12-مايو-2020

الحل النهائي في ليبيا لا يمكن أن يكون عسكريًا (حازم تركية/وكالة الأناضول)



بعد الثورة لم تهدأ الديبلوماسية التونسية على حال وتأثّرت إلى حدّ بعيد بالمراحل التي عرفها الانتقال السياسي، فتوتّرت بين الموقف الأخلاقي الذي تمليه الثورة في الحرية والمواطنة والسيادة وما عُرِف بتقاليد الديبلوماسية التونسية وسياسة الحياد الإيجابي. وهي تقاليد ارتبطت بشخصية الزعيم الحبيب بورقيبة وتجربته في الحكم في مرحلة الحرب الباردة. ومثّل الجوار الليبي وثورة 17 فبراير 2011 مرآة صقيلة انعكس على صفحتها مسار الديبلوماسية التونسيّة في تطوراته التي تأثرت بتحولات المشهدين السياسيين التونسي والليبي.

اقرأ/ي أيضًا: مع دق طبول الحرب.. أي دور تونسي في الميدان الليبي؟

مفارقة صارخة

عرف الملف الليبي تطورات كبيرة مع حرب اللواء المتقاعد خليفة حفتر، المدعوم من الإمارات والسعودية ومصر وفرنسا، على العاصمة طرابلس والتي انطلقت في 4 أفريل/نيسان 2019 أيّامًا قبل افتتاح مؤتمر الحوار الوطني الجامع بمدينة غدامس (جنوب غرب) تحت رعاية أممية. وكان هدف حفتر إسقاط الحلّ السياسي والسيطرة على العاصمة والغرب الليبي ذي الثقل السكاني. والغرب الليبي يحدّ تونس البلد الذي انطلقت منه شرارة الربيع وما شهده من انتقال متعثّر إلى الديمقراطية في مواجهة قديمٍ يجتهد في إعادة إنتاج نفسه وجديد مفكّك وأزمة مالية اقتصادية هيكليّة.

لم يعرف الملفَّ الليبي إجماعًا بين القوى السياسية في تونس ويمثّل الاختلاف الذي يشقّ الطبقة السياسية حوله صورةً من اختلاف مكوناتها حول الثورة

لم يعرف الملفَّ الليبي إجماعًا بين القوى السياسية في تونس، ويمثّل الاختلاف الذي يشقّ الطبقة السياسية حوله صورةً من اختلاف مكوناتها حول الثورة، وحول الربيع هل هو عربي أم عبري؟

ولئن تطوّر المشهد السياسي في تونس إلى اعتراف بالثورة والديمقراطية ومبدأ الاحتكام إلى الاختيار الشعبي الحر، فإنّ تباينات كبيرة ظهرت في مواقف الأحزاب السياسية مما عرفته أقطار الربيع من أحداث كبرى. وكان الاختلاف الأوّل حول الملف السوري، ثم امتدّ إلى السياق المصري والانقلاب على ثورة 25 يناير، وانتهى عند ليبيا وحربها الأهليّة.

ثمّ إنّ اختلاف المواقف عند الطبقة السياسية في تونس لم يكن بمرجعيّة الثورة وصراع القديم والجديد فحسب، وإنّما كان نتيجة لعودة المطلق الإيديولوجي وما كان له من تأثير على وحدة القوى التي تنتسب إلى الثورة ومن تكييف لتقديراتها وتحالفاتها وعلاقتها بالقوى الإقليمية والمحاور الدولية.

مع احتداد الصراع في المجال العربي بين الثورة والثورة المضادّة، شقّت مفارقة كبرى المشهد السياسي في تونس تتمثّل في اختلاف المواقف بين الداخل والخارج. وفي هذا سياق انطرح بحدّة سؤال: هل يمكن أن أكون مع الديمقراطية في تونس ومع حفتر في ليبيا؟

مراحل مثيرة

هذه المفارقة الواضحة شقت طريقها إلى الديبلوماسية التونسية من خلال الأحزاب المفوّضة للحكم ولا سيما مع انتخابات 2019. فبمقارنة سريعة يمكن أن نلاحظ ثلاث مراحل عرفتها الديبلوماسية التونسية منذ الثورة وتحديدًا مع أوّل انتخابات ذلك أنّ ما سبق تجربة الترويكا كان الديبلوماسية التونسية بقيادة رئيس الحكومة يومها الباجي قايد السبسي صورة من الديبلوماسية الخطرة الموروثة فوازنت بين مصلحة البلاد و"الموقف الدولي" بقيادة الناتو، فكان الموقف الرسمي في ذلك السياق المخصوص مساندًا لتوجّه إسقاط نظام القذافي، وهو لا يتطابق كليًا مع الموقف المساند لثورة 17 فبراير قبل تدخّل الناتو.

اقرأ/ي أيضًا: الأحزاب التونسية والأزمة الليبية.. اختلافات حد التناقض

ومع الترويكا (وهي المرحلة الأولى) حدث تغيّر مهم في الموقف من الثورة الليبية هو جزء من موقف عام يعتبر أنّ على الثورة التونسية التزام أخلاقي باعتبارها منطلق ثورة الحرية والكرامة، وأنّ من حقّ الشعوب العربية أنّ تبني نموذجها في الحرية والديمقراطية والسيادة على أنقاض الاستبداد وباستقلال عن المحاور الدولية والتوازنات التقليدية.

كان هذا هو العنوان، وقد شمل ليبيا وسورية واليمن، غير أنّ تدخّل أجندات دولية وإقليمية تدفع، بتسليح الثورات وتطييف بعضها، إلى تحويلها من ثورة سياسة من أجل العدل والحرية إلى حرب أهلية. وهذا ما كان بدرجات متفاوتة في الأقطار الثلاثة المذكورة. وهو ما غطّى على موقف الترويكا الحقيقي الذي كان يناصر الثورة وبدا في بعض السياقات وكأنه صدى لمواقف دولية.

حدث مع الترويكا تغيّر مهم في الموقف من الثورة الليبية وهو جزء من موقف عام يعتبر أنّ على الثورة التونسية التزام أخلاقي باعتبارها منطلق ثورة الحرية والكرامة

بدا هذا في مؤتمر أصدقاء سورية في 2012 بتونس، وقد تناول مسألة تسليح الثورة السورية، وكان موقف الرئاسة التونسية الرافض للتسليح حاسمًا مما أثار حفيظة الولايات المتحدة وبعض خلفائها من دول الخليج الذين سيصبحون نواة الثورة المضادة وقاعدتها الصلبة في المحال العربي.

وقد توفّقت الديبلوماسية في الموضوع الليبي إلى بناء صلات متينة مع الفاعلين في المشهد الليبي جعلت من تونس طرفًا أساسيًا في رسم مستقبل ليبيا ودعم انخراطها في عملية انتقال سياسي بدأت مع انتخابات المؤتمر الوطني العام، ثم انتخابات مجلس النواب وبداية الانقسام ومقدمات الحرب الأهليّة.

المرحلة الثانية كانت مع الرئيس الباجي قايد السبسي، وهي مرة أخرى غير بعيدة عما اصطُلح عليه بديبلوماسية "الحياد الإيجابي". ولكنها في جوهرها موازنة بين مواقف مختلفة اختلاف الروافد التي اجتمعت في حزب نداء تونس باعتباره واجهة سياسية للمنظومة القديمة. وتختلف هذه الروافد في الموضوع الليبي من مساندة لحفتر (محسن مرزوق مستشار الباجي في مرحلة أولى)، وبين توجّه منكّه بالتطبيع (وزير الخارجية خميس الجهيناوي) ومن ثمّ غير بعيد عن التوجه الأمريكي في ليبيا والمنطقة وموقف الرئيس الباجي المشدود إلى المسار الديمقراطي الذي أوصله إلى الحكم.

التوتّر بين هذه الرافد الثلاثة طبع الدبلوماسية التونسية بالهامشية في ملف يعتبر شأنًا داخليًا تونسيًا، فلم يكن لتونس دور يذكر في مراحل التفاوض التي بدأت بليبيا مرورًا بالجزائر والصخيرات (المغرب) وبروكسل وجينيف وانتهاء ببرلين.

أمّا المرحلة الثالثة فهي التي بدأت مع انتخابات 2019، ورغم ما قيل عن التفويض الشعبي بأنّه بمزاج شعبي أقرب إلى الصف الثوري فإنّ الاختلاف داخل "الديبلوماسية" غير مسبوق.

ضوابط الموقف الديبلوماسي

يمكن الحديث عن "ديبلوماسيات" داخل الدولة التونسية تختلف باختلاف المؤسسة وتعكس مواقف حزبية متضاربة. فلرئيس الجمهورية مواقفه التي تفصح عنها مقابلاته (ما سمّي بوفد القبائل الليبية، ولقائه بالسرّاج)، ومكالماته التي تمتد من بن زايد وشكره على "دور الإمارات المتحدة في دعم تونس" إلى السيسي، فضلًا عن تصريح وزير دفاعه غير المركّز في إشارته الساذجة إلى "التعاون الأمني المستمر مع مليشيات الغرب الليبي". ولو أشار إلى وجود المليشيات في الجانبين لرفع عن نفسه حرجًا، ولكان قريبًا من حقيقة المشهد الليبي.

ولرئيس مجلس النواب "نشاطه الديبلوماسي البرلماني"، ومنه زيارته الحزبية إلى تركيا وقد كانت موضع جدل كبير البرلمان وتوتر شديد. وانطرحت بموجبها أسئلة حول علاقة الحزبي بالبرلماني في مثل هذه السياقات وعن مصداقية "الدبلوماسية البرلمانية".

في حين بدت الحكومة، باستثناء تصريح وزير الدفاع المحسوب على رئاسة الجمهورية، أكثر المؤسسات بعدًا عن الجدل الدبلوماسي. وإنْ كان التناقض الرئيسي حول الموضوع يشق الحكومة أكثر من أي مؤسسة أخرى، ولا يخفف منه إلا نأي وزير الخارجية إلى حدّ الآن بنفسه عن هذا "الصخب الدبلوماسي". ويمكن أن نتبيّن داخل الحكومة المواقف التالية حول الملف الليبي:

1- موقف ينتصر لحكومة الوفاق المدعومة من قبل ثوار 17 فبراير ذات الميول الإسلاميّة، ولا ينسى أن يذكّر بأنّ حكومة الوفاق هي الجهة المعترف بها دوليًا، ويدعم الحل السياسي، ويؤصل موقفه في الثورة في تونس والمجال العربي ويوفّر شروط أفضل لمحاربة الأرهاب. وهذا الموقف محسوب على المحور التركي القطري.

يمكن الحديث عن "ديبلوماسيات" داخل الدولة التونسية تختلف باختلاف المؤسسة وتعكس مواقف حزبية متضاربة

لكن داخل هذا الموقف العام هناك مواقف فرعيّة منها ما يرفض الدخول في صراع المحاور ولا يخفي قلقه من المحور القطري التركي ويكاد يساويه بالمحور المقابل في موضوع صراع المصالح. والتيار الديمقراطي أكثر من يمثّل هذا الموقف. وموقف تمثّله النهضة له أقوى الصلات بالمحور القطري التركي، ولكنّه يجتهد في إخفائه ويناور بتكييف علاقته بالمحور المقابل ومكوناته على ضوء تحالفاته في الحكم وتأثير القوى الدوليّة في المشهدين التونسي والليبي (تمتين الصلة بالسعوديّة، السكوت النسبي عن الإمارات، تجاهل السيسي، التشاور مع فرنسا)

2- موقف ينتصر لحفتر ، ويتبنّى موقفه في الصراع الليبي ويقبل بحكم عسكري يوحّد ليبيا ويدحض "الإرهاب الإخواني الداعشي" مثلما أسقط السيسي نظام الإخوان في مصر (نقلنا الموقف بصيغته الإيديولوجيّة). ويتبنّى هذا الموقف طيفٌ سياسي يمتدّ بين قوى محسوبة على الثورة (حركة الشعب المشاركة في الحكومة) وجانب من قوى النظام القديم والنخب المتوترة بين "النمط المجتمع التونسي" و"الحداثة" (إسقاط فكرة "الدولة المدنيّة" عند الدفاع عن حفتر).

نحن بإزاء "فوضى ديبلوماسيّة" هي صدى للصراع التركي الإماراتي وامتداداته، بل إنّه لا يكاد يوجد اليوم غير "ديبلوماسيّة حزبية" ولا أثر لديبلوماسية دولة، وهو ما يفسّر في كثيرين من الأحيان "حالة الغياب الديبلوماسي".

لو عُرض اليوم على البرلمان الملف الليبي في علاقته بتونس ومسارها الديمقراطي لشاهدنا كلّ هذه الفوضى وكلّ هذا الخلط والخبط. وقد سبق للنائب عن حركة الشعب هيكل المكي أن حيا في مداخلة برلمانية حفتر و"جيشه الوطني الليبي" وبشّار و"جيشه العربي السوري".

عند هذا المستوى يقوم سؤال: مالذي يضبط الموقف الديبلوماسي بصفة عامة وبالملف الليبي خاصّة؟ هذا السؤال لم يُطرح بالجدية المطلوبة، وبقي الأمر في مهب التجاذبات السياسية والإيديولجية، مما حال دون بلورة ملامح ديبلوماسية تعبّر عما تعرفه البلاد من تحولات حثيثة باتجاه الديمقراطية والسياسات الوطنية.

المرجع الرئيسي للديبلوماسية التونسية، في سياقها، الجديد هو الثورة ووجهها السياسي المتمثل داخليا في بناء الديمقراطية وتأسيس الحرية والعدالة الاجتماعية ومصلحة تونس، وعربيًا مناصرة شعوب المجال العربي في معركتها ضد الاحتلال والاستبداد. والتشديد على تلازم المواطنة والمقاومة.

لا يمكن أن نكون مع الديمقراطية في تونس ومع الحكم العسكري الاستبدادي في ليبيا

هذا الأساسي السياسي هو الذي سيحدد علاقتنا بالثورة والثورة المضادّة وتحالفاتهما في المنطقة. وهو الأرضية الجديدة لديبلوماسية جديدة. ونقدّر أنّه على ضوء هذا تُبنى التحالفات السياسية في الحكم والمعارضة. ووضوح هذا المبدأ يكشف عن تأخر الفرز العميق داخل الصف المحسوب على الثورة، وخور ما تمّ من ائتلافات حكومية آخرها الائتلاف الأخير المهدد بالتفكك. ونرجح أنّ لهذا لمبدأ دورًا أساسيًا في مصير الائتلاف، إلى جانب قضايا أخرى مهمة في مقدمتها ملف الفساد.

تنزيل هذا المبدأ يفضي إلى الانتصار للحل السياسي في ليبيا، وبناء نظام ديمقراطي على كل ليبيا الواحدة الموحدة. فلا يمكن أن نكون مع الديمقراطية في تونس ومع الحكم العسكري الاستبدادي في ليبيا. والمفروض أن تتم محاسبة كل الأطراف السياسية المنخرطة في الديمقراطية في تونس عن كل موقف منها مناهض للديمقراطية خارجها. فالانتصار لحفتر مخالف للديمقراطية وانتصار حفتر العسكري مهدد مباشر لها.

الحل النهائي في ليبيا لا يمكن أن يكون عسكريًا وإن توفرت أسبابه من القوة والعتاد، إنّه حل سياسي اجتماعي يجد أساسه في التوازنات القبلية والجهوية والمناطقية وما تعرفه من تحولات سريعة في اتجاهات مختلفة، إلى جانب تأثير التدخل الدولي ومحاور الصراع. ويتحدد موقفنا منها بالمرجعية السياسية نفسها: دولة مدنية ليبية ونظام ديمقراطي على كامل ليبيا ولكل الليبين.

مستقبل ليبيا لن يحدّد فقط منطقة المغرب العربي وإنّما كل المنطقة العربية والعالم. وإنّ مستقبل تونس مرتبط سياسيًا واقتصاديًا بليبيا وبالجوار المغاربي (الجزائر) وان انتصار الديمقراطية في ليبيا سيجعل من بلادنا ومن جنوبها قاعدة إستراتيجية تربط الخليج العربي بدول الساحل الصحراء وضفّة المتوسط الشمالية. وفي هذا الاتجاه، يمكن بناء ديبلوماسية متزنة ووازنة وفعالة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تداعيات الوضع الليبي على تونس.. خطة للطوارئ ويقظة سياسية وأمنية

أطفال ونساء تونسيون في سجون ليبيا.. استغاثة أمام مماطلة الدولة التونسية