذ في المناطق النّائية ذات المؤسّسات التّربويّة المتباعدة".

رئيس جمعية جودة التعليم: عدم التكافؤ في تدريس اللغات يزداد حدة في المعاهد الكائنة بالمناطق الداخلية، لا بسبب نزعة إلى تهميش هذه المناطق وإنّما لأنّ الحوكمة الحالية للمنظومة التعليمية لا يمكن أن تفضي إلّا إلى هذه النّتيجة

ويرى محدثنا أن "الحلّ الأمثل الذي من شأنه أن يمكّن من تقليص أثر هذه الظّاهرة على درجة الإنصاف بين التّلاميذ، بقطع النّظر عن انتمائهم الجغرافي، هو اعتماد التّعليم الإلكتروني".

وأردف في هذا الصدد أنه "قد آن الأوان للمنظومة التربوية التونسية، وهي التي كانت رائدة في هذا النوع من التعليم منذ بداية الألفيّة، أن تتخلّص من مقولات العجز والفشل المتخفّية وراء تعلّات واهية من قبيل عدم توفّر التّجهيزات والشّبكات".

كما اعتبر سليم قاسم أنه "آن الأوان للقائمين على هذا القطاع ليوفّروا خدمات تعليمية حقيقية لفائدة التلاميذ، بل إنّ هذا المشروع، أي توفير التّعليم عن بعد لتعلّم لغة اختياريّة ثالثة يمكن أن يكون منطلقًا لمشاريع أهمّ وأشمل، فضلًا عما يمكن أن يلقاه من دعم من الدّول المعنيّة، في إطار تعاون ثنائيّ مثمر وبنّاء تقوده وزارة التّربية وفقًا لأولويّاتها وأهدافها ومخطّطاتها، وفي إطار الاحترام التّامّ لسيادتنا التّربويّة التي يجب أن تبقى جزءًا لا يتجزّأ من سيادتنا الوطنيّة".

رئيس جمعية جودة التعليم: آن الأوان للمنظومة التربوية التونسية أن تتخلّص من مقولات العجز والفشل المتخفّية وراء تعلّات واهية من قبيل عدم توفّر التّجهيزات والشّبكات وأن توفر خدمات تعليمية حقيقية لفائدة التلاميذ

التفاوت وعدم الإنصاف في الخدمة التعليمية تكشفها بشكل جلي وواضح نتائج البكالوريا، فولاية صفاقس (وسط شرقي) تحتكر المرتبة الأولى منذ أكثر من 50 عامًا في نسب النجاح.

تليها في المراتب الخمسة الأولى ولايتين على الأقل في جهة الساحل (سوسة والمنستير والمهدية، وسط شرقي) وولاية  من إقليم تونس الكبرى (العاصمة ومنوبة وأريانة وبن عروس، الشمال الشرقي)، وفي المرتبة  الثالثة نجد ولايات من الشمال والوسط الشرقيين (نابل، بنزرت، زغوان، قابس، مدنين). 

أما المراتب الأخيرة فهي "حكر" على ولايات الجهات الداخلية الغربية من الشمال إلى الجنوب وهي على هذا النحو منذ السبعينات.

وقد حاولنا طرح هذه الإشكالية على وزارة التربية لمعرفة أسبابها وتسليط الضوء على برامجها المستقبلية للحد منها على المدى القريب والمتوسط، فتم  توجيهنا لمدير عام المرحلة الإعدادية والتعليم الثانوي أحمد السليمي إلّا أنه، رغم محاولاتنا المتكررة، لم يرد على اتصالاتنا على الرغم من تعهده بتقديم كل المعطيات بخصوص ذلك.