15-نوفمبر-2018

حينما تحولت معصرة متروكة إلى أول قاعة سينما في عقارب (سامي البحري)

"قناعتي العميقة هي أن المستقبل غير مدوّن في أي مكان، وأن المستقبل سيكون ما نصنعه نحن منه"، هي مقولة للأديب اللبناني أمين معلوف، وكذلك هي شعار رئيس الجمعية التونسية لمسرح الطفولة والشباب سامي البحري، الذي يحمل الثقافة في قلبه حيثما حلّ ويزرع بذورها في الأماكن التي يراها بعين مغايرة لأعين من يرونها غير مؤهلة لاحتضان أنشطة ثقافية.

انتظمت أيام عقارب السينمائية من 10 إلى 13 نوفمبر 2018 في فضاء ثقافي هو في الأصل معصرة مهجورة في ظل غياب قاعات سينما بالمدينة

فببادرة من الجمعية التونسية لمسرح الطفولة والشباب و"الورشة 271"، انتظمت أيام عقارب السينمائية من 10 إلى 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2018 في فضاء ثقافي رأى النور على يد سامي البحري وأخيه شكري اللذان ينتهجان رؤية عمادها لامركزية الثقافة، ثقافة غرس يونع في كل مكان وفي كل زمان ويظلل كل الناس دون استثناء.

وقد انبعثت أيام عقارب السينمائية في مدينة تغيب عنها قاعات السينما، وتزامنًا مع اختتام أيام قرطاج السينمائية وانطلاق فعاليات أيام قرطاج السينمائية في الجهات. هو انبعاث من رحم العدم، ففي المنطقة التي لا توجد فيها فضاءات لعرض الأفلام تجنّد كل الأهالي ليصير الحلم حقيقة، كما تحدث سامي البحري لـ"الترا تونس".

اقرأي أيضًا: بالفيديو: نجاة بامري.. فنانة عصامية تحدّت الإعاقة لترسم بفمها

حينما تنبعث الحياة من العدم

انطلقت أيّام عقارب السينمائية بفكرة دارت في خلد شباب من الجهة يعتنقون الفنّ ويؤمنون بدوره في تكريس قيم المواطنة وحب الوطن، فحوّلوا حلمهم إلى حقيقة. وقرّروا أن يكون افتتاح أيام عقارب السينمائية في ريف الجهة رفضًا لمركزية الثقافة.

وانطلقت، في منطقة بولذياب، رحلة البحث عن فضاء يكون ملائمًا لعرض الأفلام. وما إن طُرحت الفكرة على المواطنين في المنطقة حتّى تجنّدوا لتحقيقها كما يحدثنا رئيس الجمعية التونسية لمسرح الطفولة والشباب سامي البحري.

وأفادنا أنه بعد النقاش بخصوص المكان المناسب لتنظيم التظاهرة، استقر الاختيار على معصرة متروكة وافق صاحبها أن تتحول إلى قاعة للسينما هي الأولى من نوعها في مدينة عقارب، التابعة لولاية صفاقس، حاملة اسم الأديب التونسي أصيل المنطقة الطيب التريكي.

المعلقة الإشهارية لأيام عقارب السينمائية

وفي حديثه عن تحويل معصرة إلى قاعة سينما، يقول سامي البحري، إنّ نساء المنطقة هن اللاتي تكفّلن بتهيئة المكان وإنّ كل أهالي المنطقة كانوا متعطشين للسينما ورحبوا بالفكرة وساهموا في بعث الحياة في المعصرة المتروكة.

بذلك انبعثت الحياة من العدم في منطقة عقارب المهمشة والمنسية، وخلقت هذه التظاهرة حركية ودفئا تحدّيًا لليالي نوفمبر/تشرين الثاني الباردة وقد لبّى الأهالي نداء السينما.

"لكم قاعات السينما ولنا المعصرة.. لكم السجّاد الأحمر ولنا المرقوم"

معصرة نفثت فيها نساء المنطقة بعضًا من بساطة أرواحهم ودفئها، صارت قاعة مؤهلة لعرض الأفلام السينمائية: كراس بيضاء بسيطة، ومرقوم فُرش على امتداد مدخل المعصرة، وأطفال باللباس التقليدي، هي بساطة ممزوجة بروح الفن كأنها تهمس: "لكم قاعات السينما ولنا المعصرة.. لكم السجاد الأحمر ولنا "المرقوم" (سجاد تقليدي) ولكننا نحب السينما".

سامي البحري (رئيس الجمعية التونسية لمسرح الطفولة والشباب): رغم طبيعة الأفراد في ريف العقارب الذين يتجنّبون الاختلاط إلا أن قاعة السينما ضمت المواطنين من مختلف الأعمار

ويشير سامي البحري لـ"الترا تونس" إلى أنّ الخيار كان أن يشترك كل متساكني عقارب في تحضيرات فعاليات الافتتاح على اعتبار أنّ الثقافة تقوم على المشاركة لا الإسقاط.

وعن اختيار "المرقوم" عوض السجاد الأحمر، وارتداء اللباس التقليدي للسائرين عليه، يقول محدثنا إنّ أيام عقارب السينمائية نابعة من الجهة وإليها تعود، ولذلك تم تعويض السجاد الأحمر بـ"المرقوم" الذي أحضرته العائلات، فيما كان الأطفال باللباس التقليدي هو نجوم "المرقوم" بتعبيره.

ويشير رئيس الجمعية التونسية لمسرح الطفولة والشباب إلى أنّه رغم طبيعة الأفراد في الريف الذين يتجنّبون الاختلاط، إلا أن قاعة السينما ضمت نساءً ورجالًا وشيًبا وشبابًا، مؤكدًا أن هذه التظاهرة السينمائية احتضنت مواطني الجهة باختلاف أعمارهم حتى أن بعضهم لم يجد كرسيًا ليجلس عليه.


ارتدى الأطفال اللباس التقليدي في يوم افتتاح أيام عقارب السينمائية (سامي البحري)

درس في المواطنة ورسالة للسلطة

خطّ متساكنو منطقة بولذياب التابعة لمعتمدية عقارب من ولاية صفاقس درسًا في المواطنة من خلال إسهامهم في بعث أول قاعة سينما في المنطقة من معصرة تغيب عنها الإنارة الكهربائية.

 أيام عقارب السينمائية برهنت على دور السينما في ترسيخ قيم المواطنة وحب الوطن

إذ مدّ الأهالي أسلاك الكهرباء التي أحضروها من منازلهم إلى أقرب منزل من المعصرة وهو يبعد عنها قرابة 150 مترًا، وذلك حتى يتمكنوا من إنارة قاعة العرض، وهو ما يثبت حب الناس للفن والسينما غير أن الدولة تناستهم، وفق تعبير محدثنا سامي البحري.

ويؤكد محدّثنا، بصوت ممزوج بالفرح والفخر،أنّ أيام عقارب السينمائية برهنت على دور السينما في ترسيخ قيم المواطنة وحب الوطن.

 

كواليس تحويل معصرة زيتون لقاعة سينما  (سامي البحري)

للمدرسة والمقهى والسوق نصيب من السينما

كانت فعاليات أيام عقارب السينمائية استثنائية من افتتاحها إلى اختتامها، إذ شملت برمجتها عروضًا سينمائية بالمدرسة الابتدائية بمنطقة المراعنية، ومعهد عقارب، وبفضاء السوق الأسبوعية وكذلك بالمقاهي، وذلك في إطار تعميم حق الثقافة على الجميع وكسر جليد المركزية.

ووسط مدينة عقارب، أين يبيت التجار ليلة انتصاب السوق الأسبوعية كل يوم أربعاء، عُرضت أفلام سينمائية في المقاهي. كما عُلّقت في سوق التبن حيث ترسو الشاحنات، شاشة عرض على إحداها تحلّق حولها المشاهدون غير عابئين ببرودة الطقس.

بيّنت أيام عقارب السينمائية على بساطتها عمق الهوّة بين المشهد الثقافي في العاصمة التونسية من جهة والجهات من جهة أخرى، وأكدت أنّ عقارب إذا أرادت السينما فهي في حل من السلطة والمركز، وأنّ القدر لا بد أن يستجيب لها لأنّ بها شبابًا يؤمنون بأن الثقافة مفتاح التغيير.

المواطنون في سوق التبن في عقارب يشاهدون شريطًا سينمائيًا (سامي البحري)

اقرأ/ي أيضًا:

"أيام قرطاج السينمائية" في السجون.. السينما تجتاح السجن!

جيلبار نقّاش يقدّم "كريستال" في حلتها العربية: أقف وحيدًا على أرض الحرية