12-أكتوبر-2024
الجفاف

الكثير من النساء الريفيات فقدن مصدر رزقهنّ بسبب التغيرات المناخية ما دفعهنّ إلى الهجرة نحو المدن (صورةأرشيفية/ ياسين القايدي/ الأناضول)

 

"أشتاق إلى أرضي وقريتي وأشجار الزيتون التي غرسها والدي وأفنى حياته في رعايتها رغم قلّتها"، بهذه الكلمات تحدثت عواطف، أصيلة ولاية سليانة، إلى "الترا تونس"، عن ألم فراق أرضها وقريتها اللذيْن هجرتهما هربًا من الجفاف للعمل في أحد المصانع بجهة الساحل. 

انقطعت عواطف (اسم مستعار)، البالغة من العمر 32 عامًا، عن الدراسة في سنّ مبكرة، وبدأت رحلتها في زراعة الأرض وتثمين النباتات الغابية وغراسة الأشجار ورعاية المواشي، وهي أنشطة تعدّ مصدر رزقها الوحيد، في ولاية يعاني سكانها من ارتفاع نسب البطالة ونقص المشاريع التنموية، إلى جانب تواتر سنوات الجفاف ونقص المياه.

 

  • من الريف إلى المدينة.. الهجرة بحثًا عن مصادر رزق بديلة 

وعواطف هي واحدة من الكثير من النساء الريفيات اللاتي فقدن مصدر رزقهنّ بسبب التغيرات المناخية، ما دفعهنّ إلى الهجرة نحو المدن على غرار تونس الكبرى وولايات الساحل للعمل في مهن غريبة عنهنّ مقابل أجور زهيدة ما جعلهنّ عرضة للاستغلال الاقتصادي.

اضطرت "عواطف" لترك أرضها الفلاحية في سليانة بسبب الجفاف الذي أفقدها خصوبتها وجعلها غير قادرة على الإنتاج، والنزوح إلى المنستير بحثًا عن مورد رزق جديد تقتات منه وتعيل به عائلتها 

وفي حديثها مع "الترا تونس"، أكدت عواطف أن والدها لا يمتلك أراضٍ شاسعة ولا يُصنَّف من كبار الفلاحين في منطقتهم، مستدركة أنّه، على الرغم من ذلك، كانت عائلتها تعيش حياةً مستقرةً من خلال الاعتماد على قطعة أرض صغيرة وعدد قليل من المواشي لتوفير قُوتِهم اليومي.

ومع تواتر سنوات الجفاف وتراجع تساقطات الأمطار، اضطّرت عائلة عواطف بداية سنة 2024 للهجرة نحو ولاية المنستير هربًا من الجفاف وأملاً في العثور على مصدر رزق جديد في منطقة تُعرف بكثرة مصانعها والأنشطة الفلاحية، بعد أن جفّت أرضها وأصبحت غير قادرة عن الإنتاج.

 

صورة
تعاني الكثير من النسوة في المناطق الريفية بعدة ولايات جرّاء الجفاف ونقص الموارد المائية (مرصد المياه) 

 

عن هذه التجربة، تقول عواطف إنّها وجدت نفسها فجأة في مدينة جديدة عنها لا تعرف فيها جيرانًا ولا أصدقاء، وإنها بدأت العمل في مصنع صغير قريب من المنزل الذي تعيش فيه وعائلتها على وجه الكراء.

وتصف محدثة "الترا تونس" تجربة العمل في مصنع لساعات طويلة بـ"القاسية" وهي التي كانت كالطير الحر تتنقل في ريف شاسع تزرع الأرض وترعى أغنامها دون قيود أو شروط ودون ساعات عمل محددة، وفقها.

تضيف محدثة "الترا تونس" قائلةً: "كنت أعمل في أرضي مع والديّ وأختي، نزرع القمح وبعض الخضر ونرعى أغنامنا لبيعها في الأسواق، إضافة إلى عملي في تقطير الإكليل وبعض النباتات الجبلية الأخرى، وعلى الرغم من أننا لم نكن نجني الكثير من المال لكننا كنا سعداء"، مستدركة القول إنّ حياة عائلتها تغيّرت هذه السنة تغيرت، فقد باتت تعمل في مصنع بأجر زهيد بينما يستعدّ والداها للعمل في جني الزيتون في المنستير نظرًا لأنّ زيتون أرضهم في سليانة لم يُثمر هذه السنة، حسب روايتها.

 

صورة
عواطف: كنت كالطير الحر أتنقل في ريف شاسع لأجد نفسي محبوسة لساعات في مصنع بعيد عن مسقط رأسي (فتحي بلعيد/ أ.ف.ب)

 

  • الهجرة توقع تونسيات في شباك الاستغلال الاقتصادي

تتقاضى عواطف أجرة شهرية تُقدر بـ 500 دينار مقابل تسع ساعات من العمل اليومي. وتؤكد أنّ صاحب المصنع يمتنع في كلّ مرة عن تسديد أجرتها بالكامل خشية أن تترك العمل عنده بشكل مفاجئ، وفقها.

وتضيف محدثتنا أنها تعمل منذ أكثر من 7 أشهر في مهنة غريبة عنها، مؤكدة أنّها لا تشعر بالراحة وتعتبر نفسها ضحيةً للاستغلال الاقتصادي، خصوصًا وأنها تعمل دون عقد عمل أو تغطية اجتماعية.

عواطف لـ"الترا تونس": بعد عملي في أرضي الخاصة أجد نفسي اليوم أعمل في مصنع بأجر أقلّ من 500 دينار مقابل 9 ساعات من العمل اليومي فضلًا عن أنّ صاحب المصنع يمتنع عن تسديد أجرتي بالكامل 

كما تقول إنّ أفراد عائلتها لا يفكرون في الاستقرار في ولاية المنستير وإنما سيعودون ذات يوم إلى مسقط رأسهم لخدمة أرضهم الجافة وإحيائها من جديد، على أمل أن تنتهي آفة الجفاف أو أن تتدخل السلط المعنية لتقديم الدعم للعائلات التي تعتمد على الفلاحة للعيش. 

وفي تونس تمثل الأراضي الفلاحية 62% من المساحة الجملية للبلاد أي ما يعادل أكثر من 10 ملايين هكتار، بينما تهيمن الفلاحة العائلية وصغار الفلاحين على المشهد الفلاحي التونسي حيث أنّ 75% من الأراضي الفلاحية لا تتعدى مساحتها 10 هكتارات، بحسب أرقام رسمية صادرة عن وزارة الفلاحة.

في تونس تمثل الأراضي الفلاحية 62% من المساحة الجملية للبلاد أي ما يعادل أكثر من 10 ملايين هكتار، بينما تهيمن الفلاحة العائلية وصغار الفلاحين على المشهد الفلاحي التونسي وتمثل المرأة 35% من اليد العاملة الفلاحية

ووفق ذات المصدر، فإنّ قطاع الفلاحة يعدّ ذا أهمية اجتماعية محترمة إذ يوفر دخلاً دائمًا لحوالي 470 ألف فلاح يساهمون في استقرار سكان الريف الذين يمثلون 35% من مجموع العام للسكان، علمًا وأنّ المرأة تمثل 35% من اليد العاملة الفلاحية.

 

صورة
الكثير من النساء الريفيات فقدن مصدر رزقهنّ بسبب التغيرات المناخية ما دفعهنّ إلى الهجرة نحو المدن (مرصد المياه)

 

لا تختلف قصة عواطف عن قصة هدى (40 عامًا)، وهي أصيلة منطقة بوحجلة من ولاية القيروان، حيث غادرت هي الأخرى مسقط رأسها وانتقلت رفقة زوجها وأطفالها إلى تونس العاصمة من أجل الاستقرار والعمل هربًا من آفة الجفاف والبطالة.

وفي حديثها مع "الترا تونس"، تقول هدى، وهي أم لثلاثة أطفال، إنها قررت وزوجها مغادر بوحجلة سنة 2023 مؤكدة أنها لم تتقبل إلى حدّ هذه اللحظة فكرة تركها لأرضها وجيرانها ومنزلها الصغير والانتقال للعيش في مدينة صاخبة للبحث عن لقمة عيش "بديلة".

استقرت هدى وعائلتها في منزل على وجه الكراء في منطقة دوار هيشر من ولاية منوبة، وبينما بدأ زوجها العمل في مجال البناء بدأت بدورها رحلة شاقة للبحث عن عمل يضمن لها العيش الكريم ويساعدها على تحقيق استقرارها المادي بعد أن فقدت مصدر رزقها الأصلي.

هدى (عاملة تنظيف) لـ"الترا تونس": اضطررت لمغادرة أرضي والتوجه للعاصمة بحثًا عن مورد رزق لكنني صدمت بواقع الأجور الضعيفة رغم ساعات العمل الطويلة سواءً في المصانع أو التنظيف، لكنّ الحاجة تدفعني للخضوع مكرهةً

تؤكد محدثة "الترا تونس" أنها صُدمت بواقع ضعف الأجور خصوصًا للعاملات في المصانع وفي التنظيف خاصة بالنسبة للعاملات اللاتي لا يمتلكن الخبرة الكافية أو لم من لم يسبق لهنّ العمل في هذا المجال، مستدركة أنّها تمكنت بعد أسابيع من البحث من العثور على وظيفة بدوام جزئي كعاملة تنظيف في أحد مصانع الطباعة بولاية منوبة.

قبل نزوحها نحو العاصمة، كانت هدى تعمل في أرضها التي تستغلها لزراعة القمح والشعير وبعض الخضروات الموسمية. كما كانت تعمل في قطاع الفلاحة لمساعدة زوجها على مجابهة المصاريف اليومية التي تضمن لعائلتها العيش الكريم في ظلّ ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة في تونس.

تعمل هدى اليوم كعاملة تنظيف مقابل أجرة شهرية تقدر بـ420 دينارًا وهي الوظيفة التي بحثت عنها طويلاً، لكنها ترى أنّ هذا المبلغ لا يكفيها لتوفير حاجياتها اليومية ودعم زوجها لمجابهة مصاريف الكراء والفواتير وتعليم الأطفال. 

تحلم هدى بالعودة إلى مسقط رأسها مع انتهاء موجة الجفاف، كما تحلم بأن تتمكن من حفر بئر في أرضها يساعدها على سقي الخضر وتربية الماشية والطيور التي لطالما كانت تعتمد عليها في السابق كمصدر رزق. 

وتأمل أن يكون عملها في التنظيف مؤقتًا وأن تعود ذات يوم إلى منزلها وأرضها، فهي ترى أنّ عملها في أرضها قد يمكنها من توفير مصاريفها اليومية وتعليم أطفالها، عوضًا عن الاغتراب والعمل في وظائف لم يسبق لها أن علمت فيها.

 

صورة
النساء اللاتي يعتمدن على الفلاحة عرضة بشكل خاص للآثار السلبية للتقلبات المناخية والبيئية (مرصد المياه)

 

  • النزوح المناخي واقع يهدد النساء

أظهرت دراسة حديثة للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بعنوان "الهشاشة البيئية والمناخية للنساء"، تفاقم التحديات المرتبطة بعدم المساواة بين الجنسين بسبب تأثيرات التغيرات المناخية، خصوصًا في المناطق الريفية حيث تعتمد النساء بشكل كبير على الموارد الطبيعية كمصدر أساسي للدخل. 

منتدى الحقوق الاقتصادية: الجفاف ونقص المياه والتصحر، عوامل تسببت بشكل مباشر في تراجع إنتاجية الأراضي الزراعية مما زاد من مخاطر البطالة والفقر بين النساء المزارعات والنزوح المناخي

وأوضح الدراسة، التي نشرت بتاريخ 3 أكتوبر/تشرين الأول 2024، أنّ التحديات المناخية والبيئية الرئيسية التي تواجهها النساء التونسيات في الوسط الريفي تشمل الجفاف ونقص المياه والتصحر، وهي ظواهر تتسبب بشكل مباشر في تراجع إنتاجية الأراضي الزراعية، مما يزيد من مخاطر البطالة والفقر بين النساء المزارعات والنزوح المناخي.

وبحسب ذات الدراسة، فإنّ 19.3% فقط من هؤلاء النساء يملكن أراضٍ ولدیهن وسائل معيشية مستقرة، مما يجعلهن عرضةً بشكل خاص للآثار السلبية للتقلبات المناخية والبيئية، التي تجبرهن على الهجرة في كثير من الأحيان لإيجاد مواطن شغل بديلة.

وتؤكد رئيسة قسم العدالة البيئية بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إيناس الأبيض، لـ"الترا تونس"، أنّ ظاهرة النزوح البيئي في تونس أصبحت واقعًا، وذلك بعد تفاقم آثار التغيرات المناخية وتواتر سنوات الجفاف وحرائق الغابات والارتفاع اللافت في درجات الحرارة.

إيناس الأبيض لـ"الترا تونس": ظاهرة النزوح البيئي في تونس أصبحت واقعًا، خاصة بعد تفاقم آثار التغيرات المناخية وتواتر سنوات الجفاف وحرائق الغابات والارتفاع اللافت في درجات الحرارة

وتضيف الأبيض أنّ ظاهرة النزوح البيئي تعني الانتقال من منطقة إلى أخرى هربًا من المشاكل البيئية والمناخية، وهي ظاهرة تأثرت بها النساء اللاتي لديهن ممارسات وأنشطة مرتبطة بالموارد الطبيعية على غرار العمل في قطاع الفلاحة.

وأوضحت محدثة "الترا تونس" أنّ المرأة عندما تفقد تلك الموارد بسبب شحّ المياه وجفاف الأراضي فإنها تضطر للنزوح، إما بمفردها أو رفقة عائلتها، للبحث عن موارد رزق جديدة.

وأكدت إيناس الأبيض أنّ هؤلاء النسوة عادة ما يضطررن لممارسة أنشطة غريبة عليهن وجديدة مثل العمل في التنظيف أو في مصانع النسيج في ولايات الساحل، أو العمل في الفلاحة في أراضي الغير بعد أن كنّ صاحبات الأرض في مسقط رأسهنّ. 

إيناس الأبيض لـ"الترا تونس": ظاهرة النزوح البيئي تعني الانتقال من منطقة إلى أخرى هربًا من المشاكل البيئية والمناخية، وهي ظاهرة تأثرت بها النساء اللاتي لديهن ممارسات وأنشطة مرتبطة بالموارد الطبيعية على غرار العمل في قطاع الفلاحة

وترى رئيسة قسم العدالة البيئية بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أنّ النساء اللاتي يضطررن للهجرة هربًا من آثار التغيرات المناخية يجدن أنفسهن يعملن في ظروف تشغيل هشة دون عقود ولا تغطية اجتماعية، إضافة إلى عملهن لساعات طويلة بمقابل مادي ضعيف.

وأشارت إلى أنّ هؤلاء النسوة يعانين عادة من الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية ويكنّ عرضة للاستغلال الاقتصادي ويعملن في مهن غريبة عنهنّ، قد لا تمكنهنّ من تحقيق الاستقلالية المادية، وفقها.

 

صورة
التغيرات المناخية أثرت بشكل لافت على الإنتاج الفلاحي في تونس وأفقدت النساء موارد رزقهن (مرصد المياه)

 

  • البنك الدولي: تونس ستكون بؤرة ساخنة للنزوح المناخي

ومع تفاقم آثار التغيرات المناخية التي أثرت بشكل لافت على الإنتاج الفلاحي في تونس وأضرت بصغار الفلاحين وأفقدت النساء موارد رزقهن، توقّع البنك الدولي في تقرير له صدر نهاية سنة 2021، أن تكون تونس من بين مجموعة الدول المهددة بارتفاع ظاهرة الهجرة الداخلية لأسباب مناخية وبيئية.  

البنك الدولي: تونس من بين الدول المهددة بارتفاع ظاهرة الهجرة الداخلية لأسباب مناخية وبيئية وستكون تونس العاصمة بؤرة ساخنة للهجرة الداخلية

ووفق ذات المصدر، فإنّه من المتوقع أن يكون نقص المياه في شمال إفريقيا دافعًا رئيسيًا للهجرة، وستكون تونس العاصمة بؤرة ساخنة للهجرة الداخلية بسبب تغير المناخ الذي يعدّ محركًا قويًا للهجرة الداخلية بسبب آثاره على سبل كسب عيش السكان. 

وبحسب المصدر ذاته، فقد تُجبر التغيرات 216 مليون شخص في 6 من مناطق العالم على الارتحال في داخل حدود بلدانهم بحلول عام 2050، مع الإشارة إلى أنّ ذلك قد يمس 19 مليون مواطن في دول شمال إفريقيا.

 

واتساب