01-أبريل-2024
القضاء التونسي

الوضع يزيد في إشاعة مناخات الترهيب في صفوف القضاة المباشرين

 

يعكس إصرار وزيرة العدل على إصدار مذكرات عمل بنقلة القضاة عبر إبعادهم وتعيينهم في مراكز العمل بما يشمل الخطط القضائية المتقدّمة، المضيّ على ربط مسارهم الوظيفي بقرار السلطة السياسية. وهو ما يعزّز بالتبعية نسف ضمانات استقلالية القضاء.

ومن آخر مذكرات العمل الصادرة هو إبعاد وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بتونس زهير بن عبد الله، الذي سبق وعيّنه الوزيرة بذات الخطّة قبل أقلّ من عامّ، وتعيين قاضي التحقيق بالمكتب السادس بالقطب القضائي للفساد المالي فتحي القاطري بدلًا منه.

إصرار وزيرة العدل على إصدار مذكرات عمل بنقلة القضاة عبر إبعادهم وتعيينهم في مراكز العمل، يعكس المضيّ في ربط مسارهم الوظيفي بقرار السلطة السياسية

تغيير في وكالة الجمهورية التي تشرف على كلّ من قطبي مكافحة الإرهاب والفساد المالي، يؤشر على أن مسار وضع اليد على القضاء لازال مستمرًا، وعلى نحو يؤشر أيضًا أن من ظهروا نموذجًا لقضاء الموالاة ليسوا بدورهم خارج دائرة الإبعاد دائمًا.

  • مذكرات العمل بوصفها آلية لوضع اليد على القضاء

يعدّ إخضاع المسار الوظيفي للقضاة لوزارة العدل التونسية، العنوان الرئيسي لغياب ضمانة جوهرية لاستقلالية القضاء، على نحو أن هذا الإخضاع يمنع القضاة من ممارسة وظائفهم بمعزل عن السلطة السياسية، ويؤدي، في المقابل، لفرض التبعية لها.

تستند وزيرة العدل على إصدارها للمذكرات على قانون نظام القضاة لعام 1967 الذي تم نسخه بعد الثورة التونسية، فيما يشمل تحديدًا المسار المهني والتأديبي، بمقتضى قانون الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي (2013) ثم قانون المجلس الأعلى للقضاء (2016) وتباعًا بمرسوم المجلس الأعلى المؤقت للقضاء (2022) الذي جاء على أنقاض المجلس الأعلى للقضاء. وتقتضي جملة التشريعات على اختصاص مجالس القضاء بالإشراف على المسار المهني للقضاء وتحديدًا التسميات والنقل. غير أن وزيرة العدل لازالت تستند على قانون قديم لهندسة مواقع القضاء عبر المذكرات التي تصدرها بين الفينة والأخرى.

يعدّ إخضاع المسار الوظيفي للقضاة لوزارة العدل التونسية، العنوان الرئيسي لغياب ضمانة جوهرية لاستقلالية القضاء

وعلاوة على ذلك، يقتضي قانون 1967 في فصله الرابع عشر أن مذكرات العمل التي تصدر عن وزير العدل خلال السنة القضائية يحكمها شرطان: الأول أن تكون لمصلحة العمل والثانية أن يتم عرضها على مجلس القضاء في أول اجتماع، وهما الشرطان غير المتوفرين. فـ"مصلحة العمل" ليست واقعًا إلا "مصلحة السلطة" في تعيين من تشاء أينما تشاء في الهيكلة القضائية، أما مجلس القضاء فهو مغيّب لحساب وزارة العدل.

بعد رفضها تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية بإيقاف إعفاء 49 قاضيًا (الصادرة في أوت/أغسطس 2022)، وثم عدم إصدار مجلس القضاء المؤقت للحركة القضائية في سابقة تاريخية، على نحو جعل عديد المواقع القضائية شاغرة بما يشمل رئاسة المحاكم ووكالة الجمهورية والوكالة العامة بعدد من المحاكم، أصدرت وزيرة العدل مذكرات عمل لتعيينات في مراكز متقدمة بما فيها الخطط السامية في نهاية ماي/أيار 2023. والحال أن "مصلحة العمل" غير محققة من زاوية أن الشغور في مراكز التعيين هذه هي نتيجة رفض الوزيرة نفسها تنفيذ أحكام القضاء.

تحوّل مجلس القضاء المؤقت الذي أحدثته السلطة بنفسها لنفسها، إلى مجلس معطوب بنيّة مبيّتة ليست إلا مزيد فسح المجال لاحتكار وزارة العدل الإشراف على المسار المهني للقضاة

هو شغور ليس فقط نتيجة خطأ عمدي من الوزارة نفسها بل نتيجة ارتكاب محظور وهو عدم تنفيذ الأحكام القضائية. وفي هذا الجانب إلى أن 37 قاضيًا معفيًا أودعوا شكايات جزائية ضد الوزيرة، بداية عام 2023، باعتبار أن عدم تنفيذ الأحكام من قبيل الفساد طبق قانون الإبلاغ عن الفساد وحماية المبلغين. وهي الشكايات التي لازالت حتى الساعة مركونة في أدراج النيابة العمومية.

إضافة لذلك، إن "مصلحة العمل" مشكوك بتوفّرها من زاوية أنها، واقعًا، هي قاطرة لتعيين من هم في "مصلحة السلطة". الفصل 10 من المبادئ الأساسية للأمم المتحدة ينص على وجوب أن ألا تكون التعيينات القضائية بناء على "دوافع غير سليمة". كما يعدّ مبدأ عدم نقلة القاضي إلا بموافقته، في هذا الجانب، مبدأ أساسيًا.

التعيينات الصادرة من مبنى وزارة العدل شملت قضاة لا يُعرفون بمواقفهم المناصرة لاستقلال القضاء، وقضاة آخرين يُعرفون بسابق إصدارهم لقرارات قضائية تتماهى مع السلطة في القضايا ضد السياسيين والفاعلين في الشأن العام

في المقابل، يؤكد المتابعون للشأن القضائي في تونس أن التعيينات الصادرة من مبنى وزارة العدل شملت قضاة لا يُعرفون بمواقفهم المناصرة لاستقلال القضاء، وقضاة آخرين يُعرفون بسابق إصدارهم لقرارات قضائية تتماهى مع السلطة في القضايا ضد السياسيين والفاعلين في الشأن العام على وجه الخصوص. وأن غايتها ليست إلا تمكين السلطة السياسية من التحكم، في نهاية المطاف، في القرار القضائي خاصة في المحاكمات السياسية.

  • مجلس القضاء المؤقت.. مجلس معطوب بنيّة مبيّتة

استفحال مدّ السلطة السياسية عروقها داخل الجسم القضائي تزامن مع إبعادها لمجلس القضاء المؤقت الذي أحدثته السلطة بنفسها لنفسها بعد حلّها للمجلس الأعلى للقضاء في فيفري/شباط 2022. إبعاد القضاء المؤقت من المشهد المؤسساتي برمّته سبقه تهميشه، في مرحلة أولى، عبر افتكاك صلاحيته في التسمية عبر مذكرات العمل الصادرة في ماي/أيار 2023، والتي اختار المجلس المؤقت المصادقة عليها في الحركة القضائية الصادر صيف 2023.

غاية تعيينات وزارة العدل ليست إلا تمكين السلطة السياسية من التحكم، في القرار القضائي خاصة في المحاكمات السياسية

وهي الحركة التي يتوارد الحديث أن إعدادها لم يكن بعيدًا عن مبنى وزارة العدل خاصة وأنها شملت إبعاد عضوين اثنين معيّنين بالصفة من المجلس نفسه: وكيل الدولة العام بمحكمة التعقيب فتحي عرّوم ورئيس المحكمة العقارية أحمد الحافي، على نحو جعل الموقعين شاغرين. تباعًا، أدت إحالة الرئيس الأول لمحكمة التعقيب المنصف الكشو ووكيل الدولة العام مدير المصالح العدلية عماد الدرويش على التقاعد، إلى شغور في جميع المواقع بالصفة بالمجلس المؤقت المكوّن من سبعة أعضاء في المجمل. تباعًا، أدى الشغور لعدم تحقق النصاب القانوني بما حوّل المجلس المؤقت بذلك إلى مجلس معطوب بنيّة مبيّتة ليست إلا مزيد فسح المجال لاحتكار وزارة العدل الإشراف على المسار المهني للقضاة.

  • في فرض واقع قضاة الموالاة والتبعية

بكلّ هذه المشهدية وخاصة إثر مذكرة العمل مؤخرًا بإبعاد وكيل الجمهورية بابتدائية تونس من منصبه، وهو الذي كانت قد عيّنه الوزيرة بنفسها قبل أقل من عام، وقبلها ببضع أسابيع شملت المذكرات إبعاد قضاة في المراكز المتقدمة بمحكمة بنزرت على وجه الخصوص، يظهر بوجه كاشف أن سعي وزيرة العدل على تمتين نفوذ السلطة السياسية داخل قصور العدالة لازال مستمرًا. وهو وضع وعدا أنه يزيد في نسف استقلال القضاء وتباعًا إضعاف ضمانات المحاكمة العادلة في المحاكمات السياسية، فهو يزيد، بالخصوص، في إشاعة مناخات الترهيب في صفوف القضاة المباشرين باعتبار هشاشة وضعهم المهني.

يظهر بوجه كاشف إثر مذكرة العمل مؤخرًا بإبعاد وكيل الجمهورية بابتدائية تونس من منصبه، أن سعي وزيرة العدل على تمتين نفوذ السلطة السياسية داخل قصور العدالة لازال مستمرًا

إن القاضي المباشر اليوم معرّض لسيف الإعفاء بمقتضى أمر رئاسي "بناء على تقرير معلّل من الجهات المخوّلة" وفق المرسوم عدد 35، وسيف الإيقاف عن العمل أو الإبعاد عن مركز العمل بمذكرة من وزيرة العدل، وذلك دون عن سيف النقلة لـ"مصلحة العمل" دون تحقق شروطها، على نحو ما تعرّض لهم عشرات من القضاة المعروفين بمواقفهم الداعمة لاستقلال القضاء في الحركة القضائية الأخيرة. وفي خضمّ هذه الهشاشة المهنية، تضعف قدرة القضاة في الملفات التي تتضمّن متهمين الذين "لا يروقون للسلطة السياسية"، سواء سياسيين أو محامين أو صحفيين أو ناشطين بوجه عامّ، أن يتخذوا قراراتهم بشأنها بنزاهة وحياد. ذلك أن السلطة السياسية نجحت اليوم في فرض أجواء الخوف داخل قصور العدالة.