07-سبتمبر-2023
مقر النهضة أنا يقظ

تمحورت التسريبات الأخيرة حول رئيس حركة النهضة بالنيابة (صورة مقر النهضة/ياسين القايدي/الأناضول)

مقال رأي 

 

عادت التسريبات لتصبح مجددًا أداة سياسية في الساحة التونسية. الحقيقة أن تسمية ساحة لم تعد صالحة للاستعمال، حيث يسود اليوم الانطباع بأن الطريقة الوحيدة التي تصنع بها سلطة قيس سعيّد السياسة هي ما يتوافق مع هوى الأجهزة التي غدت تتحكم، بالرغم من الصراعات الظاهرة داخلها، في كل الشأن السياسي، لتمرر الكرة بعد ذلك للقضاء الذي يقوم بما يُطلب منه بانضباط كامل. هذه مميزات حلَبة ضيقة تحيط بها الحبال، وليست ساحة.

تمحورت التسريبات الأخيرة حول رئيس حركة النهضة بالنيابة وبدت فيها انطباعات الرجل عن بقية قيادات الحركة شديدة السلبية. كما اتضح جانب من الصراعات التي تشق الحركة بين القيادات القديمة والتوجهات الجديدة التي ترمي للتخلص منها، ربما ببعض إسناد من الجهات الرسمية

تمحورت التسريبات الأخيرة حول رئيس حركة النهضة بالنيابة منذر الونيسي، وبدت فيها انطباعات الرجل عن بقية قيادات الحركة شديدة السلبية. كما اتضح جانب من الصراعات التي تشق الحركة بين القيادات القديمة والتوجهات الجديدة التي ترمي للتخلص منها، ربما ببعض إسناد من الجهات الرسمية. لكن هذه التسريبات حملت أيضًا بشرى للسلطات المُتيّمة بعشق المؤامرات: لقد سمحت بالتفكير في إمكانية أن يتعلق الأمر بمؤامرة جديدة ضد الرئيس، ولكن هذا موضوع آخر.

بسبب الانغلاق المستمر للفضاء الإعلامي، لم يتمكن المعنيون بطبيعة الحال من تقديم قراءاتهم وتأويلاتهم لمضمون التسريب، ذلك أن وسائل الإعلام قد استرجعت حكمتها القديمة ورصانتها المفقودة، فغدت حذرة جدًا في تحديد قائمات المدعوين، مفسحة في الوقت نفسه المجال للمتحدثين باسم الأجهزة ومراكز القوى داخل السلطة. لقد شملتها هي أيضًا "رياح التغيير" المنعشة.

فضح التسريب طبيعة العلاقة المتوجسة بين قيادات حركة النهضة، وبدا للكثيرين أنه يكتشف ذلك الآن. لقد كشف الصراعات الرئيسية والفرعية وخريطة التحالفات وجزءًا من رؤية كل طرف لمستقبل الحركة. لكن التأثير الأعظم لهذه التسريبات لا يمكن رؤيته اليوم: إنه ذلك المتعلق بالتأثير المتوقع على مناضلي الحركة الذين ظنوا، بكل "الطّيبة" المعهودة لديهم، أن الصراع الوحيد منذ عامين هو الذي يضع "الانقلاب" في مواجهة "الحركة"، أو "الديمقراطيين". هذه "الطّيبة" كانت باستمرار جزءًا من أدوات التحكم في الحركة من قبل قياداتها، وقد استمر ذلك في الحقيقة منذ عقود.

التأثير الأعظم لهذه التسريبات لا يمكن رؤيته اليوم: إنه ذلك المتعلق بالتأثير المتوقع على مناضلي الحركة الذين ظنوا، بكل "الطّيبة" المعهودة لديهم، أن الصراع الوحيد منذ عامين هو الذي يضع "الانقلاب" في مواجهة "الحركة"، أو "الديمقراطيين"

عندما جاء قيس سعيّد في 25 جويلية/يوليو 2021 ليستولي على كل شيء، كانت الحركة في وضع تفكك واضح جسّمه استئثار مجموعة من القيادات المُتحلّقة حول الشيخ-الرئيس بالقرار، في مواجهة قيادات كثيرة أخرى عليا ووسطى، بعضها تاريخي أيضًا. بطريقة أو أخرى، سمحت حركة قيس سعيّد تلك بإعادة بناء نوع من اللُّحمة الضرورية لتجاوز الأزمة، لكن نيرانًا كثيرة كانت لا تزال تضطرم تحت الرماد.

ما رآه أعداء النهضة وخصومها والمتوثبون للفوز بميراثها من خلال هذه التسريبات، هو أن هذه الحركة تقدم دليلاً آخر على أنها يجب أن يقع تفكيكها، إن بالقضاء أو بالإدارة. بالنسبة لقيادات الحركة، وقع النظر للأمر من زاوية أخرى تمامًا، حيث تزامن "كظم الغيظ" مع شيوع الاتهام للسلطة بأنها وراء هذه "الفتنة"، وهذا أيضًا ضروري لوحدة الحركة ولُحمتها الضائعة.

ليست النهضة بالنسبة للملاحظين الموضوعيين سوى النموذج للمنظومة الحزبية في تونس، بكل سُلوكاتها المتوقعة، وأيضًا بكل خطاياها التي أوصلت البلاد للحظة 25 جويلية

ليست النهضة بالنسبة للملاحظين الموضوعيين سوى نموذج للمنظومة الحزبية في تونس، بكل سُلوكاتها المتوقعة، وأيضًا بكل خطاياها التي أوصلت البلاد للحظة 25 جويلية. يجب أن نقول ذلك مرة أخرى: لو لم تكن المنظومة الحزبية مريضة، لما وقع ما وقع. بل إنها لو لم تكن مريضة جدًا لما استمر ما وقع.

استند قيس سعيّد وأنصاره إلى شيوع انطباع واسع لدى التونسيين بأن سبب الداء هو تلك المنظومة نفسها. اليوم، تستفيد السلطة من فضائح الأحزاب أيما استفادة، بالقول إنها كانت محقة في تقييمها وإزاحتها تمامًا من المشهد. هذا كلام سياسي بطبيعة الحال، والرئيس لم يكن سيقبل بأي دور للأحزاب حتى لو كانت بيضاء ناصعة، لكنه يُسجّل اليوم نقطة جديدة في الصراع مع خصومه، سيوجّهُها لتحقيق نقاط أخرى على المستوى الأمني والقضائي للإجهاز عليهم تمامًا، ما يعني أن مبرراته لإفراغ الساحة من المعارضين ستزداد مصداقية في نظر الجمهور الذي تُسيّرهُ الانطباعات وأنصاف الحقائق، وهو جمهور واسع جدًا.

الرئيس لم يكن سيقبل بأي دور للأحزاب حتى لو كانت بيضاء ناصعة، لكنه يُسجّل اليوم نقطة جديدة في الصراع مع خصومه، سيوجّهُها لتحقيق نقاط أخرى على المستوى الأمني والقضائي للإجهاز عليهم تمامًا

هناك حقيقة ثابتة اليوم، وهي أنه لن يكون بإمكان المنظومة الحزبية الراهنة، بعلّاتها المعروفة، أن تمثل بديلًا مقبولًا لحكم قيس سعيّد. في الوقت نفسه فإن قيس سعيّد لن يسمح لهذه المنظومة بالتقاط أنفاسها لإصلاح ما بنفسها، حتى لو توجه عزمها إلى هذا الإصلاح. هذا سيء جدا لمستقبل البلاد، حيث يدور المستقبل حول دائرة وقع إحكام إفراغها وإغلاقها حتى لا يكون هناك أي شيء مع قيس سعيّد أو بعده.

في الوقت نفسه، فإن نفس القيادات التاريخية القديمة التي سببت جزءًا كبيرًا من أمراض المنظومة الحزبية منكودة الحظ تبدو مستفيدة من الجمود الإجباري المفروض عليها من قبل السلطة اليوم، حيث يمنحها الاستهداف فرصة لترسيخ الشرعية النضالية القديمة وسد ثلماتها الكثيرة والمتراكمة منذ عقود. الأمر إذًا معقد قليلاً.

يدور مستقبل البلد حول دائرة وقع إحكام إفراغها وإغلاقها حتى لا يكون هناك أي شيء مع قيس سعيّد أو بعده

في الوقت نفسه، هل أن منظومة حزبية أصلحت من نفسها قادرة على التعايش مع سلطة تستهدفها في أصل وجودها، حيث لا تمثل الأدلة على مرض هذه المنظومة إلا جزءًا من دعاية الشعبويين الهادفة للاستئثار بكل شيء وإلى الأبد؟ الأمر محسوم بالنسبة لهؤلاء، حيث لا مكان في رؤيتهم لا للأحزاب ولا للجمعيات ولا حتى للنقابات، إلا ما خضع منها لهم ورفع كل الرايات البيض. بل نجد أن حتى من رفع تلك الرايات قد جعله الشعبويون في نهاية الأمر مسخرة وعبرة للسابقين واللاحقين. 

تخلق الشعبوية وضعًا استثنائيًا لا يمثل الاستبداد والسلطوية سوى الجزء الظاهر منه. إن عملية إغلاق الفضاء العام الذي تمارسه الشعبوية لا تترك لمعارضيها خيارات كثيرة، بل إنها في سيرها نحو تحقيق هذا الغلق التام، تمنع المعارضين حتى من مجرد تبادل الأفكار في خصوص تلك الخيارات أصلاً، حيث تستطيع أن تلقي بهم في أي لحظة فريسة للأجهزة بتهم التآمر والخيانة.

هذا سيء جداً، ليس للديمقراطيين ولا للأحزاب، مريضها وسليمها، فقط، وإنما للشعبويين أنفسهم. إنهم بإغلاق الفضاء وبناء المتاريس المحصنة بالأجهزة حول سلطتهم يُمعنُون في ترسيخ قناعة خطيرة لدى جزء من معارضيهم، وهي أن العمل الحزبي القانوني والنشاط العلني التي تكفله ما بقي من حريات دستورية، لن يأتيا بأي تغيير. هذا خطير جدًا للجميع.

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"