31-أغسطس-2020

لسنا في هذه المرحلة بمعزل عن صراعات الأجنحة والأمزجة (ياسين القايدي/وكالة الأناضول)

مقال رأي

 

منذ سحب الثقة من رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ وما بدا أنّه فشل للطّبقة السياسيّة الحزبيّة برمّتها، بدا أنّ الأحداث تتّجه لتأكيد وتثبيت أطروحة رئيس الجمهورية القائل بسياسة غير حزبيّة أو "ما بعد حزبيّة". وبسرعة قصوى، تمّ تكليف السيد هشام المشيشي بتشكيل الفريق الحكومي دون استشارات سابقة أو لاحقة مع "الآخرين"، تلك الكيانات السياسية الحزبية المتصارعة فيما بينها والتي لا يهمّها إلاّ التّموقع. كان تكليف المشيشي الذي لقي بعض ترحيب لدى المزاج العامّ المحكوم بالملل من السياسة والسياسيين مؤشّرًا على أنّ نظريّة قيس سعيّد بخصوص ممارسة سياسيّة لا لوثة حزبيّة فيها وتربط الصلة المباشرة بالشّعب قد بدأت تجد طريقها للواقع الملموس. وعلى نفس النّحو، ربّما كانت الضبابية المستجدّة في العلاقة بينهما مؤشّرًا علي تهافت المنهج وعقم المقاربة.

هل يمكن تدبير السياسة أيّا تكن السياسة وأيّا يكن البلد دون فريق وتجربة جماعيّة ممتدّة في الزّمن وخبرة في النّساء والرّجال؟

هل يمكن تدبير السياسة أيّا تكن السياسة وأيّا يكن البلد دون فريق وتجربة جماعيّة ممتدّة في الزّمن وخبرة في النّساء والرّجال؟ ماذا يعني أن تكون كفاءة لإدارة الملفّ التربوي أو الاجتماعي في هذا الظّرف الصّعب المستصعب؟ ولو كان ثمّة معايير ووصفات سحريّة لتدبير الأمور بشكل علمي تقني مجرّد عن الرؤية والتجربة الجماعيّة المنطلقة من حلم جماعي – وهذه هي السياسة كما نفهمها – فهل كانت بقيّة الأمم لتلجأ للانتخابات وللإجراءات الديمقراطيّة وغيرها؟

هذا التّململ – إن لم نقل عبثًا – يحيلنا على ما هو أعمق وأكثر راهنية وامتدادًا في التّاريخ أيضًا. فهو أوّل دليل ملموس على سطحيّة تقزيم الأحزاب وما ينطوي عليه من إنشائيّات شعبويّة تفضي إلى تعيين الكفاءات الإداريّة والقضاة – وتلك بدعة غير محمودة – على رأس السلطة التنفيذية.

اقرأ/ي أيضًا: تونس: أزمة حكومة لم تبدأ بعد

إنّ ما تعمد إليه الرئاسة، بنيّة وباسم التعفّف عن الحزبيّة والفئويّة وسلوك طريق الإرادة الشعبيّة الصافية، إنّ ما تعمد إليه الرئاسة من تدبير غير سياسيّ لشؤون الدّولة ليس بصدد إنتاج نموذج سياسي تاريخي بديع أو "ما بعد حزبيّ " وإنّما يعود بتونس إلى ظاهرة "السرايا" في تدبير الأمور والتي يكشف لنا التّاريخ المعاصر لتونس قبل الثورة عن سيرورتها المؤسفة بعد الاستقلال. نتحدّث هنا عن دور وسيلة بورقيبة "الماجدة" في السياسة التونسية وتشكيل الحكومات وإسقاطها وتصعيد الوزراء أو إخراجهم من اللّعبة.

ويوثّق البحث التاريخي لنور الدقي بعنوان "اليد الخفيّة"1 عن سيرة وسيلة بن عمّار بورقيبة موقع "السّرايا" أو المجال الشخصي والخاص لرئيس الجمهوريّة بورقيبة في صنع السياسة أو في تجفيف منابع الممارسة الحزبيّة المؤسّساتيّة. ويتقاطع كلّ ذلك مع مذكّرات رجال الدّولة التونسية الذين كانوا بمنأى عن سياسة السّرايا على غرار الباهي الأدغم وشهادته القيّمة في "الزّعامة الهادئة".

لسنا في هذه المرحلة من تاريخ تونس أو رئاسة الجمهوريّة فيها على الأقلّ بمنأى عن هذا المرض الخبيث: غياب الصراع السياسيّ المؤسساتي لصالح صراعات أجنحة وأمزجة وأهواء شخصيّة مخفيّة يُلمّح لها همزًا ولمزًا في كواليس الإعلام والسياسية. يبدأ ذلك بدور مديرة الديوان السيدة نادية عكاشة في التفاوض والتعاطي شبه السياسي والتّقريب والتّبعيد، ولا ينتهي عن تعيين القضاة في حكومة المشيشي المقترحة صادف أنّ بعضهم كان يرأس دوائر قضائية عملت فيها حرم الرئيس.

لسنا في هذه المرحلة من تاريخ تونس أو رئاسة الجمهوريّة فيها على الأقلّ بمنأى عن هذا المرض الخبيث: غياب الصراع السياسيّ المؤسساتي لصالح صراعات أجنحة وأمزجة وأهواء شخصيّة مخفيّة

وتوخّيًا للوضوح، فإنّه من حقّ الرئيس أن يتخيّر في صنع قراره كرئيس مستشاريه من أهل ثقته أو الأقارب وإن كانت زوجة أو أخًا أو ابنًا أو مستشارًا مقرّبًا. لكنّ الفيصل والمهمّ في كلّ هذا هو ألاّ تُختصر السياسة والمؤسّسات في صنع قرار الرئيس عبر أقاربه وأهل ثقته. وأقصر الطّرق لهذا التشوّه، تشوّه "السرايا"، هو نفي الطّبيعة السياسية لدور رئيس الجمهوريّة باسم التعفّف عن التفاوض والتشاور والنّقاش. يغدو رئيس الجمهوريّة حينئذ كائنًا مبهمًا منعزلًا ويقيه ذلك شرّ محاسبة الرأي العامّ أو الاختلاط بالسياسيين، ويحيطه ذلك بهالة الأستاذ أو الملك الذي يوجّه ويلقي الدروس ولا يتلقّاها.

وإذ لا يمكن إنكار أنّ ذلك الإبهام عنصر قوّة لقيس سعيّد بالمعنى الانتخابي وبمعنى البحث عن الشعبيّة أيّا يكن الثمن، فإنّه يفضي مباشرة لممارسة غير مهيكلة أو موازية للسياسة فيما يمكن تسميته بسياسة "السّرايا" حيث تطغى الشائعات حول الأهواء والأمزجة والصّراعات المتعدّدة والمعقّدة على كلّ مفاهيم الحوار والتفاوض السياسيّين في إطار نظام سياسيّ شبه رئاسيّ شبه برلمانيّ.

ربّما كان تغيّر اتّجاه الرياح في قرطاج بخصوص المشيشي والتخبّط في تشكيل الحومة والأسماء مؤشّرًا على ذلك، وربّما أدّى كلّ ذلك بقيس سعيّد الذي حمل شعار "الشعب يريد" إلى مطبّات التأسيس لسرايا جديدة، ظنّ التونسيّون أنّهم قطعوا معها ومعه ترسّباتها منذ الثّورة.

 

المصادر:

1  Wassila Bourguiba : La main invisible ; Noureddine DOUGUI, Sud Editions, 2020

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل تترنح الديمقراطية في تونس؟

لماذا لا يجب أن يكون إنعاش الاقتصاد أولوية؟