01-ديسمبر-2015

عديدة هي العمليات الإرهابية التي قصفت تونس مؤخرًا وتبنتها جماعات من التيار الجهادي (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

مقال رأي 

 

كنت شاهدت الوثائقي "أبو القعقاع السوري" منذ أيام، ولم أكن مطلعًا على هذه الشخصية من قبل. كشف البرنامج شخصية قيادية في التيار الجهادي وهي في الحقيقة ليست سوى عنصر من عناصر النظام، استقطبت عددًا من الشباب صغير السن، قليل التجربة، يعيش في ظل أنظمة ظالمة مستبدة فاستغلت الشخصية "النموذج" حماسته لقضايا تحرر فلسطين والعراق، لتجنده لخدمة أجندات أنظمة عربية دون أن يعوا ما يفعلون.

في بلاد الياسمين، تيار "جهادي"، انطلق في نشاطه من قبل سقوط بن علي لكن نشاطه كان محدودًا وربما مخترقًا 

صنع نظام الأسد من الرجل بطلًا عندما أرسل عناصر الأمن إلى اجتماع شعبي كبير ليعودوا كأنهم قد طردوا والأمر ليس إلا مسرحية لصناعة الرموز لكنها انطلت على أصحاب التفكير البسيط من الشباب الحاضر، فذاع صيت الرجل في سوريا وزادت الشهرة التي كسبها سابقًا خلال محاضراته وللقارئ أن يتصور المشهد: جهادي يصول ويجول في ظل نظام استبدادي! ثم تبين أن لم يكن الأمر إلا خطة من المخابرات السورية لاختراق الجسم الجهادي وجعله في متناول يدها وتحت مراقبتها حتى أنها تملك أسماء كل الحاضرين في اجتماعات أبي القعقاع والمتعاطفين معه، حسب شهادات ضباط سابقين من النظام الأسدي، خلال الوثائقي.

بالعودة إلى تونس، لا نجد اختلافًا كبيرًا. ففي بلاد الياسمين، تيار "جهادي"، انطلق في نشاطه من قبل سقوط بن علي لكن نشاطه كان محدودًا وربما مخترقًا هو كذلك، لكن لا معلومات مؤكدة عن ذلك رغم أن نظامًا بوليسيًا كالذي كان يحكم تونس لا يمكن أن يترك هذا التيار دون تدخل منه. أما ما عاشته تونس بعد الثورة فيؤكد أن هذا التيار مخترق إلى أبعد الحدود وهو ينفذ أجندة غير وطنية، وللبعض أن يتساءل كيف ذلك؟

سأذكر بعض النقاط والشخصيات المفيدة. أحد هؤلاء هو أحمد الرويسي، أحد أهم الأسماء المرتبطة بتنظيم "أنصار الشريعة"، النسخة التونسية من تنظيم القاعدة. هذا الرجل كان منجّمًا، يعمل لصالح أصحاب الأموال والسياسيين وعمل كثيرًا في خدمة سيدة القصر آنذاك، زوجة الرئيس السابق بن علي. وتحوم حوله شبهات عدة، والرجل على علاقات كبيرة بالسياسيين التونسيين والأثرياء فكيف يدخل السجن في سنة 2006 ويحكم بـأربع عشرة سنة من أجل المخدرات في بلد ينخره الفساد والرشوة والمحسوبية؟

لم يكن إذًا الدخول إلى السجن بهدف العقاب بل بغية التجسس والاختراق، خاصة إذا علمنا أن الرجل كوّن علاقات مع الكثير من الشباب المعتقل حينها على خلفية أفكاره التكفيرية. وحين كانت الثورة أخرج من السجن ولم يعد إليه رغم إعادة الكثيرين، ليصبح فيما بعد قياديًا جهاديًا، ساهم في إشاعة الفوضى وتنفيذ مخططات مخابراتية في تونس، منها اغتيالات لشخصيات سياسية وأمنية وعسكرية، ومحاولة تفجير أماكن سياحية وغيرها من العمليات.

وكما قتل أبو القعقاع بعد أن أنهى عمله لفائدة المخابرات وبناء على بيان نشر على الإنترنت ليكتشف الناس أن البيان لم يكن إلا بيانًا للمخابرات نشر باسم القاعدة، فقد قتل في تونس أحد أشهر منفذي الاغتيالات كمال القضقاضي مع مجموعة أخرى من رفاقه في عملية للأمن التونسي. الغريب في الأمر أن يجتمع عدد من المطلوبين للأجهزة الأمنية التونسية في منزل واحد ليلقوا حتفهم جميعًا، وكأن الذي يوظفهم أراد أن يغلق الملف بنفس الأسلوب!

أغلب الشباب المستقطب من الجماعات الجهادية في تونس، من طبقات فقيرة، يعانون البطالة كما أن محيطهم الأسري لا يوفر لهم تربية إيمانية معتدلة

عديدة هي التفاصيل التي تؤكد أن هذه التنظيمات هي تنظيمات مخترقة لأبعد الحدود وتعمل بأجندة غيرها. ففي صائفة 2013، وبعد اغتيال النائب في المجلس الوطني التأسيسي في تونس، وانتشار حملات تمرد على الشاكلة المصرية وحالة احتقان واسعة، أقام رئيس الحكومة حينها علي العريض ندوة صحفية ليندد بما اعتبره "أعمالًا مقوضة للتجربة الانتقالية" وذكر حرفيًا كلمة "الانقلاب على المسار"، فلم تكن إلا سويعات، حتى وصل نبأ قتل جنود تونسيين في جبل الشعانبي والتنكيل بجثثهم وهي ردة فعل على تصريحات رئيس الحكومة حسب الكثيرين، الذين أضافوا أن العمل الإرهابي يهدف إلى أمرين: أولًا، معاقبة رئيس الأركان حينها لرفضه الانخراط في حالة الانقلاب وخلق حالة من التمرد عليه داخل المؤسسة العسكرية، وثانيًا، توجيه رسالة إلى الترويكا الحاكمة حينها مفادها "لا تقدرين على مواجهة الانقلاب". هذا مهم ولكن الأهم أن من تبنى العملية، كانت مجموعة "جهادية" جديدة وتبين فيما بعد أن معظم قياداتها جزائرية.

والمراقب في تونس، من خلال دراسات اجتماعية أو من خلال إحصاءات عن المشاركين في التيارات السلفية التكفيرية، يعلم طبيعة الشباب المستقطب، فأغلبهم من طبقات فقيرة، يعانون البطالة كما أن محيطهم الأسري لا يوفر لهم تربية إيمانية معتدلة فينشؤون في تشدد ديني مفرط أو في انحلال أخلاقي يجرهم فيما بعد إلى التشدد بدعوى التكفير عن الذنوب.

أيها القارئ، إذا ظننت أن نظرية المؤامرة هي التي تقود كتابتي وتوجهني فأقول لك نعم، فمتى لم يكن العرب والمسلمون عرضة للمؤامرة؟ ما أطلبه منك هو أن تقرأ وتحلل فلعلك ترى في مدينتك بعضًا مما ذكر أعلاه.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"