06-فبراير-2019

عائدات التظاهرة الفنية مخصصة للمواطنين المقاومين في جبال القصرين (سيمونا غراناتي/Getty)

 

"هذي غناية ليهم من الڨلب تحييّهم ..اللي عايشين لينا ولا ريف ولا مدينة لولا عرق أيديهم.. ويذوبوا كالشمعة ويخبيّو الدمعة على عيون أهاليهم.. الناس اللي تعاني ونساتهم الأغاني.. هذي غناية ليهم"، هي ليست مجرّد كلمات كتبها آدم فتحي وغنّاها لطفي بوشناق، هي لمسة عرفان للمهمشين والمنسيين، للمعذبين في أرض تونس، أولئك الذين يقاومون رغم الخصاصة.

"هذي غناية ليهم" ليست أغنية فحسب بل هي صوت أولئك الذين يتأوهون في صمت ويكتمون صوت اصطكاك أسنانهم ببعضها البعض من فرط البرد، لذلك اختارها الفنان ماهر الهرماسي عنوانًا لتظاهرة فنية تخصص عائداتها للعائلات القاطنة على سفوح جبال القصرين.

اقرأ/ي أيضًا: كيف بات يفهم التونسيون كلمة "جبل" في السنوات الأخيرة؟

حينما يكون الفن صوتًا للمرابطين في الجبال

تنتظم التظاهرة التي تدعمها وزارة الشؤون الثقافية من 3 إلى 7 فيفري/شباط الجاري، وافتتحت الأحد بعرض للفرقة الوطنية للموسيقى بقيادة المايسترو محمد الأسود بمشاركة الفنانين لطفي بوشناق ومحمد الجبالي ومنير المهدي وهالة الهرماسي.

"هذي غناية ليهم" هي تظاهرة فنية مخصصة عائداتها للعائلات القاطنة على سفوح جبال القصرين

وفي الوقت الذي انهمرت فيه خيوط المطر في العاصمة ترافقها هبات الريح الباردة، ريح تضوع بعبق الثلج الذي كان يتساقط في مرتفعات الشمال والوسط، كان الشاعر ياسين الحمزاوي يلقي قصيدتين تغنى فيهما بالقصرين مسقط رأسه بأسلوب راوح بين الأمل والألم.

والمداخلة الشعرية عقبتها مقطوعة موسيقية الفرقة الوطنية للموسيقى بقيادة المايسترو محمد الأسود الذي لفت إلى دور الفن والفنان في المجتمع، ووعيهم والتزامهم بقضاياه وما يعكسه ذلك من حب للوطن.

مقطوعة موسيقية توحدت فيها الحوارات الثنائية بين العازفين وآلاتهم لتصبح خطابًا موسيقيًا موحّدًا يحاكي الواقع المعيش لساكني سفوح الجبال، الحيرة والخوف وارتعاشة البرد والترقب، والتمسك بسفح الجبل رغم قسوة المناخ وشبح الإرهاب.

العرض الافتتاحي لتظاهرة "هذي غناية ليهم"

 

كانت نغمات القانون تحاكي آهات الأهالي وشكواهم التي يبثونها في صمت آناء الليل وأطراف النهر، وتحيل نغمات الكمنجة والبيانو الأمل الذي يحدو الساكنين على تخوم الجبال، وتترجم الآلات الإيقاعية واقع الرهبة والخوف هناك.

"لأنها أم لكل البنين تونس أرض فاضت حنين.. تونس أم وأرض وعلم ونحن بها نفتخر"، تغنى الفنان منير المهدي بتونس وصدح صوته الشجي "بغير هواها لا أرتضي".

والمهدي الذي أعرب عن سعادته بالإسهام في حفل فني تضامني تؤول عائداته لمتساكني سفوح الجبال، ألقى خاطرة لرابح المجبري "نحب بلادنا لكن جحيم الصمت أذهلنا.. رغم الحر نشقى وكم نشقى تجوعنا وتقتلنا لنقتات من الصبر.." قبل أن يغنيها بمصاحبة الفرقة الوطنية للموسيقى، فكانت الكلمات والألحان صوت "الناس اللي تعاني ونساتهم الأغاني".

"ويا ناس حبوا الناس الله موصي بالحب"، غنى المهدي لجمهور مسرح الأوبرا بمدينة الثقافة في انسجام مع قيم التضامن قبل أن يترك الركح للفنان لطفي بوشناق.

لطفي بوشناق صاحب أغنية "هذي غناية ليهم" التي اتخذتها التظاهرة الفنية عنوانًا لها

 

لطفي بوشناق اعتلى الركح معانقًا عوده، وغنى للمرابطين في سفوح الجبال، المتشبثين ببصيص الحياة والماسكين بتلابيب الأمل "نغني كما قبل غنى الرعاة.. نغني إلى آخر الأغنيات.. نغني لنحيا وتحيا الحياة"، ثم غنى "للناس اللي تعاني ونساتهم الأغاني"، "هذه غناية ليهم".

وسرت حالة من النشوة في صفوف الجمهور وهو يردد "نساية"، و"ريتك ما نعرف وين"، و"أنت شمسي"، و"كي يضيق بيك الدهر يا مزيانة" للفنان الراحل "الصادق ثريا".

كان لطفي بوشناق منصاعًا لطلبات الجمهور، ورغم المرض لم يتخلف عن افتتاح التظاهرة التضامنية، وكان بإمكانه أن يواصل الغناء الجمهور لولا أن برنامج الافتتاح يشمل أيضًا الفنانين محمد الجبالي وهالة الهرماسي التي صافحت الجمهور بعد غياب طويل بأغنيتين للفنانة نعمة "ما عندي والي" و"هو يمة لسمر يمة"، قبل أن تترك الركح للفنان محمد الجبالي الذي قدم وصلة فنية جمع فيها بين أنجح اغانيه، وتحول بصوته العذب بين "نظرة عينك قتالة"، و"خليني بجنبك"، و"انت الكل في الكل"، و"آش السر اللي فيك"، و"يا حنين"، و"يا قمر"، و"شوف شوف هاك الزين".

من حفل افتتاح تظاهرة "هذي غناية ليهم" في مدينة الثقافة

 

ونزولًا عند رغبة الجمهور الذي حضر تضامنًا مع مواطني القصرين الذين ألقى بهم القدر عند سفوح الجبال غنى لعبد الحليم حافظ "جانا الهوى"، ليختتم بأغنية "ظريف الطول" من التراث الفلسطيني.

ورغم برودة الطقس خارج مدينة الثقافة، فإن الفنانين الذين أسهموا في عرض افتتاح تظاهرة "هذي غناية ليهم" بثوا بأصواتهم الدفء في قاعة الأوبرا على أمل أن يبلغ هذا الدفء السكان المرابطين عند سفوح الجبال.

ولئن كان عدد الحضور محتشمًا، وربما يعود ذلك إلى الأوضاع الجوية، فإن مدير التظاهرة ماهر الهرماسي أكد على اقتطاع كل التذاكر موجهًا شكره لشخصين مجهولين اقتطع أحدهم 250 تذكرة فيما اقتطع الآخر 500 تذكرة.

اقرأ/ي أيضًا: "دوّار السلاطنيّة".. حياة في قفص الموت

"ألترا تونس" يحاور "الناس اللي تعاني"

إن ما كانت التظاهرة صوتًا لـ"الناس اللي تعاني"، فقد تواصل "ألترا تونس" مع عدد من العائلات القاطنة في سفوح الجبال ليلامس معاناتهم وصدى التظاهرة بعيدًا عن أسوار مدينة الثقافة.

في تخوم الجبال يعاني المواطن وهو إما يرتجف خوفًا من الجماعات الإرهابية أو من برد المرتفعات القارس، هناك في سفوح الجبال يعيش الإنسان في مواجهة الموت بتجليات مختلفة. وعلى سفح جبل سمامة، تعيش مالية الهلالي، امرأة عمق البرد الآلام في عينيها بعد أن انفجر عليها لغم، فقدت إحدى عينيها وهي تقارع الأمل كي لا تفقد الأخرى.

سكان جبال القصرين بين الخصاصة وخطر الإرهاب (صورة أرشيفية/فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

والهلالي التي رحبت بتظاهرة "هذي غناية ليهم" وبالالتفاتة إلى معاناة سكان المناطق المتاخمة الجبال، تروي لنا أن موجة البرد الأخيرة أتت على 7 مواشي كانت تربيها.

تعيش المرأة التي تبلغ من العمر 36 سنة في سفح الجبل رفقة والدتها، لا تريد من الدنيا شيئًا غير أن تتخلص من آلام عينيها التي تزداد حدة في موجة البرد التي تقول إنها تواجهها بـ"كانون" الفحم.

وعلى تخوم جبل الشعانبي وتحديدًا في مدرسة أولاد منصور البريكة فوسانة، يعيش الفاهم الدلهومي لولد وبنت تجاوزا العقد الثاني من عمرهما.

الدلهومي أقعد صغاره عن الدراسة في سن مبكرة لأن جراية المعوزين التي يتقاضاها منذ سنوات، لا تكفي لسد المصاريف اليومية وثمن أدويته لعلاج الصدفية وهو مرض جلدي مزمن يتطلب مراقبة طبية منتظمة.

مالية الهلالي (من سكان جبل سمامة): لا أريد من الدنيا شيئًا غير التخلص من آلام عيني التي تزداد حدة مع كل موجة برد

"كرهت حياتي"، يقول وهو يتحدث عن ظروف سكنه غير اللائقة وعن عدم قدرته وعائلته على تحمل البرد والثلج يغطي سفح الجبل، ذلك الثلج الذي نشارك صوره على صفحاتنا بمواقع التواصل الاجتماعي لروعة منظره هو قاس جدًا على الفقراء.

جميلة عبايدي تقطن أيضًا بنفس المنطقة، امرأة تعاني من مرض السكري الذي أثر في حاسة البصر لديها، ولكن لا يشفع لها مرضها وهي تحاول أن تجمع "الكلخ" للتدفئة ومجابهة قسوة البرد. هي الأخرى أم لابنتين انقطعتا عن الدراسة، إحداهما غادرتها في السنة الأولى من التعليم الثانوي والثانية في السنة الخامسة من التعليم الابتدائي.

بنبرة امتزجت فيها عزة النفس بالوجع والقهر، تحدثنا قائلة: "نحن هنا في العراء نعاني البرد والفقر ولا نملك غير الصبر"، معربة عن أملها في ان تصلها بعض من عائدات التظاهرة المخصصة للساكنين في سفوح الجبال.

هي شهادات موجعة "للناس اللي تعاني ونساتهم الأغاني" تجعلك تتساءل هل تكفي عائدات تظاهرة "هذي غناية ليهم" لطرد شبح الخصاصة والمعاناة عنهم؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

بسبب الإرهاب.. سكان الحدود يهجرون مهنًا جبلية

هل سقط هواة الصّيد في تونس ضحيّة التهور والإرهاب؟