07-مارس-2016

شهد المستوى التعليمي في تونس تراجعًا مخيفًا (Getty)

مشروع الإصلاح التربوي، أو مشروع "بناء الإنسان التونسي"، هو أحد أهمّ الملفّات المطروحة حاليًا بتونس إن لم يكنّ أهمها نظرًا لرهاناته. وبقدر ما يتفق التونسيون حول حتمية القيام بإصلاحات جذرية لنظام تعليمي يتراوح في الوصف بين البؤس عنوانًا والفشل نتيجة، بقدر ما يحتدّ الجدل على مضمونه، وقبل ذلك حول منهجية إعداده التي تشرف عليها وزارة التربية والتعليم.

يجمع أهل الاختصاص والمتابعون على ضرورة الإصلاح التربوي حيث شهد المستوى التعليمي في تونس تراجعًا مخيفًا خلال السنوات الأخيرة

وتمثّل ضرورة الإصلاح التربوي، في البداية، محلّ إجماع لدى أهل الاختصاص والمتابعين، حيث شهد المستوى التعليمي في تونس تراجعًا مخيفًا خلال السنوات الأخيرة. وقد عُرفت تونس في فترة ما بعد الاستقلال بخيارها الاستراتيجي نحو تعميم التعليم وإجباريته، وهو ما يمثّل النقطة المضيئة الأساسية لأول رئيس للبلاد الحبيب بورقيبة، لدى أنصاره وحتى معارضيه. حيث كان يرّدد بورقيبة دائمًا أنه يراهن على "العقل التونسي" والاستثمار في الموارد البشرية، في مقارنة تقليدية بدول الجوار التي تتميّز بموارد طبيعية تفتقدها تونس على المستوى الكمّي على الأقل.

وقد أثبتت تونس حينها نجاحها في الاستثمار في التعليم من خلال الارتفاع المطرّد لنسبة التمدرس، ومستوى الكفاءات التونسية في مجالات متخصّصة، مما جعل تونس في مراتب متقدّمة مقارنة بمحيطها العربي والإفريقي.

اقرأ/ي أيضًا: الناجي جلول.. بطل من ورق

غير أن مصعد التعليم تعطّل، ليس فقط على مستوى عدم تمثّله كأداة للرقي الاجتماعي وإن كان يعود ذلك لأسباب اجتماعية واقتصادية متظافرة، ولكن أساسًا فيما يتعلّق بمحدودية التكوين وضعف مستوى التلميذ. ولتُصبح المقارنة الدائمة بأن تلميذ الثانوية العامة قبل عشرين سنة هو أفضل من الطالب المُجاز اليوم، وهكذا دواليك وفق تأثير "الديمينو"، حسب مراقبين.

وبذلك كانت ضرورة الإصلاح التربوي الذي يعتبره وزير التربية الحالي ناجي جلول أهم ملفات وزارته. حيث تم تشكيل "لجنة الإشراف على الحوار الوطني حول الإصلاح التربوي"، وهي تضمّ الاتحاد العام التونسي للشغل والمعهد العربي لحقوق الإنسان إضافة إلى وزارة التربية، وتم إطلاق حوار مجتمعي للغرض منذ الربيع الفارط.

وينتقد مختصّون في المسألة التربوية منهجية إعداد الإصلاح التربوي، ويمثّل "الائتلاف المدني لإصلاح المنظومة التربوية"، في هذا الجانب، أهمّ المكوّنات المدنية، وهو يضمّ عددًا من أساتذة الجامعة التونسية من ذوي الاختصاص في الشأن التربوي.

وفي عرض ما يسمّيه الائتلاف للتوجه الإقصائي للوزارة، يقول الدكتور مصدّق الجليدي، وهو خبير دولي في الشأن التربوي ومنسق الائتلاف المدني المذكور، في تصريح لـ"الترا صوت": "لقد اعتمدت وزارة التربية أسلوب الشعبوية ومغالطة الرأي العام بحصر قيادة الحوار الوطني في حدود جزء من العائلة اليسارية وادعاء تشريكها للجميع، كما أنها لم تعتمد منهجية علمية مثل منهجية هندسة إصلاح النظم التربوية"، وذلك وسط تأكيد الوزارة على اعتمادها "مقاربة تشاركية" لإعداد المشروع.

اقرأ/ي أيضًا: في محدودية التكوين في كليات الحقوق بتونس

وتجاوزًا للنقد المنهجي خاصة بعد اتخاذ الوزير لقرارات هامّة على غرار ما يتعلّق بزمن التوقيت المدرسي دون انتظار استكمال المشروع المنتظر، تتزايد المخاوف، لدى الدوائر السياسية والمدنية، من اعتماد برنامج تربوي ذي منحى مضموني إيديولوجي. ويُستذكر في هذا الجانب الإصلاح التربوي الذي قاده وزير التربية محمّد الشرفي في بداية التسعينيات، وهو إصلاح يعتبره مراقبون السبب الأساسي لانحدار مستوى التعليم في تونس بالتوازي مع تهميشه للهوية العربية-الإسلامية.

يتواصل الجدل في تونس حول الإصلاح التربوي بين التخوّفات من القولبة الإيديولوجية، والخشية من عدم إنجاز مشروع قادر على تجاوز هنات النظام الحالي

ففي كتابه "الهوية: الإسلام، العروبة، التونسة"، يقول سالم لبيض، وزير التربية الأسبق في حكومة الائتلاف الثلاثي، بأن "ادعاء أن الورقة العلمية لإصلاح الشرفي ترسخ الوعي بالانتماء الحضاري العربي-الإسلامي هو من قبيل التضليل التاريخي". ويستشهد الكاتب بما قاله مهندس المشروع نفسه الذي اعتبر أن "التربية على الروح القومية العربية الإسلامية والعيش في واقع الوطن التونسي يشكلان عاملاً من عوامل انفصام الشخصية لدى الطفل".

وفي هذا السياق، يشدّد محّدثنا مصدّق الجليدي على وجود النزعة الإيديولوجية لدى ما يسمّيه "اليسار الاستئصالي" كسبب لإقصاء الائتلاف المدني من طاولة المشروع الجاري إعداده حاليًا، مشيرًا إلى "وجود صمت مريب من التيار القومي". ويضيف، من جانب آخر، وجود سببيْن آخرين لاستفراد ثلاثي الإشراف على المشروع به وهما "الطمع في مكاسب مادية من تمويلات المنظمات الدولية مثل اليونيسيف من خلال عقود الخبرة، ووجود الضغوط الأجنبية لاستعباد إصلاح وطني سيادي".

ومن جهة أخرى، يقلّل مراقبون من فاعلية العنصر الإيديولوجي-الإقصائي على الأقل على مستوى مُخرجات المشروع الجاري خاصة في ظلّ توازنات المشهد السياسي القائم بعد الثورة وتحديدًا ما يتعلق بمشاركة حركة النهضة الإسلامية في الحكومة الحالية. وفي هذا السياق، سبق وصرّح وزير التربية الحالي حين إطلاق الحوار المجتمعي حول الإصلاح بأن دور لجنة الإشراف "تقني ويتوقف على قيادة الحوار وليس تحديد محتواه الذي ستتولاه الهيئة الوطنية للإصلاح التي ستتكون من مختلف التيارات الفكرية في تونس".

واستخلاصًا، يبقى الجدل في تونس حول إصلاح تربوي يُنظر إليه كمشروع تأسيسي في بناء الجمهورية الثانية وهو الذي يسترصد بناء الأجيال القادمة، وذلك بين التخوّفات من القولبة الإيديولوجية للمشروع الإصلاحي من جهة، والخشية من عدم إنجاز مشروع شامل قادر على تجاوز هنات النظام التعليمي الحالي بمختلف جوانبه المعرفية والهيكلية وغيرها.

يُذكر أن تونس شهدت ثلاثة مشاريع إصلاح تربوي منذ الاستقلال، كان الأول سنة 1958، فيما كان الثاني سنة 1991 والذي يُعرف أكثر بإصلاح محمد الشرفي، نسبة لوزير التربية آنذاك، فيما كان المشروع الثالث سنة 2002 والذي كان عنوانه "مدرسة الغد". وليكون الإصلاح التربوي الجاري إعداده حاليًا هو الرابع في تاريخ دولة ما بعد الاستقلال، والأوّل منذ اندلاع ثورة الحرية والكرامة.

اقرأ/ي أيضًا:

الجامعة التونسية..تاريخ من النضال والصراع

جامعات تونس.. تنتج الأزمة بدل المعرفة