مقال رأي
لعلّ طرح سؤال حول من المساهم الأكبر فعليًا في انتشار التفاهة عبر السوشال ميديا، هل هو الباث أم المتقبّل؟ يحيلنا آليًا إلى تذكّر تلك المعضلة الأزلية، واللغز الكلاسيكيّ حول أيّهما جاء أولًا البيضة أم الدجاجة. فعلى الرغم من أنّ العلماء حسموا هذا الجدل، أو هكذا تصوّروا على الأقل، فإنّ المأزق مازال قائمًا لدى الكثيرين، ومازال إلى اليوم، يسيل حبرًا كثيرًا.
البحث عن المساهم بنسبة أكبر في انتشار التفاهة على منصات التواصل الاجتماعي، فيه إقرار ضمنيّ بأنّ كلاهما مسؤول بنسبة متفاوتة
الأمر نفسه ينطبق على سؤالنا.. فهو إن كان يبحث عن "المساهم بنسبة أكبر في انتشار التفاهة" على منصات التواصل الاجتماعي، فإنّه ضمنيًا يقرّ بأنّ كلاهما مسؤول بنسبة متفاوتة. لكلّ فرد من ناشر التفاهة ومتلقّيها، نصيب من المسؤولية. لكن أولًا ماذا نقصد بالتفاهة؟
-
ما التفاهة؟
لا شكّ عندي أنّ الكثيرين قبل اليوم، تطرّقوا إلى هذا المبحث، وتعمّقوا في تفاصيله، بشكل يجعل من هذا الكلام ربما، كلاسيكيًا وبديهيًا، لكنّنا نعوّل على أنّ المنعوت بالتفاهة لا يقرأ، فإن قرأ فإنه لا يفهم، فإن فهم، فإنّه ندر أن يعود إلى جادة الصواب.
ولا أظنّ أنّ شخصًا قد اختزل معنى التفاهة، بقدر ما فعل الكاتب الإيطالي الشهير أمبرتو إيكو، حين قال ردًا على سؤال صحفي: "أدوات مثل تويتر وفيسبوك، تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممّن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء".
"التافه" في منصات التواصل، هو من اكتسب شهرته عبر القيام بحركات غبيّة أو التفوّه بأمور جنونية، فخرج عن السائد لخلق "البوز" المطلوب لحصد مشاهدات أكثر
نفهم من تصريح إيكو، أنّ منصات التواصل قد أتاحت للبعض التسبّب في أضرار للمجتمع.. حصرها اليوم لم يعد ممكنًا للأسف بسبب تشابكها الشديد إلى درجة يصعب معها فكّ هذا الارتباط.. هل نذكر ضمن هذه الأضرار، تسويق "المؤثرين" لفكرة إمكانية مراكمة الثروة بين ليلة وضحاها عبر هذه المنصات؟ ترويج نموذج المنقطع المبكّر عن الدراسة الذي يجني من المال في شهر ما يعجز عن جمعه صاحب شهادة عليا في سنة؟
إنّ "التافه" في منصات التواصل الاجتماعي عمومًا، هو من اكتسب شهرته عبر القيام بحركات غبيّة أو التفوّه بأمور جنونية أو ارتكابه لـ"فضيحة" بمعناها العام، فخرج عن العرف السائد والمتداول لخلق "البوز" (الضجة) المطلوب لحصد مشاهدات أكثر، ما يرفع له نسبيًا عدد المتابعين، بشكل يمكّنه من تسويق نفسه للماركات التي لا يهمها سوى الربح، على أنّه يحظى بمتابعة كبيرة.
-
انتشار التفاهة.. المتلقّي هو المساهم الأكبر
سنميل إلى التسليم بفرضية أنّ المتلقّي هو المساهم الأكبر في انتشار التفاهة لجملة من الأسباب. يقول آلان دونو، في كتابه "نظام التفاهة": "إن مواقع التواصل نجحت في ترميز التافهين، حيث صار بإمكان أي جميلة بلهاء، أو وسيم فارغ أن يفرضوا أنفسهم على المشاهدين، عبر عدة منصات تلفزيونية عامة، هي أغلبها منصات هلامية وغير منتجة، لا تخرج لنا بأي منتج قيمي صالح لتحدي الزمان..".
ليس بإمكان المتقبّل أن يلوم الباثّ على مواصلته في ترويج التفاهة، والحال أنّه مازال يطلبها بل ويساهم في نشرها دون أن يجد الجرأة على القطع معها
إنّ نظام عمل خوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي، تجعل من المحتوى الذي تقترحه عليك لمشاهدته، هو من جنس المحتوى نفسه الذي تقضّي أغلب وقتك تشاهده وتتفاعل معه. هب أنّك مثلًا مهتمّ بفنّ "الراب"، فستجد أنّ نسبة هامة من فيديوهات "الريلز" تُظهر لك خصّيصًا مناوشات هؤلاء النجوم فيما بينهم وتصريحاتهم الإعلامية، وجديدهم بشكل دائم.
الأمر نفسه أيضًا ينطبق على محبّي فيديوهات أهداف كرة القدم، والطبخ، والرقص.. وغيرها. أذكر أنّ صديقًا بحث في هاتفي ذات يوم عن شقة للإيجار في إحدى الضواحي.. فباتت تعترضني لأيام بعدها فيديوهات الوكالات العقارية والسماسرة والمهندسين المعماريين وكلّ ما يتعلّق بعملية كراء المنازل عمومًا.. إنّ الخوارزميات لأمر مربك فعلًا.. تطبّق القاعدة الشهيرة التي تنصّ على أنّ الجزاء يكون من جنس العمل! فإذا كان ما يهمّك أن تشاهده فعلًا هي فيديوهات "التكبيس" والمقالب المفبركة والفضائح وهتك الأعراض وهلمّ جرًا.. فإنّ الظلّ لا يستقيم والعود أعوج!
ليس بإمكان المتقبّل أن يلوم الباثّ على مواصلته في ترويج التفاهة، والحال أنّه مازال يطلبها ويتابعها، بل يلمّ بتفاصيلها ويساهم في نشرها دون أن يجد الجرأة على القطع معها. وصدق من قال إنّ "السكوت عن الأحمق جوابه، والسكوت يزين الأحمق والكلام يشينه".
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"