"لا موت بعد اليوم" جملة عتيدة وجبّارة، ذات نفس فلسفي وفكري وسياسي. جملة عاتية وحمّالة لمعاني مخيفة ومزلزلة إذا ما عمّقنا معول النظر والتأمل في ثناياها الطويلة والملتوية فقط لأنها تبحث فلسفة الوجود وماهية الخلود في مواجهة حتمية الموت.
هذه الجملة المفتاح تردّدت بحرقة ولوعة على ألسنة أبطال مسرحية "في مديح الموت" للدراماتورج والمخرج علي اليحياوي التي أعدها مركز الفنون الدرامية والرّكحية بتطاوين، هناك بأقصى الجنوب التونسي، وعرضت يوم 8 ديسمبر/ كانون الأول 2021 ضمن فعاليات الدورة 22 لأيام قرطاج المسرحية أمام جمهور غفير غصّت به قاعة سينما المونديال في ذاك المساء الشتائي البارد.
مسرحية "في مديح الموت" المستوحاة من رواية "انقطاعات الموت" للروائي البرتغالي "خوسيه ساراماغو" تعيد طرح السؤال الوجودي الذي حيّر الإنسان منذ الأزل: لماذا لا نقيم في لذة الحياة دون أن نحترق بنار الفناء بالموت؟
"لا موت بعد اليوم" قد يبدو مديحًا رقيقًا مسكونًا بالانتصار للخلود والبقاء في الحياة إلى ما لا نهاية له، لكنه يحمل في أعماقه وطياته بذور موت آخر، هو الموت الرمزي من كثرة الحياة وطول البقاء.
هذا هو الموضوع الذي تطرحه مسرحية "في مديح الموت" المستوحاة من رواية "انقطاعات الموت" للروائي البرتغالي "خوسيه ساراماغو" الحاصل على جائزة نوبل للآداب سنة 1998، والتي قدمت للقراء قصة بلد اختفى منه الموت فجأة بعد أن أعلنت كل مؤسساته الصحية عدم تسجيلها لأي حالة وفاة لتغمر الفرحة كافة الناس لإحساسهم بأن الخلود والبقاء هو مصير الجميع، لكن هذه الفرحة سرعان ما تحولت إلى كابوس، لقد تحولت الحياة إلى جحيم من الخوف والقلق بعد الاختلال الذي حصل والذي انعكس على السير الطبيعي للمجتمع.. حيث اندثرت مهن بعينها، وتحوّل الطب إلى ملهاة، واندلعت أزمة سياسية خانقة جعلت الحكومة والمؤسسة الدينية في حيرة خانقة!
لقد أراد "خوسيه ساراماغو" مدح الموت مجازًا باعتباره الوجه الخلفي للحياة، وأيضًا للتأكيد على أهمية الحياة وضرورة عيشها وتقبلها ببساطة وفن، وأن الحلم بالخلود لا يعدو أن يكون سوى خلود رمزي.
ومركز الفنون الدرامية والركحية بتطاوين الذي بعث سنة 2018، والمعتاد على الاشتغال على النصوص الروائية العالمية بواسطة كاتبه "رضا بوقديدة"، اختار رواية "انقطاعات الموت" لساراماغو، ليس تناغمًا مع تأثيرات جائحة كورونا والتصدع النفسي الذي أحدثته في صميم الإنسان فحسب، بل هو اختيار يعيد طرح السؤال الوجودي الذي حيّر الإنسان منذ الأزل: لماذا لا نقيم في لذة الحياة دون أن نحترق بنار الفناء بالموت؟ هو سؤال تناولته التراجيديات القديمة بكل أناة ودهشة، واشتغل عليه المسرح الإغريقي وتناولته من بعده كل المسارح عبر كل الحضارات.
جماعة مسرح تطاوين ومن خلال مسرحية "في مديح الموت"، دخلوا خانة مسرح الأسئلة الكبرى أو الطروحات الوجودية الإشكالية التي تستدعي المشاهد إلى أحابيل السؤال وتخريطه في دائرة البحث الفلسفي عن الأجوبة اللاّئقة.
رغم أن ثنائية الموت والحياة هي مسألة ميتافيزيقية ووجودية، فإن فريق المسرحية أخضعها للمشهدية الدرامية الواقعية، وأضفى عليها بعض الكوميديا الساخرة وبعض العجائبية استفزازًا وتنبيهًا لملكات المتلقي
فبعد أن ألقى المخرج "علي اليحياوي" سؤاله الحارق المتأتي من جملة "لا موت بعد اليوم" على الجمهور الحاضر منذ الوهلة الأولى، ووضعه في حالة من التأهب القصوى، مكّنه في مرحلة ثانية من ركح سردي مليء بالحركة، فالخشبة لا ينقضي عنها الدبيب من بداية المسرحية إلى نهايتها ضمن سينوغرافيا تقدم حيرة المجتمع بمختلف مؤسساته، من توقف الموت وحالة الإرباك والقلق الحاصلة على المستوى الاقتصادي والسياسي، وخاصة التأثير النفسي الذي أحدثه غياب الموت.
اقرأ/ي أيضًا: مسرحية ذاكرة.. مرارة الذكريات على عتبات النسيان
ورغم أن ثنائية الموت والحياة هي مسألة ميتافيزيقية ووجودية، فإن فريق المسرحية أخضعها للمشهدية الدرامية الواقعية، وأضفى عليها بعض الكوميديا الساخرة وبعض العجائبية استفزازًا وتنبيهًا لملكات المتلقي وخياله المجنّح. فالسينوغرافيا التي أنجزها مفتاح بكرية تبدو للعين متآلفة ومترابطة، وحسنة التوظيف مع مقتضيات الفكرة الأساسية التي تشتغل عليها المسرحية.
مسرحية "في مديح الموت" التي أنتجها مركز الفنون الدرامية والركحية بتطاوين، التقاط ذكي لنص كبير كتبه ساراماغو سنة 2005 وهو على شفا الحياة وقد بلغ من العمر عتيًا، وينظر بهمة الكاتب القوي للموت وهو يدنو منه ليقول في نهاية المطاف إن الموت حدث طبيعي يشبه قطف زهرة، أو تأمل للغروب، وأن لذة الحياة لا تكتمل إلا بالموت.
لقد ذهبت المسرحية في تدريب المتلقي على التخلص من مشاعر الرهبة من الموت خاصة، والتناغم معه وذلك عندما تطرقت من خلال أحد المشاهد إلى نشوء مافيا تساعد المواطنين على الموت بتهريبهم خارج حدود بلدهم بعد أن استحال الموت داخل حدود وطنهم.
أما الخلود الحقيقي الذي تشير إليه مسرحية "في مديح الموت"، ليس بمغادرة الموت لأرضنا ورحابنا بالإطالة في الحياة، وإنما بالفن والإبداع. وقد قدم هذا المشهد البديع والعميق، عميد المسرحيين التونسيين الممثل كمال العلاوي الذي حضر بشخصيته الحقيقية كرجل مسرح أفنى العمر على الخشبة مبدعًا خلاقًا. الفنان العلاوي استدل على فكرة الخلود بالفن من خلال آثار ومؤلفات علي الدوعاجي وبيرم التونسي وعبد اللطيف الحمروني.. لكنه في النهاية يوسّع دائرة السؤال بالقول "كل نفس ذائقة الموت، ولكن ليست كل نفس ذائقة الحياة".
فريق التمثيل المتكون من المسرحيين كمال العلاوي، عواطف العبيدي، ومحمد الطاهر خيرات، وحمزة بن عون، وأسامة حنائني، وعلي قيّاد، ورياض الرّحموني، وعبد السلام الحميدي، وعمر الجمل، وأنور بن عمارة، وهيفاء الكامل، كان أداؤه سخيًا على الخشبة في مستوى التمكّن من النص وفهمه وحركة الجسد. لقد كان التمرّس على هذا العمل واضحًا من خلال الأداء.
"في مديح الموت" للمخرج علي اليحياوي، هي المسرحية الثالثة التي أنتجها مركز الفنون الدرامية والرّكحية بتطاوين بعد العملين "سوق سوداء" و"راعي الصحراء"، وهي تنبئ بأن واحة من المسرح التونسي المستجد بصدد الانبعاث.
اقرأ/ي أيضًا:
أيام قرطاج المسرحية تفك العزلة الثقافية وتدق على الأخشاب 100 عرض مسرحي