06-يوليو-2018

أدى انفجار في قناة جلب مياه رئيسية بالزهروني إلى انقطاع المياه عن عدة مناطق في ولايات تونسية مختلفة

أخرجت "الزّهروني" ما في جعبتها وصنعت الحدث. انفجر الأنبوب تحت الأرض وأغرق ما فوقها. من كان يظنّ أنّ أنبوبًا واحدًا في بلادي قادر على جعل الحكومة تعتذر من المواطنين؟ الحكومة بجلالة قدرها تطلب المعذرة من سكّان منطقة غير "المرسى" و"قرطاج"؟ إنّها لعمري سابقة خطيرة تنذر إمّا بلوثة أصابت "أنابيب" القصبة أو باقتراب السّاعة. أو ربّما كلّ ما في الأمر، أنّ الحكومة قرّرت أن تخرج ما في جعبتها...

اقرأ/ي أيضًا: قرارات خلية الأزمة إثر انفجار قناة جلب مياه بالزهروني

يقول قاموس المعاني المتاح على شبكة الإنترنت لمن أراد إلى المعنى سبيلًا، إنّ جمع "جعبة" يكون "جَعَبات و جَعْبات و جِعاب"... ويقال عن فلان : "أفرغ ما في جعبته" أي باح بمكنون صدره. أو "إنّه جعبة معلومات" بمعنى الشخص الّذي يملك معلومات كثيرة أو يتذكّرها. وتكون "الجعبة" بمعنى أنبوب أيضًا كقولنا "أدخل الأسلاك الكهربائية في الجعاب" أي في الأنابيب.

الحكومة بجلالة قدرها تطلب المعذرة من سكّان منطقة غير "المرسى" و"قرطاج"؟ إنّها لعمري سابقة خطيرة تنذر إمّا بلوثة أصابت "أنابيب" القصبة أو باقتراب السّاعة

أبذل هذا المجهود العظيم في النقل عن القاموس لأوضّح لمن قد تسوّل له نفسه رميي بـ"البذاءة" أنّ دلالة الكلمة العربية الفصيحة سابقة للدّلالة التي أضفاها التونسيون على "الجعبة". وأنّني مسؤولة فقط عمّا أقصده باستخدامي لهذه اللفظة العربية القحّة وغير مسؤولة بتاتًا عمّا قد يجنح إليه البعض في خيالهم من معان ودلالات "أستغفر الله العظيم".

في السّنوات الأخيرة، كنت كلّما سافرت إلى بيت العائلة في الحامّة أجد مشكلة في توزيع المياه.  يتدفّق الماء من حنفية المطبخ وغرفة الحمّام بشكل ضعيف، وكان عليّ أن أدرس جيّدًا مواعيد الاستحمام للحصول على "دوش" محترم لا على حصّة ريّ قطرة قطرة. هناك، تحت "الدوش" في الحامّة، المعروفة بثروتها المائية الباطنية، بدأ يتشكّل لديّ الوعي بأزمة المياه التي تحيط بالبلاد. لذا، أعتقد أنّه من الطبيعي ألاّ ينتبه السياسيون وصانعو القرار وواضعو الخطط الاستراتيجية في العاصمة إلى تلك الأزمة، مادام الماء "يشرشر" فوق رؤوسهم وتحت أقدامهم في غرف الحمّام. "الدّوش" الغزير مفسدة الحكومات سواء كان "يمطر" ماء أو أشياء أخرى.

لكنّ أزمة شحّ المياه وندرتها لم تعرفها الحامّة فقط... منذ سنوات طويلة يشتكي المواطنون في مناطق داخلية عديدة من "العطش". ليس غريبًا ألاّ تتمكّن في منطقة عين دراهم بالشمال الغربي، حيث تسجّل أعلى نسب تساقط الأمطار، من الاستحمام في النزل لأنّ ضعف تدفّقه من الحنفية لا يسمح بتشغيل السخّان. لنتخيّل إذن الوضع في البيوت أين لا يزال التونسيون والتونسيات أصيلو تلك المناطق المهمّشة يتكبّدون عناء المشي كيلومترات صيفًا وشتاء لجلب المياه.

"الجمايلية عطاشى" يقول "عمّي الرّاجل". و"المواطن مسؤول عن إهدار الماء" تقول "عمّتي الحكومة"

اقرأ/ي أيضًا: أزمة المياه.. هل باتت تونس مهددة بالعطش؟

"أنابيب" كثيرة انفجرت داخل صدور التونسيين غضبًا وقهرًا وعطشًا. صرخوا ورفعوا شعارات وقطعوا طرقات آملين أن تنتبه الحكومة إليهم لكنّ قناة نقل "الفهم" من الهامش إلى المركز كانت معطّبة على ما يبدو. ربّما وقعت عليها رافعة هي الأخرى شطرتها نصفين أثناء انشغال الحكومة بمقاولاتها المعتادة. أو لعلّ الأنابيب التي تنقل شكاوى المواطنين إلى القصبة أصابها ما أصاب قنوات نقل المياه من تكلّس. "منّو العوض وعليه العوض". و"ما عند الله خير وأبقى".

"الجمايلية عطاشى" يقول "عمّي الرّاجل". و"المواطن مسؤول عن إهدار الماء" تقول "عمّتي الحكومة". لذلك يجب إحداث سلك شرطة المياه لتتبّع المواطنين المخالفين، وهذا أمر محمود، لكن لا بأس بغضّ النظر عن الإهدار المهول سنويًّا للمياه في مسابح النزل والمؤسسات العمومية وبشكل غير مدروس أو مراقب في الصناعة والفلاحة. نسيت الحكومة أنّه وفقًا للتصنيف العالمي يعدّ التونسي فقيرًا بالفعل من حيث معدّل استهلاك المياه سنويًّا. ما المانع أن يزداد فقرًا؟ يتساءل مراقبون.

ما يزعجني في حادثة أنبوب "الزهروني" هو أنّ الحكومة لم تحرّك ساكنًا إلاّ عندما بلغ السّيل "الحلقوم"  في مركز حكمها الرّشيد. أبناء الهامش القاطنون "وراء البلايك" لا يستحقّون بيانات متسلسلة ومقاطع فيديو مباشرة على الصفحة الرسمية للـ"صّوناد" ولا اعتذارًا من السيد الوزير باسم كامل أفراد الحكومة الموقّرة. ليس للـ"جمايلية" حسابات فايسبوك تمطر القصبة والشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه بالمنشورات الساخرة والموبّخة والمندّدة... فوزراء الشاهد كما عوّدونا "ألاّ يعوّدونا دائمًا" لا يتحرّكون إلاّ بناء على حجم تفاعل الفضاء الأزرق الافتراضي مع الكوارث الوطنية. ما يحدث في "العالم الأزرق" الحقيقي لا تصلهم أصداؤه بالشكل الكافي.

مادام الماء يتدفّق بغزارة من صنابير "الدوش" في بيوت السياسيين وصانعي القرار فلن يكون هناك حاجة ملحّة لوضع استراتيجية وطنية لحماية الثروة المائية

"العالم كلّه يشهد أزمة مياه والحرب القادمة ستكون للسيطرة على مصادر المياه أساسًا، فلم التحامل على الحكومة"، يتساءل صديقي "أبو المنطق" وهو يحتسي قهوته الثالثة لهذا اليوم مبذّرًا في الآن ذاته كمية محترمة من الحليب والماء المقطوعين. أي نعم، ليس الجفاف وندرة المياه مشكلًا حكرًا على تونس، لكن ماذا فعلنا ونفعل لمواجهته؟

مازلنا نتكاسل عن صيانة شبكة المياه للحدّ من التسرّبات ونتقاعس عن التحكّم في مياه الأمطار بمعالجة السدود وتعزيزها بأخرى في المناطق الصحراوية التي غدت تشهد فيضانات، ولسنا نرى جدية في تطهير مياه الصّرف الصحّي ولا حزمًا في التصدّي للحفر العشوائي للآبار وتبذير المياه في نزل "شكون وشكون".

مادام الماء يتدفّق بغزارة من صنابير "الدوش" في بيوت السياسيين وصانعي القرار فلن يكون هناك حاجة ملحّة لوضع استراتيجية وطنية لحماية الثروة المائية. ومادامت أنابيب نقل المياه إلى العاصمة "لم تتكلاطا" بعد فتونس بخير... ولا خوف من العطش... هكذا يقول "إلّي بالي بالك"، أمّا "عمّي الرّاجل" صاحب رائعة "الجمايلية عطاشى" فله قول آخر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

نظرًا لمحدودية الموارد المائية: وزارة الفلاحة تقدم جملة من التوصيات

المرصد التونسي للمياه: الاحتجاجات متواصلة إزاء انقطاع المياه في عدة جهات