28-مايو-2021

عمل مسرحي بنفس تسمية النص الأصلي "منطق الطير" للمتصوف الفارسي "فريد الدين العطّار"

 

تصدير: " يقولون لي: ما له أثر العزلة؟ 

فأقول: لا، بل إنّني أصادق الله في العزلة"

(فريد الدين العطّار ـ كتاب: منطق الطير) 


لم يجد المخرج المسرحي التونسي "نوفل عزارة" أي منفذ إلى مدارات اللغة الشعرية غير نداء الأقاصي وتسمية عمله المسرحي "منطق الطير" بنفس تسمية النص الأصلي الذي نظمه قطب المتصوفة الفارسي "فريد الدين العطّار" في القرن السادس للهجرة وشكّله في آلاف الأبيات ضمن قصّة شعرية تأمّليّة طويلة النفس وعميقة المعاني.

"منطق الطير" احتضنها ركح عتيق يليق بها وهو فضاء "المسرح البلدي" بالعاصمة تونس مساء السبت 22 ماي/ آيار 2021 وقد عرضت ضمن فعالية "أسبوع للمسرح التونسي" الذي نظمته وزارة الشؤون الثقافية مباشرة بعد الحجر الصحي العام الذي عاشته تونس مؤخرًا جرّاء تفشي فيروس كورونا وتسبب في غلق مطوّل للمؤسسات وفضاءات العروض الثقافية. 

"منطق الطير" هو نص متين انشغل به الفكر الإنساني شرقًا وغربًا باعتباره محاولة شديدة الحساسية لفهم رحلة الوجود

"منطق الطير" القادم من دوائر الهامش الأدبي والحضاري الشرقي. وهو تصنيف لم يعد متداولًا بعد أن كسر هذا الهامش كل الحواجز وتحوّل إلى مركز شامخ على أرض الثقافة الإنسانية. هو نص ملحمي مثقل بالمعاني الفلسفيّة الأساسية فهو ينبت في مرج تاريخ الثقافة الإسلامية والمشرقية كسنبلة على سفح صخرة بوادٍ سحيق، فهو نص متين انشغل به الفكر الإنساني شرقًا وغربًا باعتباره محاولة شديدة الحساسية لفهم رحلة الوجود، كما حاولت بعض المسارح الشرقية الجادة تفكيكه وتطويعه للخشبة، ومن ضمن هذه المحاولات نجد المحاولة التونسية التي أقدم عليها بكل شجاعة المخرج نوفل العزارة رفقة مسرحيين متمرّسين هم: ثريا بوغانمي وآمال العويني ومراد الدريدي وإسكندر براهم وسفيان بوعجيلة.

مخرج مسرحية "منطق الطير" نوفل العزارة

فوق ركح يلفّه السواد، يتيم المتممات والأكسسوارات ورؤية سينوغرافية أحسنت توظيف الإضاءة، يجلس "نوفل العزارة" الذي يقوم بالدور الرئيسي بالمسرحية وهو الهدهد، وسط دائرة بيضاء ترمز حسب القاموس الصوفي إلى العزلة والانخطاف إلى السماء حيث يشرع في إدارة رحلة العجب والعجائبية نحو المطلق مع الإشارات العرفانية وتشريع أبواب التأويل والتّساؤل.

تتجمع الطيور حول الهدهد مخفقة بأجنحتها، لاهية، صاخبة، مزهوّة بلذائذ الحياة، ولا تقترب من الدائرة البيضاء حيث يجلس الهدهد في سكون وخشوع استعدادًا للرحلة العظيمة وهي البحث عن الطائر الوهمي والأسطوري "السيمورغ" الذي يعيش في أعالي جبال "قاف".. يحث الهدهد مجموعة الطيور على قطع الرحلة: "يا أيتها الطيور جميعًا، لقد جئتكم وقد أمدّني الحضرة بالمعرفة، إن التحرر من القيود يعلمنا التقدم إلى الطريق فنسلكها... لقد غامرنا بالعقل والروح، عندها سنرى الشمس وسط الظل.. يا أيتها الطيور إن الكنز في القاع..".

تجسد فصول مسرحية "منطق الطير" لـ"نوفل عزارة" عمق النص الصوفي لفريد الدين العطار من خلال تصويرها لكل مراحل المكابدة من أجل السموّ إلى الأعلى

تنجذب مجموعة الطيور إلى كلام الهدهد الذي سيقود الرحلة الروحية العظيمة لملاقاة "السيمورغ" كناية عن "الحق" (الله) ومكاشفة ما سمّاه بـ"الحضرة"، وهي في حقيقة الأمر رحلة الإنسان في بحثه عن الإجابات عن الأسئلة الوجودية الحارقة والصوفية كمنهاج حياة توخاه جزء من البشرية أسوة بالأقطاب والأساطير الكبار من أمثال: الحلاج، ابن عربي، جلال الدين الرومي، عبد القادر الجيلاني، النفري، السهروردي، عمر الخيّام، أبو الحسن الشاذلي... الذين أسّسوا دروبًا معراجية خالدة يزهر على جنباتها العشق الإلهي الأبدي، وظلّت كمنافذ للإنسان يدخلها متى أراد من أجل خوض حياة روحية توصف بالصعبة إذا ما لم تتوفر النية الصادقة. يقول الهدهد للطيور: "لا يستقيم العشق مع سوء النيّة.." لكنها لا تخلو من متعة وحكمة.

تجسد فصول مسرحية "منطق الطير" لـ"نوفل عزارة" عمق النص الصوفي لفريد الدين العطار من خلال تصويرها لكل مراحل المكابدة من أجل السموّ إلى الأعلى عبر قطع الأودية السبعة: وادي الطلب، وادي العشق، وادي المعرفة، وادي الاستغناء، وادي التوحيد، وادي الحيرة، وادي الفقر والفناء. وهي المقامات السبعة المعروفة ضمن المسلك الصوفي العام التي يقطعها الإنسان بعد حيرة قصوى وجهد، وخصوصًا مكابدة الجسد المتشبث بشهوات الدنيا والمتسم بالفناء والزوال، وهو ما قام به الهدهد طيلة المسرحية حاثًا رفقته من الطيور على الوصول الى السيمورغ طارحا سؤالًا ضروريًا هو: "هل نعرف فعلًا أنفسنا؟".

اقرأ/ي أيضًا: الصوفية في تونس.. رقم بلا معنى؟

وبعد رحلة صعبة ومضنية ومليئة بالأهوال جسّدها الممثلون الطيور بكل حرفية الجسد المسرحي العالم بخبايا الخشبة والمتدرب على نص العطّار، ولمسها المتفرّج بعين قلبه ندرك مع فصل المرايا ومع تلك الدهشة التي استبدت بالطيور في نهاية المطاف، أن ما كان مطلوبًا من الحضرة وتبحث عنه الطيور السّالكة بقيادة الهدهد، إنما هو موجود بداخلها وليس خارجها، "فالله بداخلنا وليس خارجنا" وهذا ما أرادت المسرحية قوله بعد أن استبسلت في تفكيك وترويض النص الملحمي الصعب "منطق الطير" للمتصوفة فريد الدين العطار.

إن هذا العمل المسرحي طرح بين أيدينا وعقولنا وقلوبنا إشراقات فكرية حول ثنائية الجسد والروح، وإفراغ الجسد من متعه وقطع مصادر اللذائذ والتفرغ للعناية بالروح من أجل الصعود، وهذا الصعود أو ما يسميه قاموس المتصوفة بالحلول، كان يمكن أن يكون صعودًا عقليًا، فلسفيًا، رياضيًا، دون نفي للجسد وإقصائه تمامًا أمام تمجيد الروح، إذ يقول الهدهد: "ما رأى شخص قطّ نهاية الطريق"، "ترى ضياء الشمعة لكنك لا ترى النار تشتعل برأسها، وهو تقريبًا الطرح نفسه الذي نجده عند الأديب التونسي محمود المسعدي من خلال كتابه "حدّث أبو هريرة قال". فالإنسان قد يقطع رحلته إلى الله ويصل الحضرة دون أن تحدق به الأهوال. 

مشهد من مسرحية "منطق الطير" (محمد كريم عمري)

ولتعميق رؤى النص الملحمي الصوفي عند المتلقّى عمد المخرج نوفل عزارة إلى إضاءة مخصوصة متماهية مع الحوار والمشاعر الفائضة من الممثلين، فهي منخفضة وحزينة عندما تشتد أهوال الأودية السبعة ويبزغ جزع الرحلة، ومشرقة وبازغة عندما تتراءى نوافذ الأمل، ومتقلبة في لحظات الحيرة، وشعاعية متسلطة وجاهرة عندما تريد إبراز ملامح الطيور التي تتقلب مشاعرها بين الحين والحين... لقد كانت الإنارة خادمًا طيّعًا للمسرحية ومساعدًا رائعًا على تفكيك النص وإعادة تركيبه دراميًا. 

"منطق الطير" عمل مسرحي ذهني جاء بلغة شعرية عالمة ومفكرة وبتدبير كوريغرافي منحوت على أجساد الممثلين الذين بذلوا كل الحركات البنائية الممكنة خدمة للمعنى وللصورة التي أرادت المسرحية عرضها أمام الرّائي. وما تلك المواءمة بين اللغة العربية الجزلى المغمورة بالشعرية وفلسفة الجسد التي أقدم عليها فريق العمل والمخرج نوفل عزارة، إلا دليلًا على معاشرة جيدة للنص الفارسي العظيم، وهي لعمري إضافة تحسب للمسرح التونسي في مواجهته للأدب الأممي.